كتاب ومقالات

البترول.. هبة الله !

محمد الساعد

لقد وهب الله البترول للسعوديين كنهر تدفق في عمق الصحراء وكأنه جاء تعويضاً لآلاف السنين من العيش في الصحاري القاحلة والبراري المقفرة، حتى أصبحت الدولة الأولى في العالم من حيث القدرة الإنتاجية العالية والسريعة وبتكلفة منخفضة.

هذه الميزة وضعت السعوديين في نادي الكبار فوراً وبدون تردد من القوى العظمى، بل إن أول لقاء جرى بين الزعيمين اللذين خرجا منتصرين في الحرب العالمية الثانية (روزفلت وتشرشل) كان مع الملك عبدالعزيز قائد القوة الجديدة القادمة من صحاري العرب.

لقد أضحى السعوديون إثر عقود من تأمين الإنتاج المستمر للنفط، متفوقين ومسيطرين على خط الإنتاج الرئيسي للعالم، ولو قدر لهذا الخط أن يتراجع أو يتعرض لخضة بدون وجود بدائل أخرى فإن النظام الاقتصادي الدولي كله سينهار وسيعود أدراجه إلى عصر الفحم وربما إلى ما قبل ذلك.

معارك طويلة بين التنمية العالمية المستدامة وسياسة التوازن الاقتصادي وبين تأمين الطلب والإنتاج والأسعار المقبولة، خاضتها السعودية ومشت لأجلها على حبال زلقة بمهارة عالية من دون أن تنزلق أو تُتهم بعدم الكفاءة في إدارة الطاقة الأهم في تاريخ البشرية.

يبدو أن عالم ما بعد الطاقة البترولية يدفع الدول الهامشية وحديثة النعمة السياسية لقراءة المشهد بشكل مختلف، معتقدين أنه عند اختفاء النفط أو تراجعه فإن الرؤوس ستتساوى، متناسين أن هناك مقومات أخرى يمكن لها أن تعفي السعودية مِن البترول وتبقى السعودية مع ذلك إحدى الدول العشر الكبرى في اقتصاد العالم.

تعتمد المنافسة القادمة على محاولة السيطرة على أهم محركات إنتاج المال.. السياحة الدولية، خطوط الملاحة، المناطق اللوجستية، موانئ (المسافنة)، امتلاك الذهب، وتعظيم دور الصناديق السيادية واستخدامها كأموال ساخنة تعبر من اقتصاد إلى اقتصاد لتحقيق أهداف مالية وسياسية.

السعودية بقيادة الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وعت مبكراً لهذه المعادلة، واستبقت «الأعداء» الصرحاء و«الأعدقاء» المتوارين، الذين ظنوا أن فرصة الإطاحة بالسعودية أصبحت سانحة، وأن سنوات من عقدة «السعودية الكبرى» يمكن لها أن تزول.

السعوديون الذين انخرطوا لقرن تقريباً في قيادة العالم الإسلامي بنجاح، وإدارة اقتصاد الطاقة الدولية، والشراكة مع القوى العظمى في نادي الكبار، وقيادة المبادرات الإقليمية من حروب الاستقلال في الجزائر وفلسطين، مروراً بقضايا الاحتراب الداخلي في لبنان والعراق وأفغانستان وكشمير وميندناو، والتصدي للأخطار التي داهمت الفضاء العربي، لن يتخلوا أبداً عن دورهم القدري الذي دفع بها إلى واجهة الأحداث الدولية منذ مئة عام ولا يزال حتى اليوم.

السعوديون يراهنون على التنمية المستدامة، والبنية التحتية الصلبة والكفؤة المنتشرة في كافة مناطق البلاد، إضافة إلى ولاء شعبي متجذر، وخبرة وممارسة سياسية ونفس طويل تعد أهم مميزات قصر المصمك وساكنيه منذ المؤسس عبدالعزيز حتى الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، وهي صفات فطرية يمتاز بها أهل المصمك على وجه الخصوص عن غيرهم، ومهارة مكتسبة كنتيجة حتمية لدولة ملكية عمرها يزيد على 300 عام.

إن المماحكات ومحاولات عرقلة المشروع السعودي، ليست أمنيات إقليمية فقط، بل مشاريع تتبناها قوى تختفي أحياناً وتخرج للعلن أحياناً أخرى، ويمكن وصفها بأنها مشروع عميق لمحاولة القضاء على المملكة، أو على الأقل تعريضها لأخطار جسيمة يمكن معها ابتزازها.

عوارض متلازمة ظهور السعودية الكبرى التي اجتاحت طموحين قيموا أنفسهم بأكبر من حجمهم الحقيقي وبأكثر مما يستحقون، هي مرض مزمن يستوطن العالم العربي منذ الخمسينات وحتى اليوم، البعض اعتقد لوهلة أن فرصتهم حانت لاقتناص المنطقة والانفراد بها، لكن استيقاظ العملاق السعودي أربكهم وأشاع الكثير من التوجس، وأيضاً الكثير من الألم، خاصة وأن المشروع السعودي يمتلك مقومات بديلة وهائلة توازي النفط وربما أكثر منه، يمكن التطرق لبعضها فيما يلي.

أولاً: الحرمان الشريفان واقتصاديات الحج والعمرة، والتي لا يمكن لأحد منافستها أو إيجاد بدائل لها، وهي تطبيق حرفي لقوله تعالى «ومنافع لهم».

ثانياً: موقع لوجستي يتوسط الشرق والغرب، وستكون السعودية عند تفعيله أهم منصة لخطوط الطيران والملاحة ورسو واستقبال وإعادة تصدير الحاويات.

ثالثاً: شعب متعلم - أكثر من 300 ألف مبتعث على الأقل لجامعات دولية- يعمل في كافة المجالات وقادر على تغطية ما يزيد على 80% من حاجة سوق العمل المحلية.

رابعاً: مقومات آثارية وسياحية نادرة، في العلا والفاو ونجران ونيوم والقدية، وجبال الطائف والباحة وعسير، فضلاً عن شواطئ وجزر خلابة في البحر الأحمر والخليج العربي.

خامساً: توطين الصناعات، والإصرار على المحتوى المحلي العسكري والمدني.

سادساً: تصنيع نفطي وبتروكيماوي متعاظم.

سابعاً: تكنولوجيا وبنية معلوماتية متقدمة خففت التكاليف والطاقة البشرية داخل الحكومة وحولتها لدولة رشيقة.

ثامناً: صندوق سيادي يتعاظم ويتحول لذراع مالية واستثمارية طويلة، مع سياسة جريئة في اقتناص الفرص، سيكون بديلاً مباشراً للدخل البترولي.

تاسعاً: تعظيم الأثر الاقتصادي الداخلي، وإنتاج الفرص، وتحويل البلاد لورشة عمل ضخمة منتجة وعاملة.

عاشراً: سياسة صلبة تحمي المشروع السعودي ولا تسمح بعرقلته وتضعه «عقيدة سعودية» جديدة تقول: إن الاقتصاد وتعظيم مصادر الدخل أولوية وجودية لا يمكن التهاون أو التخلي عنها رضي من رضي وأبى من أبى.

السعودية فهمت جيداً ومنذ ما يزيد على عقدين أن الغرب لم يعد قادراً على تحمّل وجود دول عربية وغير عربية منتجة للطاقة ومؤثرة في المسار الدولي من خارج المنظومة الغربية، وهي في سعي دؤوب لابتكار بدائل جديدة تتحكم بها، وحينها لن ينفع الندم أو التباكي على «النفط المسكوب».