كتاب ومقالات

الأمن.. القضية رقم (1)

طلال صالح بنان

عندما يأتي الحديث عن الأمن تسقط كل نظريات الاقتصاد.. ومبادئ محاسبة التكاليف.. ودعاوى الترشيد والحد من الإنفاق، وتوقعات العائد ومحاذير الخسارة. بالنسبة للدولة، أي دولة، ليس للأمن منفعة حدية، عندها تتحقق نقطة الإشباع منه.. ودونها تتفاقم الحاجة إليه، وفوقها تنعدم الحاجة للمزيد من الأمن. أخطر تحديات الأمن، لأي دولة، يأتِي من البيئة الخارجية، وإن كان يظل -دوماً- هناك قلقٌ حقيقيٌ على أمن الدولة من البيئة الداخلية، أيضاً.

إذا ما أخذنا في عين الاعتبار الخطر الداهم على الدولة من البيئة الخارجية، فإن تكلفة الأمن (الدفاع) -في هذه الحالة- لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، من الناتج الإجمالي للدولة، رغم فداحة تكلفة فاتورة الأمن، والمبالغة في تقدير نفقاتها، إذا ما أخذنا فقط بالمعايير المادية الاقتصادية لحسابها.

في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، وهي الدولة الأعظم في العالم، تبلغ ميزانيتها الدفاعية ٣.٣ % من ناتجها الإجمالي. في بريطانيا وفرنسا أقل من ٢٪، في إسرائيل ٥.٥%، بكل ما يعنيه وضعها الإستراتيجي المتميز في المنطقة. في اليابان وألمانيا تبلغ ميزانية الدفاع ١.١%. مضاعفة ميزانية الدفاع في هذين البلدين تعني: زيادة كفاءة جيشهما لصد أي اعتداءات خارجية، دون ما حاجة لأي مساعدات خارجية. كما أن تجاوز ميزانية الدفاع لديهما عن ٣٪ قد يعيد تطلعاتهما التوسعية، ويوقظ أحلامهما الإمبراطورية.

بينما تتجاوز ميزانية الدفاع، في عديدٍ مما يطلق عليها دول العالم الثالث إلى الخانتين العشريتين، لتتجاوز بعضها حاجز العشرينات من ناتج البلاد الإجمالي! بل إن بعض هذه الدول لا تعلن عن نصيب إنفاقها على جيوشها، ضمن بنود ميزانية الدولة العامة. حتى أن بعض تلك الدول تمنح جيوشها حصانة سياسية ودستورية من المساءلة البرلمانية والرقابة الشعبية، لدرجة تدخّل جيوشها في إدارة اقتصاديات الدولة نفسها، بل وحتى احتكارها لنشاطات اقتصادية معينة، بعيداً عن آليات السوق!

كما هو الحال بالنسبة لميزانية الدفاع في كثيرٍ من دول العالم الثالث، يصعب الحصول على أرقام ذات علاقة بإنفاق الدولة على مسؤوليات الأمن الداخلي بها. في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تقترب ميزانية الدفاع ٩٠٠ مليار دولار، بينما ميزانية قوى الأمن الداخلي وإنفاذ القانون، تزيد قليلاً على ٦٠ مليار دولار. في المقابل: دولة مثل إريتريا، التي تبلغ ميزانية الدفاع المعلنة ٢٢% من ناتجها المحلي، لا يمكن حتى تقدير كم تنفق على متطلبات أمنها الداخلي.

لعلَ الفرق هنا، يأتي من الخلط بين الدفاع عن الدولة وأمن النظام القائم. الدفاع عن الدولة، قد يشمل حتى في الدول المتقدمة نفقات الأمن الداخلي، لدواعي حفظ الأمن العام ومكافحة الجريمة وصون حقوق الناس وحرياتهم، بالإضافة لحماية السلم الاجتماعي وقيم النظام السياسي، مثل حماية الديمقراطية، وطريقة الحياة التي يعيشها الناس. إلا أن الأمر يختلف في كثيرٍ من دول العالم الثالث حيث تزول الفوارق بين أمن الدولة وأمن النظام القائم. فالأولوية أحياناً، تكون للدفاع عن النظام السياسي برموزه ومؤسساته، وليس بالضرورة الدفاع عن الدولة، نفسها. بل أحياناً، يمكن التضحية بكيان الدولة، في سبيل الإبقاء على النظام القائم.

الأمن قضية محورية إستراتيجياً لأي دولة، يتوقف عليها استقرار ومصير بقاء الدولة، نفسه. لكن الدفاع عن حياض الدولة وترسيخ دعائم أمنها الداخلي، مهما بلغت تكلفته، لا يعني، بالضرورة حماية مصالح وسطوة نظام الحكم القائم، بعيداً عن غاية وجود الدولة نفسها، توكيداً لإرادة الشعب وسيادته.

في كل الأحوال: رغم المبالغة في تقدير تكلفة أمن الدولة، داخلياً وخارجياً، مقارنة بتكلفة وظائف الدولة المدنية الأخرى من تعليم وصحة وخدمات بلدية وإعانات اجتماعية، فإن قيمة الأمن، بالنسبة لأي دولة، لا تقدر بأي ثمن، مهما بلغت فداحة تكلفة فاتورة الأمن، بما يتجاوز عقلانية أية اعتبارات اقتصادية.

الأمن هو القضية المصيرية الأولى لأي دولة.