برهان الدين باش أعيان.. رجل عاش في قلب العواصف
الاثنين / 19 / رمضان / 1444 هـ الاثنين 10 أبريل 2023 03:44
بقلم: د. عبدالله المدني abu_taymour@
عرف عن المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز آل سعود إيمانه القوي بالوحدة والأخوة العربية، واحتضانه لكل عربي استجار به من ظلم بلده وجبروت حكومته ونوائب الزمن، وليس أدل على ذلك من استعانته في بدايات توحيد الجزيرة العربية وتأسيس الدولة السعودية الثالثة بخبرة ثلة من الشخصيات العربية، كان بينهم السوري واللبناني والفلسطيني والمصري والليبي، وتعيينهم مستشارين وخبراء في ديوان جلالته بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية، بل منح بعضهم الجنسية السعودية تقديراً لخدماتهم. وقد سار أبناؤه على نهجه، فلم يجدوا غضاضة في تعيين شخصيات غير سعودية في مناصب دبلوماسية هامة، فنرى مثلاً الملك فيصل بحكم منصبه وزيراً للخارجية يزكي لبنانياً درزياً كأسعد فقيه لقيادة السفارة السعودية في كبرى عواصم العالم (واشنطن)، ويختار سورياً مسيحياً كجميل البارودي لقيادة البعثة السعودية الدائمة لدى أكبر منظمة عالمية (الأمم المتحدة).
من بين هذه الشخصيات التي احتضنتها السعودية وحفظت كرامتها ووفّرت لها الأمن والأمان، شخصيات تركت وطنها العراقي مضطرة بسبب الزلازل السياسية المدمرة أوالمآسي الدموية التي شهدها هذا القطر العربي في تاريخه المعاصر، أو جراء تعرضها للظلم والاضطهاد والانتقام.
هذه توطئة للحديث عن رجل من رجالات السياسة والحكم وعلم من أعلام القانون والسلك الدبلوماسي والنيابي والحزبي والوزاري في العراق الملكي، وشخصية وطنية قدمت لبلدها عصارة فكرها وتجربتها من خلال توليها مناصب وزارية هامة في حقبة الخمسينات، بل هو سليل أسرة شريفة لها بصمات تاريخية واقتصادية واجتماعية في تاريخ العراق الحديث بصفة عامة وتاريخ مدينة البصرة بصفة خاصة.
مواليد البصرة
حديثنا هو عن المرحوم «إبراهيم برهان الدين أحمد نوري باش أعيان»، الرجل الذي كان شاهداً على حقبة من أكثر الحقب زخماً بالتقلبات السياسية في العراق، ومعاصراً لكل التحولات والأحداث والحروب والمؤامرات التي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الأولى. وسنتعمد فيه على بعض المؤلفات التي صدرت عنه وخصوصاً كتاب أصدره ابنه الباحث السعودي أحمد برهان الدين المهتم بالتاريخ والأديان والأدبين العربي والإنجليزي (ولد بالبصرة عام 1950، وانتقل مع والده عام 1963 إلى السعودية حيث اكتسب الجنسية السعودية وعمل بعد حصوله على الدكتوراه في الرياضيات البحتة والتطبيقية والماجستير في الحاسب الآلي من بريطانيا بشركة أرامكو النفطية بالظهران في مركز الحاسب الآلي والتكنولوجيا وهندسة النفط من عام 1984 وحتى تقاعده في سنة 2010).
ولد صاحبنا في 10 يونيو 1915 بالبصرة ابناً ثالثاً لوالديه المنتميين لأسرتين من أسر العراق الكريمة المعروفة. فأبوه هو أحمد نوري آل باش أعيان العباسي الهاشمي من كبار الملاك والتجار والوجهاء بالبصرة، الذي يتصل نسبه بالعباس بن عبدالمطلب (عم الرسول صلى الله عليه وسلم) عن طريق سلسلة من 14 خليفة من خلفاء بني العباس ابتداء من الخليفة أبي جعفر المنصور وانتهاء بالخليفة العباسي الثالث والثلاثين المستضيء بالله. ووالدته هي السيدة سنية كريمة عبدالمجيد الشاوي من شيوخ عشيرة العبيد العراقية وممن يتصل نسبهم مباشرة بملوك مملكة حمير القديمة في اليمن.
عند ولادة صاحبنا أسماه والده اسماً مركباً هو «إبراهيم برهان الدين»، لكن جرت العادة على مناداته بالشق الثاني من اسمه فعرف به طيلة حياته دون الشق الأول. وكانت نشأته وسط عائلة أعطته الحب والحنان والاهتمام الكبير، لكنها كانت أيضاً صارمة في تربيته، وزراعة الخصال الحميدة فيه، فنشأ على عزة النفس واحترام الآخر والكرم وشجاعة القول وتحمّل المشاق والمنافسة الشريفة مع أقرانه والتفوق في الدراسة وعشق ممارسة الرماية وركوب الخيل وكرة القدم.
حينما بلغ الخامسة ألحقه والده بروضة إحدى مدارس الراهبات بالبصرة، ومنها انتقل لدراسة الابتدائية بمدرسة السيف الحكومية القريبة من دار أسرته. وفي سن الثانية عشرة، وافق والداه على رغبته بإتمام دراسته المتوسطة والثانوية في الكلية العامة التابعة للجامعة الأمريكية ببيروت، أسوة بشقيقه عبدالرحمن الذي درس في تلك الكلية مرحلته المتوسطة ثم انتقل لإتمام الثانوية في كلية فيكتوريا بالإسكندرية. وهكذا فارق الرجل والديه لأول مرة في حياته متجهاً إلى بيروت في أولى رحلاته بعيداً عن وطنه، فوصل بيروت برّاً في عام 1927 عبر دمشق وتدمر، والتحق بمدرسته التي زامل فيها طلبة عراقيين من أسرتي الزهير والنقيب وطلبة كويتيين مثل بدر البدر القناعي والشيخ محمد الأحمد الجابر الصباح.
الدراسة في بيروت
خلال دراسته ببيروت لوحظ على برهان الدين عزوفه عن دراسة المواد العلمية وشغفه بدراسة المواد الأدبية والإنسانية، وكان ذلك بتأثير من الأجواء السياسية التي نشأ فيها بالبصرة في فترة تميزت بتغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية بالغة الخطورة بسبب تداعيات الحرب العالمية الأولى، وما طغى لاحقاً على الساحة العربية من قضايا وطنية وقومية. كذلك بسبب ما هيأته له بيروت من فرص الاطلاع على ثقافات وأنماط جديدة من التفكير والاحتكاك. حيث تولد لديه إحساس بأن التخصص في العلوم الإنسانية هو السبيل الأمثل لخدمة وطنه وتخليصه من القيود والنهوض به. ولهذا نجده بعد تخرجه من الكلية العامة والتحاقه مباشرة بالجامعة الأمريكية يلتحق بكلية الحقوق التي أمضى بها سنة دراسية يتيمة، قرر بعدها العودة إلى العراق لمواصلة دراسة الحقوق بجامعة بغداد. يقال إن سبب انتقاله هو شعوره بأن جامعته مرتبطة بأهداف استعمارية تغريبية وبالتالي عدم صلاحيتها لشاب مثله ذي ميول وطنية وينتمي إلى أسرة ربّته على معاداة الاحتلال البريطاني لوطنه. لكن هناك تفسير آخر ربما كان أقرب إلى الصواب هو تزامن فترة دراسته في لبنان مع تعرض أسرته لسلسلة من الأزمات المالية، كغيرها من الأسر العراقية، بسبب ظروف الكساد العالمي.
تخرج من حقوق بغداد صيف 1937 وقد ازداد شعوره بهويته القومية كعربي انسجاماً مع التيار السائد آنذاك بين أبناء جيله التواقين للوحدة والاستقلال والتصدي للمخططات الصهيونية، وبدأ على الفور مزاولة مهنة المحاماة، لكنه شعر بعد فترة قصيرة بالحرج من تقاضي الأتعاب ممن كان يدافع عنهم من أصدقائه ومعارفه وأصحاب الدخول الضعيفة، فترك المحاماة قائلاً إنه تربى في كنف أسرة تعودت على العطاء لا الأخذ. وكان وقتها مستاء لعدم تمكنه من تحقيق طموحه بمتابعة دراساته العليا. بعدها استجاب برحابة صدر لتأدية الخدمة العسكرية الإلزامية كونها تنمي في المرء مزايا الرجولة والاعتماد على النفس، متجنباً اللجوء إلى استخدام مكانة عائلته الرفيعة لإعفائه من الخدمة.
السلك الدبلوماسي
في سنة 1938 التحق بالسلك الدبلوماسي، فمثّل العراق في بلاد عريقة حضارياً مثل: مصر وفلسطين وتركيا وإيران وبريطانيا، فكان أن صقلت مهنته وأسفاره وتنقلاته ولقاءاته شخصيته ووسّعت مداركه وتجاربه، ما جعله يعيد النظر في بعض الافتراضات التي بدأ بها مرحلة صباه وشبابه، ويقيّم من جديد الاستنتاجات السابقة المترتبة على تلك الافتراضات.
