كتاب ومقالات

حروب العرب.. وعبرة هدنة عيد الميلاد

بشرى فيصل السباعي

تقول الرواية التاريخية إنه في خضم جحيم الحرب العالمية الأولى 1914 فجأة في ليلة عيد الميلاد وعلى امتداد خطوط المواجهة الدامية ودون أي تنسيق مسبق ولا استئذان من القيادات، قام الجنود من الدول الأوروبية المتحاربة بإيقاف قصف وقتل بعضهم، وبدأوا بالخروج من ثكناتهم وتبادل التحية وتشارك ما كان معهم من مؤن، وأهدوا بعضهم الأشياء الشخصية التي كانت معهم، وقاموا بالتقاط الصور مع بعضهم، وقاموا بالغناء معاً، ولعبوا مباريات كرة قدم، على الثلج، وتبادلوا عناوين بعضهم ليمكنهم التواصل بعد الحرب، ولاحقاً تركوا بعضهم يقومون بدفن موتاهم وإصلاح ثكناتهم دون القصف والقنص على بعضهم، لكن لمّا بلغ القيادات ما حصل أمروا بإيقاف ومنع تلك المبادرات تحت طائلة عقوبة الإعدام بتهمة الخيانة العظمى، لكن حتى بعد إجبار الجنود على العودة لقتل بعضهم صعب عليهم ذلك، وصاروا يتعمدون إطلاق القذائف والرصاص فوق مستوى جنود وثكنات الخصوم لتجنب إصابتهم، ومن كل الأحداث الملحمية للحرب العالمية لم يشتهر ويخلد ويصبح معروفاً للأجيال اللاحقة حدث أكثر من هذا الحدث؛ لأنه عبّر عن حقيقة موقف الإنسان العادي، وإن كان جندياً من الحرب؛ فلو تركت الشعوب لفطرتها لأرادت التعارف وتبادل المنافع والتعاون ونفرت من أي أعمال عدوانية؛ لأنها تعطل تلك المصالح المادية والمعنوية المتبادلة، لكن الزعامات مدفوعة بالأهواء النرجسية لجنون العظمة وتضخم غرور النفس وعنجهيتها تجبرهم على التحول لسفاحين يقتلون بعضهم دون أي سبب ولا مصلحة لأي أحد سوى فقط تحقيق الأطماع المادية والمعنوية للزعامات لا أكثر، والشعوب مجرد حطب لنار الحرب التي يتسلون بها، ودماؤهم وحياتهم مجرد بيادق شطرنج يلعبون بها، وهذا سبب أن البشرية عالقة بجحيم الحروب العدمية العبثية التي لا مبرر لها منذ فجر التاريخ، والأسوأ أن الحروب لا تحصل فقط بين الدول إنما داخل البلد الواحد بسبب ضعف بنية النظام السياسي، والعالم العربي لم يعانِ من الحروب الأهلية فقط في العقد الأخير إنما في القرن الماضي كله كانت هناك باستمرار حروب أهلية عدمية عبثية في العالم العربي، مما يدل على أنه لم يطرأ أدنى تطور على البنية الداخلية للبلدان التي حصلت فيها الحروب، بما يجعل من المستحيل أن يقرر أفراد القيام بأعمال عدوانية لأطماع شخصية يتم استغلالها من قبل الأطراف الخارجية؛ التي تريد استعمالهم كبيادق في لعبة شطرنج الدماء والنفوذ، فلا أحد حالياً، في أي بلد غربي، يمكن أن يخطر له القيام بشيء مماثل لما يحصل بالعالم العربي من حروب أهلية وما حصل مؤخراً بالسودان، وهذا الفارق الذي يحدثه تطور بنية وثقافة المجتمعات، والبداية بإيصال أصحاب الكفاءات العليا/ ‏التكنوقراط للمناصب بدل أصحاب الأطماع غير المؤهلين أكاديمياً واخلاقياً، وطالما لم يحصل هذا التطور سيبقى العرب عالقين بسلاسل لا تنتهي من الانقلابات والثورات والحروب العدمية العبثية التي تدمر باستمرار كل ما يتم بناؤه وتعيد البلدان قرناً للوراء وتقتل الأجيال الجديدة وتصيبها بالإعاقات والتشوهات المادية والنفسية والعقلية والأخلاقية وتهجرهم للبلاد الأجنبية، حيث يفقدون هويتهم وتفقد بلدانهم الأصلية كفاءاتهم. والمسؤولية تقع على الشعوب أن يأخذوا العبرة من هدنة عيد الميلاد، ويبادروا لرفض قتل بعضهم وتدمير بلادهم خدمة لأهواء وأطماع من لا يبالي بتحويل حياتهم الدنيوية لجحيم، وبترديهم للجحيم الأخروي عقوبة على مشاركتهم بصنع جحيم الحرب بالدنيا؛ بالصحيح قال عليه السلام: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فقتل أحدهما صاحبه، فالقاتل والمقتول في النار قيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه».