كتاب ومقالات

معاوية مات بالسكري (مقال مسروق)

علي بن محمد الرباعي

يروي الأديب الطبيب السوري الدكتور عبدالسلام العجيلي أن الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان من أوائل العرب إصابةً بمرض السكري، مستدلاً على ما يقوله بظواهر السمنة، وكثرة شحمه، وسعة بطنه، ونصاحة ملامحه، ويعزو تلك الصفات إلى زمن إمارته للشام في عهد عمر بن الخطاب، ويشير إلى أنه في تلك الأيام كان الناس في المدينة المنورة، وفي سائر جزيرة العرب قريبي عهد، بشظف العيش وأخلاق البادية، التي ترى الترف عيباً واتباع النفوس شهواتها خطيئة.

واستعاد العجيلي قصة قدوم معاوية إلى الحج مع عمر بن الخطاب، فكان عمر يضع أصبعه على متن معاوية ثم يرفعها عن مثل الشراك، إذا رفعها تركت أثراً واضحاً، فقال عمر: بخ بخ، نحن إذن خير الناس أن جمع لنا خير الدنيا والآخرة، فقال معاوية: يا أمير المؤمنين سأحدثك إنّا بأرض الحمامات والريف، والشهوات.

وعزا العجيلي في مقالته الطويلة المرض بالسكري إلى تغيير النمط الغذائي، وجعله سبباً لموته، فالذي يعيش في المدينة المنورة، ومكة ذلك الحين ليس لديه غالباً إلا القمح والشعير والتمر والماء وربما الزبيب، بينما حظي معاوية في الشام بما لذ وطاب من المطاعم والمشارب، والفواكه، والحلوى، ما أتخمه. وللعُجيلي -رحمه الله- شواهد على إصابة الخليفة الأموي الأول بالسكري، منها كثرة الأكل بمعدل سبع مرات في يومه، وإصابته باللقوة، وزهده في النساء، وانقطاع نسله، وظهور خراج في جنبه تعذر شفاؤه سريعاً، وإلقاء الخطبة على المنبر جالساً، وهذه استنتاجات مبنية على ما وصل إليه العلم لاحقاً، في تشخيص أثر داء السكري على البدن، علماً بأن السكري لم يُعرف إلا في العشرينات من القرن العشرين، فاكتشف الطبيب الكندي (فردريك غرانت بانتنغ) علاج (الإنسولين) عام 1921، وإن تم وصف أعراضه في (بُرديّة أبيرس)، وهي من أوائل البُرديات المصرية، خُطت عام 1550 قبل الميلاد تقريباً، وتضم مائة وعشر صفحات، وطولها عشرون متراً، وتُعنى بعلم الأعشاب، والحالات المرضية التي ينفع المصاب التداوي بها، وتوجد النسخة حالياً في مكتبة جامعة (لا يبتزغ) في ألمانيا.

لا أدري هل ذهب معاوية رضي الله عنه إلى الشام اختياراً، أم اضطراراً، أم استجابةً لنداء الواجب، إلا أن ما نجح فيه من بسط نفوذ، وتهيئة أرضية للخلافة الأموية، وما لحقه جرّاء ذلك من تعب جسدي، وربما تأنيب ضمير، وإن كان مؤمناً بعدالة قضيته شأن غيره من اللاعبين السياسيين، إلا أن كل ما سبق يُنهك البدن، ويضعف الأعضاء، ولو كان الإنسان في جنات نعيم.

قراءتي لقصة معاوية ونقلها (بتصرف) قدحت في ذهني مقاربة بين الحسي والوجداني، الظاهري الجسدي والباطني الروحي، المادي والمعنوي، فعندما تتغذى أفكار وعقليات المجتمعات على غذاء دخيل عليها، ليس من مزارعها ولا مناهلها؛ فربما يسقمها الغذاء أكثر مما يصحها، ويغثها أكثر مما يسمنها، والمقارنة والمقايسة بين غذاء معاوية المادي، الذي لا ينتمي لبيئته الأولى، وبين تغذي بعضنا قيَماً وسلوكيات وأفكاراً ليست من موروثنا الحضاري، ولا من أدبياتنا الأصيلة، قياساً يجعل من التغذيتين مظنة العِلّة، وليس كل تغيّر خلّة، والذي لا يصفّي مشاربه؛ يتسمم.

أردت باستعادتي لمقالة الدكتور العجيلي أن أضرب مثالاً بالمجتمعات التي وقعت لها نقلات دون تدرج موضوعي، ولا تنامٍ منطقي، أو أنها تحركت للأمام مادياً اضطراراً لا اختياراً، فغدت كالنبات الذي يُنقلُ من تربة إلى تربة أخرى ومن مناخ معروف إلى مناخ غير مألوف، ومن بيئة بسيطة إلى بيئة مُعقّدة، وإن كان ضرر النبات قاصرٌ عليه، بينما تضرر الآدمي ناقل ومعدٍ لغيره، جينياً وحسياً، ومعنوياً؛ وكما تسبب تغيير العادات الغذائية في إصابة أول خليفة أموي بالسكري، فكذلك الأمراض الأخلاقية المُستعصية تفتك بجذور المجتمعات البشرية بحكم غرابة الثقافة والمعطيات.

لا ريب أن المنتقل من مكان إلى مكان (شخصاً أو وعياً) (فرداً أو مجتمعاً) لا يظل هو هو؛ فالبيئة اختلفت، ونمط الحياة تغيّر، ونوعية الأكل والشرب تبدلت وأسلوب العيش انقلب رأساً على عقب، ووقت النوم والاستيقاظ تحوّل، وكل ذلك ينعكس على الصحة، وطريقة التفكير، وأسلوب العيش؛ فالشعوري والعاطفي داخلنا هو صدى للواقعي والحياتي خارجنا.

وكم من الأمم والشعوب تغيّر نمط حياتها، فانعكس التغيير سلباً على الصحة، والبِناء الأسري، والقدرات الاقتصادية، والوعي الجمعي، إذا الانتقال من فضاء إلى فضاء ومن تجربة إلى تجربة ومن فكرة إلى فكرة ومن معنى إلى معنى كل ذلك يترك ندوبه في النفس والذاكرة.

كنا نأكل سابقاً مما نزرع؛ واليوم نأكل مما نشتري، فتحوّلنا من علاقة وطيدة بالأرض إلى صلة وثيقة بالمخبز والمطعم، وكنا نرضع من أمهاتنا، حليباً وقِيماً، وبقدوم البزازات توطدت صلتنا بالقنينة، والقارورة (الجماد) ومصينا مع الحليب المستورد كثيراً من الهواء.

وكان المُربون في أزمنةٍ مضت (آباء وأمهات أشدّاء) ومعلمون فضلاء، وجيران أسوياء، وخطباء أنقياء، وكان الوعظ والتوجيه في طفولتي محدوداً والالتزام واسع، لأن المجتمع عملي، والفضاء العام منتج، والسلوكيات منضبطة، وجاءت أزمنة استلم الزمام دخلاء علينا، فأربكوا مشهدنا، ونثروا سموماً في تربتنا وغذونا بما يستثير اليمين واليسار، وكدنا نركن إليهم إلا قليلاً.

ونحن اليوم في زمن ربما من يتولى التربية وبناء الوعي فيه المعلّم (تيك توك) والمُربي (سناب شات) والواعظ (انستغرام) ولا أمان من متاعب وأوبئة وأسقام وعلل ووعكات، فنحن في وجه من الوجوه نصح، وننصح، إلا أن ذلك لا يعني السلامة من الأمراض، وإن لم نعتنِ بمغذيات الوعي، وضوابط الحمية، فالأجيال عُرضة لخطر المهددات الفكرية والسلوكية التي هي أشد فتكاً من المتاعب الصحية المترتبة على تغيّر النمط الغذائي.

وإذا كانوا قالوا (قل لي ما تأكل أقل لك من أنت) فيمكننا أن نقول (قل لي ما تسمع وما تشاهد لأقل لك كيف أنت).