تزامنت الفترة الأولى من حياته المهنية ما بين عامي 1937 و1948 مع أحداث شخصية محزنة منها وفاة عدد من أفراد عائلته كوفاة والده الذي كان يمثل له سنداً وموجهاً، ومنها تعرض عائلته للمزيد من الصعوبات والأزمات المالية لأسباب داخلية وعالمية. كما شهدت الفترة ذاتها أحداثاً جساماً على الأصعدة الوطنية والعربية والعالمية. فعلى الصعيد العراقي وقعت حوادث بالغة الخطورة وغير مسبوقة مثل انقلاب الفريق بكر صدقي سنة 1937 الذي قتل فيه مؤسس الجيش العراقي الفريق جعفر العسكري، وانهيار الحكومة الانقلابية برئاسة حكمت سليمان ومقتل الملك غازي عام 1939 في ظروف غامضة، ووقوع حركة رشيد عالي الكيلاني التي دامت شهرين سنة 1941 بكل ما ترتب عليها من آثار سياسية وأمنية مدمرة خصوصاً على البصرة التي اضطرت فيها عائلته للعب دور محوري في الحفاظ على السلم الأهلي أثناء الفراغ الإداري والأمني الناجمين عن الحركة، واندلاع اضطرابات وصدامات عنيفة بين الشعب والسلطات مطلع عام 1948 بسبب توقيع حكومة صالح جبر على معاهدة «بورتسموث» مع بريطانيا، قبل أن تضطر الحكومة إلى إلغائها تحت ضغط الشارع.
أما على الصعيد العربي فقد كان الحدث الأخطر هو تسارع المخططات الصهيونية والهجرة اليهودية إلى فلسطين وما تبعهما من ضياعها على إثر حرب 1948، وهو حدث كانت له تبعات خطيرة على العراق. وعلى الصعيد العالمي كان الخطر الأبرز اندلاع الحرب العالمية الثانية واستمرارها حتى 1945 بكل آثارها المعروفة على البلاد العربية ولاسيما العراق الذي كان له نصيب وافر من تداعياتها بسبب موقعها الاستراتيجي وخيراتها.
العمل النيابي
في السنوات الست التالية (من 1948 إلى 1954) انتقل برهان الدين إلى مرحلة العمل النيابي والحزبي. حيث دخل البرلمان نائباً مستقلاً منتخباً عن البصرة، وساهم مع مجموعة من النواب في تأسيس كتلة برلمانية معارضة مطلع 1951، سرعان ما تحولت إلى حزب سياسي باسم «الجبهة الشعبية المتحدة». والحقيقة أن انخراطه في هذه التجربة البرلمانية والحزبية ساعدته على بلورة موقفه من العديد من القضايا الداخلية والخارجية السياسية المعقدة، خصوصاً أن تلك الفترة حفلت بالإضرابات السياسية والتحركات الحزبية والشعبية المطالبة بالإصلاح، وبروز الحزب الشيوعي العراقي المعادي للملكية والقوى المحافظة، ناهيك عن حدوث انقلاب يونيو في مصر ضد نظامها الملكي، الذي شجع وأغرى نفراً من صغار الضباط العراقيين على تشكيل خلايا انقلابية للاقتداء بأقرانهم المصريين. وفي هذه الفترة كان أهم حدثين شخصيين في حياته هما: وفاة شقيقه الأكبر عبدالرحمن صيف 1953 جراء إصابته بنزيف في المخ، وزواجه في خريف 1948 من ابنة عمه التي أنجبت له 5 أبناء.
1958
وكما هو معروف سقطت الملكية العراقية في 14 تموز 1958 على إثر انقلاب قاده ضباط الجيش، فكان انتقام العسكر من رموزها الكبار وحشياً ودموياً، أما الوزراء والضباط الموالون للملكية، ومنهم برهان الدين الذي تعرضت أسرته في البصرة لشتى الإهانات والمصاعب، فقد جرى اعتقالهم من منازلهم وزجهم في المعتقلات تمهيداً لمحاكمتهم من خلال محكمة الشعب الهزلية بقيادة فاضل المهداوي التي اتهمت صاحبنا بجملة من الاتهامات منها التدخل في سوريا لفصلها عن مصر، وتبديد أموال الشعب بصرفها على الأسلحة وعلى التآمر والتحريض ضد سوريا ولبنان، والعمل على دفع سياسات العراق نحو وجهة تخالف مصلحة الوطن. وفي النهاية صدر الحكم بإعدامه فتقبله برباطة جأش، ليقتاد إلى زنزانة رهيبة تعرض فيها لشتى أنواع التعذيب النفسي والبدني قبل أن يتقرر في 14 تموز 1961 العفو عنه وإطلاق سراحه مع آخرين.
