كتاب ومقالات

فخامة الرئيس المتهم !

طلال صالح بنان

يوم الثلاثاء الماضي تابع العالم، لأول مرة في التاريخ، إجراءات بدء أول محاكمة لرئيس أمريكي سابق، تُليت عليه أثناءها تهماً جنائية (٣٤ تهمة)، عقوبة كل واحدة منها أربع سنوات، يمكن في حال إقرارها، أو بعضها، الزج به في السجن طوال ما بقي من حياته.

بقي الرئيس السابق ترمب، الذي أصبح المتهم ترمب، رهن الاعتقال لمدة قصيرة حتى تتم إجراءات إثبات حضوره، قبل مثوله أمام القاضي. في جلسة المحكمة تَمّ إثبات خضوعه للقانون، كأي متهم، فتُليت التهم عليه واحدةً واحدة، التي أنكرها جميعاً بجملة: لست مذنباً، لكلِ واحدةٍ منها.

المهم هنا أن جميع التهم، لو أخذت بشكليات ظاهر توصيفها، لا ترقى لكونها تهماً جنائية، بل جنحاً لا تقتضي عقوبة السجن. إنجاز رئيس نيابة دائرة مانهاتن التي وقعت بها تلك المخالفات في محاولته الارتقاء بفعل المخالفات المرتكبة من مرتبة الجنح إلى مرتبة الجنايات بالجدل بأنها وإن بدأت كمخالفات يمكن توصيفها كونها جنحاً بالتلاعب في حسابات خاصة بشركات المتهم، إلا أنها تخفي نية النصب تمهيداً لاستغلالها في ارتكاب جرائم يعاقب عليها قانون ولاية نيويورك، بالذات ذلك الخاص بدائرة مانهاتن، بمدينة نيويورك.

يبقى للقضاء أن يأخذ بهذا التفسير القانوني (الجُرْمِي) الذي يجادل به رئيس النيابة، في مقابل دفاع المتهم ترمب، والفيصل يكون بإقناع هيئة المحلفين، عند انعقاد جلسات المحاكمة، بأي من وجهات النظر تلك. أول جلسة حجزت لبدء المحاكمة في شهر ديسمبر القادم، مما يشير لطول جلسات المحاكمة، ربما لما بعد موعد انتخابات الرئاسة القادمة، نوفمبر ٢٠٢٤.

ما سُرّب من جلسة تلاوة التهم على المتهم دونالد ترمب، تحذير القاضي له بعدم إحداث أي شوشرة أو أي شكلٍ من أشكال الفوضى في الجلسة، وإلا فإن القاضي سوف يخرجه من القاعة بالقوة وربما يأمر بحبسه، وتتواصل الجلسة عملها بدونه. كما أن القاضي حذّر المتهم ترمب، بأن لا يحاول التأثير على سير عمل المحكمة في الخارج، بأي تصريحات أو تهديدات للمحكمة أو النيابة العامة، يمكن أن تلحق ضرراً بسلامة القاضي ورئيس النيابة العامة أو أسرتيهما.. وقد يكون من شأنها الإضرار بالسِلْمِ العام.

كما كان متوقعاً انتهت جلسة المحاكمة دون أي مفاجآت، وخرج المتهم دونالد ترمب من المحكمة، ليستقل طائرته الخاصة لمقر إقامته في ولاية فلوريدا. لكن مساء، لم يقاوم دونالد ترمب، بوصفه مرشحاً محتملاً عن الحزب الجمهوري في انتخابات نوفمبر ٢٠٢٤، أن يخرج مخاطباً مؤيديه، وهو يكيل التهم والسباب لرئيس نيابة مانهاتن وقاضي المحكمة الموكل إليه رئاستها، وكأنه لم يأخذ بتحذير القاضي له، منذ ساعات! تصرف غير مسؤول من متهم، في أقل تقديرات عواقبها، الإضرار بموقفه في المحاكمة، وكذا تعقيد القضية ووضع محاميه في حرجٍ شديد، هذا في حالة عدم إقدام القاضي تفعيل تحذيره ضده.

يبدو أن دونالد ترمب، بعد أن أصبح متهماً ولم يعد يحمل لقب الرئيس السابق، قد قرر المضي في أسلوبه المثير للجدل، في سلوك يشبه الانتحار السياسي، غير عابئ بتبعات ذلك على مستقبله السياسي ولا مستقبل حزبه. قد يكون في تقديره: لم يبقَ له سوى استغلال مؤيديه من المحافظين المهوسين بأطروحاته العنصرية الشعبوية المتطرفة، واللعب بها للنهاية، ولسان حاله يقول: عليّ وعلى أعدائي وأصدقائي، ويهدم المعبد على الجميع.

دونالد ترمب، الذي أصبح متهماً بقضايا جنائية، من حقه أن يعامل كمذنبٍ لم تثبت إدانته بعد، لكن مستقبله السياسي ولا نقول فرصه بالفوز بانتخابات ٢٠٢٤ الرئاسية، ولا حتى الظفر بترشيح الحزب الجمهوري له بخوض تلك الانتخابات، تبتعد يوماً بعد يوم عن احتمالات الحدوث. هذا إن لم يمضِ بقية حياته خلف القضبان، أخذاً بعين الاعتبار أنه يواجه تهماً أخطر من تلك التي تُليت عليه في محكمة دائرة مانهاتن، يوم الثلاثاء الماضي، ولم تبدأ إجراءاتها بعد.