كتاب ومقالات

منظومة الحرام والحلال

أسامة يماني

منظومة الحلال والحرام خرجت عما هو منصوص عليه في محكم كتاب الله، الذي حدد الحرام تحديداً قطعاً مانعاً. قال تعالى «وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين». وقال تعالى «ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هٰذا حلال وهٰذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون». وفي البداية تدوين وكتابة الفقه لم يكن الفقهاء والمحدثون يجرؤون على التحريم فلجأوا إلى كلمات مثل مكروه ومستحب لأنهم يعلمون أن الله وحده الذي يملك الحق في التحريم والإباحة. قال تعالى «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذٰلك نفصل الآيات لقوم يعلمون». فالأصل أن التحريم بيد الله ولا يملك رسول الله حق التحريم، قال تعالى «يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم».

كما دأب الرواة والمحدثون والقاصون على تصوير الحياة الاجتماعية في العصر النبوي وما تلاه من عصور على غير حقيقتها، ويحاول بعض من المتأخرين التشكيك في ما ورد بكتاب طه حسين «حديث الأربعاء» من صور الحياة في العصر الأموي والعباسي؛ نظراً لأن المحدثين والرواة والوعاظ أرادوا أن يظهروا العصور السابقة على غير حقيقتها الإنسانية، وكتاب «حديث الأربعاء» عبارة عن مقالات أرسلها إلى مجلتي «السياسة» و«الجهاد» لتصبح كتاباً يتداوله الناس ويتخذونه مرجعاً للأدب العربي بعصوره الجاهلي والإسلامي والحديث، ويعد بحق من «أصدق الدراسات النقدية المستفيضة التي تطرقت لهذه الزاوية من زوايا الأدب العربي، فناقشت الجانب الفني لعدد من أكبر الشعراء، متناولة قصائدهم بالشرح والتحليل البياني واللفظي. وأفردت أيضاً لقضية القدماء والمحدثين مساحة كبيرة من الدراسة».

إن كثيراً من منظومة الحلال والحرام التي توصل إليها المحدثون والرواة والمفسرون في حقيقتها اجتهادات شخصية لا تلزم أحداً بها، والواقع أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد من الخلط والإخفاء بل تعدى ذلك إلى أن أصبحت هذه المنظومة قناعة راسخة في أذهان الكثير. يقول المفكر السعودي إبراهيم البليهي «الأصل إن أكثر الناس يولدون مرة واحدة فيتطبّع كل منهم بالنسق الثقافي الذي نشأ عليه وتطبّع به وتمضي بهم الحياة دون أن يفيقوا من الانتظام التلقائي في النسق الثقافي الذي تطبّعوا به فيبقون غير مدركين بأنهم نتاجات للتطبّع التلقائي الذي اختطف قابلياتهم في الطفولة».

المجتمع في مشكلة خطيرة وكبيرة لأن مواضيع التعليم ما زالت ترسّخ هذه المنظومة التي أطلقها المحدثون والرواة الأوائل وتبعهم المتأخرون بالتضييق وإخفاء الاختلاف وإظهار الأمر كأنه مجمع عليه والأمر على غير ذلك. يقول الدكتور محمد الشحرور كيف وصلنا الدين اليوم بأنه في العصر الأموي شوهوا مفهوم القضاء وشكلوا العقيدة وفي العصر العباسي بدأ يتشكل الدين الذي وصلنا اليوم. ويقول لقد تأثر هذا الفقه بالمسيحية حيث قلدوا النصارى بأن ظهر مفهوم السيرة النبوية والسنة، كما للمسيحية سيرة ذاتية لنبي الله عيسى -عليه السلام- حيث في الإنجيل قال الرب أو قال اليسوع (عيسى عليه السلام).

القرآن كما يقول الأصوليون إنه قطعي الدلالة أي حجة قاطعة مانعة، أما السنة فهي ظنية الدلالة، ورغم ذلك أصبح كثيراً من المحدثين والرواة أشد تمسكاً بها من القرآن. ويظهر ذلك جلياً من أقوالهم وأحكامهم حتى قال الأوزاعي «الكتاب (يقصد القرآن) أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب». قال الذهبي: «وأما جامع البخاري الصحيح، فأجل كتب الإسلام، وأفضلها بعد كتاب الله تعالى». يقول النووي: «أول مصنف في الصحيح المجرد، صحيح البخاري، ثم صحيح مسلم. وهما أصح الكتب بعد القرآن». في ظل هذه المفاهيم والآراء البشرية تمت صياغة منظومة الحلال والحرام الذي جاء بعضها خارجاً عن النص القرآني.

لن يستطيع المجتمع تجاوز الإغلاق الذي ينتهله أفراد المجتمع منذ نعومة أظفارهم حتى يتبرمجوا عليه ويصعب الانفكاك منه إلا من رحم ربي. وقد ذهب بعض العلماء المعاصرين مثل الشيخ صالح المغامسي إلى ضرورة أن ينشئ الله على يده مذهباً إسلامياً جديداً، لكن في الواقع نحن نحتاج إلى أكثر من ذلك، لأنه يجب أن يكون لنا في عصرنا الحالي أصولية معاصرة كما كان لفقهاء القرن الثاني والثالث الهجري أصولية أوجدوها لتتماشى مع مفاهيم ومتطلبات عصرهم. وقد أحسن الشيخ صالح المغامسي عندما قال إن الفقه الإسلامي هو صناعة بشرية.

لذا تحتاج المجتمعات إلى تنوير مؤسسي وتعليم منهجي لتدب حركة الإصلاح الفكري والخروج من البرمجة الفكرية التي يعيشها المجتمع، والخوف دائما يظل من الانتكاسة تطل على المجتمعات التي مازالت مشبعة بقناعات عفى عليها الزمن وغير صالحة لآليات وطبيعة العصر.