المنصب الحكومي
تزايدت المخاوف حينها داخل العراق وبعض بلدان المنطقة من أخطار الشيوعية والمد الشيوعي المستند إلى دعم موسكو، ما حدا بدول مثل العراق وإيران وتركيا وباكستان، وبايعاز غربي، إلى التنسيق والتعاون وإبرام الاتفاقيات التي تطورت إلى قيام حلف بغداد. وكان برهان الدين قد لاحظ في أوائل الخمسينات تسلل زملائه خارج حزبه، فبدأ يشك في جدوى العمل الحزبي كوسيلة لمعالجة قضايا الوطن والأمة، وهو ما دفعه إلى فكرة العمل من داخل الحكومة وليس من خارجها لتحقيق مبادئه السياسية في خدمة وطنه وشعبه. لذا فعندما دعاه نوري السعيد في صيف 1954 للانضمام إلى حكومته باعتباره من العناصر الشابة ومن ذوي الكفاءة والخبرة، متجاوزاً وقوفه موقف المعارض لسياساته، وافق برهان الدين فعهد إليه بمنصب وزير دولة للشؤون العربية، تلاه منصب وزير الخارجية بالوكالة، ثم منصب وزير الخارجية بالأصالة على إثر استقال موسى الشهبندر في 1955 بسبب متاعب صحية. مثّل ذلك منعطفاً هاماً في مسيرته، وبداية لشغله حقائب وزارية في حكومات عراقية متتالية شكلها نوري السعيد وعبدالوهاب مرجان وأحمد مختار بابان. الجدير بالذكر أنه رغم احترافه حمل حقيبة الخارجية في التشكيلات الوزارية، إلا أن نوري السعيد عهد إليه بحقيبة الإرشاد والتوجيه (الإعلام) في الحكومة الأخيرة التي شكلها سنة 1958، فقبل على مضض، في وقت كانت فيه علاقات العراق بمصر الناصرية في أعقد مراحلها وكان فيه الإعلام المصري مسخراً بالكامل للنيل من العراق الملكي وسياساته والتحريض ضد رموزه ومنهم برهان الدين بسبب دوره في متابعة إجراءات إتمام وإعلان مشروع الاتحاد العربي بين المملكتين العراقية والأردنية وصياغة دستوره وبنوده سنة 1958 كرد على الوحدة المصرية ــ السورية. وبهذا يكون صاحبنا أول وزير للإعلام في تاريخ العراق، وقد احتفظ بمنصبه هذا في الحكومة التالية برئاسة أحمد مختار بابان في 19 مارس 1958.
نية التقاعد وكره العمل السياسي
بقول ابنه أحمد في كتابه أن والده قبل قيام انقلاب تموز كان قد كره العمل السياسي وكان ينوي التقاعد والخلود للراحة في إحدى المصحات الطبية بألمانيا الغربية، لكن الانقلاب الدموي أدركه.
بعد خروجه من العمل وجد أن الإقامة والعمل في العراق لمن كان مثله لم يعد آمناً أو متاحاً فقرر الانتقال إلى لبنان الذي لم يجد فيه مصدراً للرزق يؤمّن له حياة كريمة آمنة، لذا فحينما عرضت عليه السعودية أن يتولى وظيفة مستشار سياسي بوزارة خارجيتها بجدة متعاقداً أجنبياً وافق. وهكذا استقر به المقام مع أسرته هناك من أواخر عام 1963. وفي عام 1965 تم نقله لوظيفة مستشار قانوني لوزارة الدفاع السعودية بالرياض. وخلال فترة مكوثه بالسعودية كان يتابع أحداث العراق بألم وحسرة، وراحت أحزانه تتراكم برحيل عدد من أقاربه وأصدقائه في العراق دون أن يراهم أو يشارك في توديعهم، ومنهم صديقه المقرب اللواء الركن غازي الداغستاني نائب رئيس أركان الجيش الملكي الذي فجع بوفاته في منفاه بلندن سنة 1966، ثم زادت آلامه حينما رفضت السفارة العراقية بجدة تجديد جواز سفره وطلبت منه أن يجدده شخصياً في العراق، وهو ما دفعه في 1974 إلى مفاتحة المسؤولين السعوديين بمنحه جواز سفر بديلاً، فجاءت موافقة الملك فيصل على منحه وكافة أفراد أسرته الجنسية السعودية في 5 مارس 1975، ما سهّل عليه إلحاق ابنه الأوسط «علي» بكلية البترول والمعادن بالظهران، والسفر إلى الأردن لملاقاة بعض أقاربه.
