كتاب ومقالات

لا غالب ولا مغلوب

محمد مفتي

في الوقت الذي تسعى فيه المملكة العربية السعودية لإحلال السلام والاستقرار في المنطقة، تسعى بعض المنابر والأقلام المأجورة في المقابل لإثارة الفتن حتى في ما يتعلق بعلاقات المملكة مع الدول الأخرى، تتفنن هذه الأطراف في عكس الحقائق وتشويهها واقتناص بوادر أي أزمة، لتتمكن من تفكيك الصفوف ونثر بذور الفرقة خاصة في ظل التوتر الذي كان يشوب علاقة المملكة بإيران خلال الفترة الماضية، ولعل استمرار الخلاف بين الدولتين كان أحد الأهداف التي سعت لها تلك الأطراف لتتمكن من عزل المملكة عن أشقائها من دول الجوار.

مثّل خبر عودة العلاقات الدبلوماسية مع إيران خبراً حزيناً لهؤلاء على الرغم من أن المباحثات بين الدولتين لم تكن مفاجئة ولا سرية، ولكن ربما رغبتهم في استمرار النزاع لفترة طويلة كمصدر لتجارة رابحة متجددة (على حساب المزيد من الفوضى الإقليمية) كان دوماً أهم بالنسبة لهم من أي استقرار، ولهذا بمجرد أن تم الإعلان عن جهود المصالحة سارع كل منهم لإخفاء صدمته والعمل فوراً على انتقاد المصالحة ووصفها بمنطق غالب ومغلوب.

الكثير من هذه الأطراف لم تجد أمامها -بعد تفكير طويل ومعمق- سوى انتقاد المصالحة من بوابة تشخيصها (كأنها مباراة شخصية) والتقليل من أهميتها، فشرعت في تصوير المصالحة على أنها نتاج مباراة حامية الوطيس وقد فازت فيها إيران على حساب المملكة، وذلك بهدف تشويه جهود الدبلوماسية السعودية على الرغم من نجاح الأخيرة الملموس في بناء علاقاتها الدولية، وقد عمدت تلك الأطراف في سبيل تحقيق ذلك إلى تسويق عدد من المبررات الساذجة والمفككة التي تستند لمزيج من الترهات والأحقاد والأكاذيب والتحليلات المضللة.

في واقع الأمر ليس هناك ما هو أسهل من تفنيد أفكار هذه الفئة الضالة المضللة، فالأصل في العلاقات الدولية هو الصلح وليس الخصام، وما طرأ على العلاقات التاريخية بين المملكة وإيران كان أمراً مرهوناً بأحداث بعينها، وبما أن عالمنا هو عالم متسارع الوتيرة وسريع التغير، ولأن السياسة هي فن الممكن، ولإدراك الدولتين بأن استمرار الخلاف ليس في صالح المنطقة، لكل هذه الأسباب قررت المملكة وإيران بدء التفاوض، وبعد الكثير من الجولات المتعثرة التي امتدت لفترات زمنية طويلة انتصر أخيراً صوت الحكمة والعقل والمنطق، وخرجت المصالحة للنور أخيراً.

المفاوضات السياسية ليست ساحة حرب أو مجالاً للصراعات الشخصية، ليس فيها غالب أو مغلوب أو منتصر ومهزوم، المفاوضات السياسية هي في جوهرها صيغة تصالحية معروضة على جميع الأطراف، وهدفها هو التوصل لأقرب تصور يقبله جميع الأطراف، وتتضمن بطبيعة الحال التأكيد على عدم تدخل أي دولة في شؤون الدولة الأخرى، وتشمل العديد من الصيغ القانونية والتنفيذية التي تضمن استقرار المنطقة على المدى البعيد، ولهذا فإن التفاوض في جوهره هو اتفاق مرن قابل للتعديل والتطوير والتغيير، يشترط فيه توافر الثقة وضرورة التزام كل طرف ببنوده، وهو إحدى الخطط السياسية التي طالما لجأت إليها كافة الدول في جميع العصور على مدار التاريخ.

المملكة العربية السعودية وخلال تاريخ طويل من السياسة الحكيمة لم تتعامل في مفاوضاتها مع أي طرف بمنطق غالب ومغلوب، فهي نظرة لا ترقى للتعامل في حقل العلاقات الدولية، والتوصل لحلول مرنة هو ما يفرق العمليات التفاوضية عن الحروب التي تحدد طرفاً منتصراً وآخر مهزوماً بشكل حاسم، وما تريده المملكة من المصالحة في الأساس يهدف لإبعاد الجميع عن التدخل في شؤونها الداخلية وعدم تعريض أمنها القومي لأي نوع من الخطر، وكلها أهداف مشروعة ومتفق عليها، لذلك فإن اعتبار عملية التفاوض بمثابة حلبة صراع هو نوع من التفكير الصبياني الذي يسعى لاستفزاز أحد الطرفين أو كليهما أملاً في أن تعود العلاقات لمربع التوتر مرة أخرى.

لا شك أن إيران هي مستفيد قوي من المصالحة كونها عانت الكثير من التحديات الداخلية بسبب إصرارها على الاستمرار في مشروعها النووي، وهو ما سيفرض عليها نوعاً من الالتزام بعدم تعريض أمن جيرانها للخطر عند توقيعها اتفاق السلام مع المملكة، فالمملكة بفضل الله لها سجل تاريخي مشرف حيث لم تكن يوماً ما عرضة للعقوبات الدولية أو الحصار الاقتصادي، بل على العكس فقد شهدت الآونة الأخيرة زيادة ملحوظة في زيارة العديد من الزعماء للمملكة لمقابلة الأمير الشاب محمد بن سلمان ولي العهد، من أجل بناء شراكات اقتصادية قوية مما يبرهن على قوة وصلابة القوة السياسية والاقتصادية للمملكة.

من المؤكد أننا لا نراهن على توقف الأبواق المعادية عن بث تحليلاتها الصبيانية بين الجماهير، فمن المؤكد أن شعب المملكة لا تنقصه الفطنة ليميز بين ما هو صحيح وما هو غير صحيح، ولعل أول عدو للمملكة هم تلك الحفنة التي باعت ضمائرها لجهات معادية للمملكة، والتي تجتهد في زرع بذور الفتنة بين المملكة وبين أشقائها من جهة، وبين حكومة المملكة وبين الشعب السعودي من جهة أخرى، فالتحريض في جوهره غدر وخيانة، وهنا يأتي دور المنابر التوعوية التي يتعين عليها تفنيد تلك الأكاذيب ودحضها لتوضيح الحقائق كما يجب أن تكون.