كتاب ومقالات

تكرار العمرة في ميزان الشرع !

نجيب يماني

استقبل الحرم المكي عشرة ملايين معتمر ومصلٍ خلال الأيام العشرة الأولى من شهر رمضان المبارك، وسيزداد العدد في أواسطه ليبلغ ذروته خلال العشرة الأخيرة وسط استعدادات كبيرة لتقديم أفضل الخدمات وبذل الجهود المضاعفة للتيسير على المعتمرين والزائرين للبيت الحرام، خاصة بعد التسهيلات الكبيرة التي اتخذتها الدولة حفظها الله للحصول على التأشيرة للقدوم إلى الأراضي المقدسة.

إلا أن جغرافية المكان تحول دون زيادة المساحة التي تستوعب الأعداد الضخمة المتدفقة على مدار الساعة وهنا لا بد أن نقف قليلاً ونتمعّن في معنى العمرة والغرض منها.

أولاً أهل مكة لا عمرة لهم، سواء كانوا حجاجاً أو غير حجاج وفي رمضان أو غيره. فالعمرة في اللغة أن يعمر مكاناً خالياً من الناس فيكون مجيء الناس إلى هذه المنطقة هو من باب الإعمار وإكثارهم، وهذا ما دعا به إبراهيم ربه (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهِم)، فاستجاب له ربه بقوله: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً) فأصبحت مكة عامرة بوجود الحجاج فيها.

لكن أيام الحج محدودة ويعود الحجاج إلى بلادهم، فتعود الوحشة وقلة الناس. ومن هنا كانت العمرة، وحكمها مستحب للأفاقين البعيدين عن مكة ويكره فعلها في أشهر الحج، لأن الناس موجودون للحج فيجب على من أراد العمرة أن يجعلها في غير أشهر الحج لتكون مكة عامرة طيلة العام. ولذلك كانت النية بالتمتع في الحج هي الأفضل من القران والإفراد، لأن المتمتع أدخل العمرة في الحج وبذلك يكون هناك ثمة فسحة للإتيان بها في غير أشهر الحج. وبذلك لا تنقطع مكة عن كثرة الناس فيها طيلة السنة. وكان عمر في خلافته لا يشجع الناس على أداء العمرة أثناء الحج ترغيباً لهم في أدائها في غير هذا الوقت لكي لا تنقطع مكة عن كثرة الناس فيها.

كما أن أهل مكة أصلاً هم عمار البيت كونهم ساكنين فيه مقيمين طوال العام، وقد قال ابن عباس: ليس على أهل مكة عمرة وهم بخروجهم من مكة ليحرموا بالعمرة عمل غير مستحب لمخالفته عمل الرسول وصحبه الكرام، ولو كان هذا العمل صحيحاً لفعله ابن عباس وهو المقيم في مكة مع غيره من الصحابة. ولم ينقل لنا علم أنهم فعلوها ناهيك عن تكرارها، كما أن النبي لم يعتمر من مكة لا من الحديبة ولا من الجعرانة ولا من التنعيم وجميع عُمره الأربع يكون فيها قادماً إلى مكة لا خارجاً منها إلى الحل. وأكد ابن تيمية أن الإكثار من العمرة وتكرارها مكروه باتفاق السلف، واختار هذا القول ابن عثيمين فرسولنا الكريم بقي في مكة تسعة عشر يوماً لم يخرج للعمرة فيها.

ثانياً يعتقد البعض أن حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام (عمرة في رمضان تعادل حجة معي) تعني بضرورة الاعتمار في هذا الشهر وهذا الحديث قاله نبي الأمة لزوجته عائشة في حجة الوداع وكانت معذورة شرعاً ولم تتمكن من إدخال العمرة في الحج وعند انتهاء الحج رجع الناس إلى المدينة بحج وعمرة وهي بحج فقط فبكت فأمر الرسول أخاها عبدالرحمن أن يخرج بها إلى التنعيم لتعتمر وقال لها مقولته هذه تطييباً لخاطرها.

وفي رواية لابن عباس أن رَسُولُ اللَّهِ قال لامرأة مِنْ الْأَنْصَارِ مَا مَنَعَكِ أَنْ تَحُجِّي معنا قَالَتْ: لَمْ يَكُنْ لَنَا إِلا بعيران فَحَجَّ أَبو وَلَدِهَا وابنها عَلَى بعير وَتَرَكَ لَنَا بعيراً نسقي عليه الأرض قَالَ فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حجة معي. وفي رواية ثالثة أنه فات بعضَ النساءِ الحج مع النبي عليه الصلاة والسلام فلما قدم سألته عما يجزئ من تلك الحجة، قال: (اعتمري في رمضان، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة معي).

وقد أكد بعض العلماء منهم سعيد بن جبير أنه حديث خاص بالمرأة السائلة أو بالسيدة عائشة لا يجوز لغيرها، وهو حديث مضطرب مما يقدح في صحته.

لذا فإن من واجب العلماء الأفاضل توضيح ذلك للناس حفاظاً على حياتهم كما فعلوا سابقاً عندما كان المتشددون يقفون بمكرفوناتهم في منى يمنعون الناس رمي الجمرات قبل الزوال بمكبرات الصوت يصرخون أن الرجم قبل الزوال غير جائز، مع أنها مسألة خلافية، وبسبب تلك النداءات كان الحجاج يتكدسون قبل الزوال ثم تنطلق الآلاف للرجم في خضم الموت وتلاحم الأجساد. ولما وقعت المأساة تغيرت الفتوى وأجازوا الرجم قبل الزوال.

فتكرار العمرة في رمضان يؤدي إلى ازدحام المطاف ومضايقة القادمين من خارج المملكة وتشتيت الجهود مما يؤدي إلى التهلكة وهو من المنهي عنه شرعاً، فالأولى الحفاظ على النفس كما أمر الشرع.