وكانت أكثر اللحظات قسوة عليه في السعودية هو استشهاد الفيصل الذي أكرمه ورعاه وكان يكن له الاحترام والتقدير العظيمين لمواقفه وسياساته الداخلية والخارجية. وبعد أسبوعين من رحيل الفيصل أصيب صاحبنا بنوبة قلبية أدخلته المستشفى بالرياض، ثم عاودته نوبات عدة مشابهة حتى وفاته سنة 1975 في الأردن بعد ستة أشهر من إصابته الأولى.
من بين هذه الشخصيات التي احتضنتها السعودية وحفظت كرامتها ووفّرت لها الأمن والأمان، شخصيات تركت وطنها العراقي مضطرة بسبب الزلازل السياسية المدمرة أوالمآسي الدموية التي شهدها هذا القطر العربي في تاريخه المعاصر، أو جراء تعرضها للظلم والاضطهاد والانتقام.
هذه توطئة للحديث عن رجل من رجالات السياسة والحكم وعلم من أعلام القانون والسلك الدبلوماسي والنيابي والحزبي والوزاري في العراق الملكي، وشخصية وطنية قدمت لبلدها عصارة فكرها وتجربتها من خلال توليها مناصب وزارية هامة في حقبة الخمسينات، بل هو سليل أسرة شريفة لها بصمات تاريخية واقتصادية واجتماعية في تاريخ العراق الحديث بصفة عامة وتاريخ مدينة البصرة بصفة خاصة.
مواليد البصرة
حديثنا هو عن المرحوم «إبراهيم برهان الدين أحمد نوري باش أعيان»، الرجل الذي كان شاهداً على حقبة من أكثر الحقب زخماً بالتقلبات السياسية في العراق، ومعاصراً لكل التحولات والأحداث والحروب والمؤامرات التي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الأولى. وسنتعمد فيه على بعض المؤلفات التي صدرت عنه وخصوصاً كتاب أصدره ابنه الباحث السعودي أحمد برهان الدين المهتم بالتاريخ والأديان والأدبين العربي والإنجليزي (ولد بالبصرة عام 1950، وانتقل مع والده عام 1963 إلى السعودية حيث اكتسب الجنسية السعودية وعمل بعد حصوله على الدكتوراه في الرياضيات البحتة والتطبيقية والماجستير في الحاسب الآلي من بريطانيا بشركة أرامكو النفطية بالظهران في مركز الحاسب الآلي والتكنولوجيا وهندسة النفط من عام 1984 وحتى تقاعده في سنة 2010).
ولد صاحبنا في 10 يونيو 1915 بالبصرة ابناً ثالثاً لوالديه المنتميين لأسرتين من أسر العراق الكريمة المعروفة. فأبوه هو أحمد نوري آل باش أعيان العباسي الهاشمي من كبار الملاك والتجار والوجهاء بالبصرة، الذي يتصل نسبه بالعباس بن عبدالمطلب (عم الرسول صلى الله عليه وسلم) عن طريق سلسلة من 14 خليفة من خلفاء بني العباس ابتداء من الخليفة أبي جعفر المنصور وانتهاء بالخليفة العباسي الثالث والثلاثين المستضيء بالله. ووالدته هي السيدة سنية كريمة عبدالمجيد الشاوي من شيوخ عشيرة العبيد العراقية وممن يتصل نسبهم مباشرة بملوك مملكة حمير القديمة في اليمن.
عند ولادة صاحبنا أسماه والده اسماً مركباً هو «إبراهيم برهان الدين»، لكن جرت العادة على مناداته بالشق الثاني من اسمه فعرف به طيلة حياته دون الشق الأول. وكانت نشأته وسط عائلة أعطته الحب والحنان والاهتمام الكبير، لكنها كانت أيضاً صارمة في تربيته، وزراعة الخصال الحميدة فيه، فنشأ على عزة النفس واحترام الآخر والكرم وشجاعة القول وتحمّل المشاق والمنافسة الشريفة مع أقرانه والتفوق في الدراسة وعشق ممارسة الرماية وركوب الخيل وكرة القدم.
حينما بلغ الخامسة ألحقه والده بروضة إحدى مدارس الراهبات بالبصرة، ومنها انتقل لدراسة الابتدائية بمدرسة السيف الحكومية القريبة من دار أسرته. وفي سن الثانية عشرة، وافق والداه على رغبته بإتمام دراسته المتوسطة والثانوية في الكلية العامة التابعة للجامعة الأمريكية ببيروت، أسوة بشقيقه عبدالرحمن الذي درس في تلك الكلية مرحلته المتوسطة ثم انتقل لإتمام الثانوية في كلية فيكتوريا بالإسكندرية. وهكذا فارق الرجل والديه لأول مرة في حياته متجهاً إلى بيروت في أولى رحلاته بعيداً عن وطنه، فوصل بيروت برّاً في عام 1927 عبر دمشق وتدمر، والتحق بمدرسته التي زامل فيها طلبة عراقيين من أسرتي الزهير والنقيب وطلبة كويتيين مثل بدر البدر القناعي والشيخ محمد الأحمد الجابر الصباح.
الدراسة في بيروت
خلال دراسته ببيروت لوحظ على برهان الدين عزوفه عن دراسة المواد العلمية وشغفه بدراسة المواد الأدبية والإنسانية، وكان ذلك بتأثير من الأجواء السياسية التي نشأ فيها بالبصرة في فترة تميزت بتغيرات سياسية واجتماعية واقتصادية بالغة الخطورة بسبب تداعيات الحرب العالمية الأولى، وما طغى لاحقاً على الساحة العربية من قضايا وطنية وقومية. كذلك بسبب ما هيأته له بيروت من فرص الاطلاع على ثقافات وأنماط جديدة من التفكير والاحتكاك. حيث تولد لديه إحساس بأن التخصص في العلوم الإنسانية هو السبيل الأمثل لخدمة وطنه وتخليصه من القيود والنهوض به. ولهذا نجده بعد تخرجه من الكلية العامة والتحاقه مباشرة بالجامعة الأمريكية يلتحق بكلية الحقوق التي أمضى بها سنة دراسية يتيمة، قرر بعدها العودة إلى العراق لمواصلة دراسة الحقوق بجامعة بغداد. يقال إن سبب انتقاله هو شعوره بأن جامعته مرتبطة بأهداف استعمارية تغريبية وبالتالي عدم صلاحيتها لشاب مثله ذي ميول وطنية وينتمي إلى أسرة ربّته على معاداة الاحتلال البريطاني لوطنه. لكن هناك تفسير آخر ربما كان أقرب إلى الصواب هو تزامن فترة دراسته في لبنان مع تعرض أسرته لسلسلة من الأزمات المالية، كغيرها من الأسر العراقية، بسبب ظروف الكساد العالمي.
تخرج من حقوق بغداد صيف 1937 وقد ازداد شعوره بهويته القومية كعربي انسجاماً مع التيار السائد آنذاك بين أبناء جيله التواقين للوحدة والاستقلال والتصدي للمخططات الصهيونية، وبدأ على الفور مزاولة مهنة المحاماة، لكنه شعر بعد فترة قصيرة بالحرج من تقاضي الأتعاب ممن كان يدافع عنهم من أصدقائه ومعارفه وأصحاب الدخول الضعيفة، فترك المحاماة قائلاً إنه تربى في كنف أسرة تعودت على العطاء لا الأخذ. وكان وقتها مستاء لعدم تمكنه من تحقيق طموحه بمتابعة دراساته العليا. بعدها استجاب برحابة صدر لتأدية الخدمة العسكرية الإلزامية كونها تنمي في المرء مزايا الرجولة والاعتماد على النفس، متجنباً اللجوء إلى استخدام مكانة عائلته الرفيعة لإعفائه من الخدمة.
السلك الدبلوماسي
في سنة 1938 التحق بالسلك الدبلوماسي، فمثّل العراق في بلاد عريقة حضارياً مثل: مصر وفلسطين وتركيا وإيران وبريطانيا، فكان أن صقلت مهنته وأسفاره وتنقلاته ولقاءاته شخصيته ووسّعت مداركه وتجاربه، ما جعله يعيد النظر في بعض الافتراضات التي بدأ بها مرحلة صباه وشبابه، ويقيّم من جديد الاستنتاجات السابقة المترتبة على تلك الافتراضات.
تزامنت الفترة الأولى من حياته المهنية ما بين عامي 1937 و1948 مع أحداث شخصية محزنة منها وفاة عدد من أفراد عائلته كوفاة والده الذي كان يمثل له سنداً وموجهاً، ومنها تعرض عائلته للمزيد من الصعوبات والأزمات المالية لأسباب داخلية وعالمية. كما شهدت الفترة ذاتها أحداثاً جساماً على الأصعدة الوطنية والعربية والعالمية. فعلى الصعيد العراقي وقعت حوادث بالغة الخطورة وغير مسبوقة مثل انقلاب الفريق بكر صدقي سنة 1937 الذي قتل فيه مؤسس الجيش العراقي الفريق جعفر العسكري، وانهيار الحكومة الانقلابية برئاسة حكمت سليمان ومقتل الملك غازي عام 1939 في ظروف غامضة، ووقوع حركة رشيد عالي الكيلاني التي دامت شهرين سنة 1941 بكل ما ترتب عليها من آثار سياسية وأمنية مدمرة خصوصاً على البصرة التي اضطرت فيها عائلته للعب دور محوري في الحفاظ على السلم الأهلي أثناء الفراغ الإداري والأمني الناجمين عن الحركة، واندلاع اضطرابات وصدامات عنيفة بين الشعب والسلطات مطلع عام 1948 بسبب توقيع حكومة صالح جبر على معاهدة «بورتسموث» مع بريطانيا، قبل أن تضطر الحكومة إلى إلغائها تحت ضغط الشارع.
أما على الصعيد العربي فقد كان الحدث الأخطر هو تسارع المخططات الصهيونية والهجرة اليهودية إلى فلسطين وما تبعهما من ضياعها على إثر حرب 1948، وهو حدث كانت له تبعات خطيرة على العراق. وعلى الصعيد العالمي كان الخطر الأبرز اندلاع الحرب العالمية الثانية واستمرارها حتى 1945 بكل آثارها المعروفة على البلاد العربية ولاسيما العراق الذي كان له نصيب وافر من تداعياتها بسبب موقعها الاستراتيجي وخيراتها.
العمل النيابي
في السنوات الست التالية (من 1948 إلى 1954) انتقل برهان الدين إلى مرحلة العمل النيابي والحزبي. حيث دخل البرلمان نائباً مستقلاً منتخباً عن البصرة، وساهم مع مجموعة من النواب في تأسيس كتلة برلمانية معارضة مطلع 1951، سرعان ما تحولت إلى حزب سياسي باسم «الجبهة الشعبية المتحدة». والحقيقة أن انخراطه في هذه التجربة البرلمانية والحزبية ساعدته على بلورة موقفه من العديد من القضايا الداخلية والخارجية السياسية المعقدة، خصوصاً أن تلك الفترة حفلت بالإضرابات السياسية والتحركات الحزبية والشعبية المطالبة بالإصلاح، وبروز الحزب الشيوعي العراقي المعادي للملكية والقوى المحافظة، ناهيك عن حدوث انقلاب يونيو في مصر ضد نظامها الملكي، الذي شجع وأغرى نفراً من صغار الضباط العراقيين على تشكيل خلايا انقلابية للاقتداء بأقرانهم المصريين. وفي هذه الفترة كان أهم حدثين شخصيين في حياته هما: وفاة شقيقه الأكبر عبدالرحمن صيف 1953 جراء إصابته بنزيف في المخ، وزواجه في خريف 1948 من ابنة عمه التي أنجبت له 5 أبناء.
1958
وكما هو معروف سقطت الملكية العراقية في 14 تموز 1958 على إثر انقلاب قاده ضباط الجيش، فكان انتقام العسكر من رموزها الكبار وحشياً ودموياً، أما الوزراء والضباط الموالون للملكية، ومنهم برهان الدين الذي تعرضت أسرته في البصرة لشتى الإهانات والمصاعب، فقد جرى اعتقالهم من منازلهم وزجهم في المعتقلات تمهيداً لمحاكمتهم من خلال محكمة الشعب الهزلية بقيادة فاضل المهداوي التي اتهمت صاحبنا بجملة من الاتهامات منها التدخل في سوريا لفصلها عن مصر، وتبديد أموال الشعب بصرفها على الأسلحة وعلى التآمر والتحريض ضد سوريا ولبنان، والعمل على دفع سياسات العراق نحو وجهة تخالف مصلحة الوطن. وفي النهاية صدر الحكم بإعدامه فتقبله برباطة جأش، ليقتاد إلى زنزانة رهيبة تعرض فيها لشتى أنواع التعذيب النفسي والبدني قبل أن يتقرر في 14 تموز 1961 العفو عنه وإطلاق سراحه مع آخرين.
المنصب الحكومي
تزايدت المخاوف حينها داخل العراق وبعض بلدان المنطقة من أخطار الشيوعية والمد الشيوعي المستند إلى دعم موسكو، ما حدا بدول مثل العراق وإيران وتركيا وباكستان، وبايعاز غربي، إلى التنسيق والتعاون وإبرام الاتفاقيات التي تطورت إلى قيام حلف بغداد. وكان برهان الدين قد لاحظ في أوائل الخمسينات تسلل زملائه خارج حزبه، فبدأ يشك في جدوى العمل الحزبي كوسيلة لمعالجة قضايا الوطن والأمة، وهو ما دفعه إلى فكرة العمل من داخل الحكومة وليس من خارجها لتحقيق مبادئه السياسية في خدمة وطنه وشعبه. لذا فعندما دعاه نوري السعيد في صيف 1954 للانضمام إلى حكومته باعتباره من العناصر الشابة ومن ذوي الكفاءة والخبرة، متجاوزاً وقوفه موقف المعارض لسياساته، وافق برهان الدين فعهد إليه بمنصب وزير دولة للشؤون العربية، تلاه منصب وزير الخارجية بالوكالة، ثم منصب وزير الخارجية بالأصالة على إثر استقال موسى الشهبندر في 1955 بسبب متاعب صحية. مثّل ذلك منعطفاً هاماً في مسيرته، وبداية لشغله حقائب وزارية في حكومات عراقية متتالية شكلها نوري السعيد وعبدالوهاب مرجان وأحمد مختار بابان. الجدير بالذكر أنه رغم احترافه حمل حقيبة الخارجية في التشكيلات الوزارية، إلا أن نوري السعيد عهد إليه بحقيبة الإرشاد والتوجيه (الإعلام) في الحكومة الأخيرة التي شكلها سنة 1958، فقبل على مضض، في وقت كانت فيه علاقات العراق بمصر الناصرية في أعقد مراحلها وكان فيه الإعلام المصري مسخراً بالكامل للنيل من العراق الملكي وسياساته والتحريض ضد رموزه ومنهم برهان الدين بسبب دوره في متابعة إجراءات إتمام وإعلان مشروع الاتحاد العربي بين المملكتين العراقية والأردنية وصياغة دستوره وبنوده سنة 1958 كرد على الوحدة المصرية ــ السورية. وبهذا يكون صاحبنا أول وزير للإعلام في تاريخ العراق، وقد احتفظ بمنصبه هذا في الحكومة التالية برئاسة أحمد مختار بابان في 19 مارس 1958.
نية التقاعد وكره العمل السياسي
بقول ابنه أحمد في كتابه أن والده قبل قيام انقلاب تموز كان قد كره العمل السياسي وكان ينوي التقاعد والخلود للراحة في إحدى المصحات الطبية بألمانيا الغربية، لكن الانقلاب الدموي أدركه.
بعد خروجه من العمل وجد أن الإقامة والعمل في العراق لمن كان مثله لم يعد آمناً أو متاحاً فقرر الانتقال إلى لبنان الذي لم يجد فيه مصدراً للرزق يؤمّن له حياة كريمة آمنة، لذا فحينما عرضت عليه السعودية أن يتولى وظيفة مستشار سياسي بوزارة خارجيتها بجدة متعاقداً أجنبياً وافق. وهكذا استقر به المقام مع أسرته هناك من أواخر عام 1963. وفي عام 1965 تم نقله لوظيفة مستشار قانوني لوزارة الدفاع السعودية بالرياض. وخلال فترة مكوثه بالسعودية كان يتابع أحداث العراق بألم وحسرة، وراحت أحزانه تتراكم برحيل عدد من أقاربه وأصدقائه في العراق دون أن يراهم أو يشارك في توديعهم، ومنهم صديقه المقرب اللواء الركن غازي الداغستاني نائب رئيس أركان الجيش الملكي الذي فجع بوفاته في منفاه بلندن سنة 1966، ثم زادت آلامه حينما رفضت السفارة العراقية بجدة تجديد جواز سفره وطلبت منه أن يجدده شخصياً في العراق، وهو ما دفعه في 1974 إلى مفاتحة المسؤولين السعوديين بمنحه جواز سفر بديلاً، فجاءت موافقة الملك فيصل على منحه وكافة أفراد أسرته الجنسية السعودية في 5 مارس 1975، ما سهّل عليه إلحاق ابنه الأوسط «علي» بكلية البترول والمعادن بالظهران، والسفر إلى الأردن لملاقاة بعض أقاربه.
وكانت أكثر اللحظات قسوة عليه في السعودية هو استشهاد الفيصل الذي أكرمه ورعاه وكان يكن له الاحترام والتقدير العظيمين لمواقفه وسياساته الداخلية والخارجية. وبعد أسبوعين من رحيل الفيصل أصيب صاحبنا بنوبة قلبية أدخلته المستشفى بالرياض، ثم عاودته نوبات عدة مشابهة حتى وفاته سنة 1975 في الأردن بعد ستة أشهر من إصابته الأولى.