كتاب ومقالات

الكيفُ وَهْم

علي بن محمد الرباعي

لا أعرفُ (شخصاً) ترك التدخين وندم، أو تخلى عن التهور في القيادة وحزن، أو أقلع عن عادة قبيحة، فتدهورت صحته، بدءاً من ترك المنبهات، والمفتّرات، وليس انتهاءً بما يخطر في البال وما لا يخطر من المهدئات والمكيّفات والمخدرات.

وكم عرفنا وسمعنا وقرأنا وشاهدنا من مآسٍ وقصص تُدْمِي القلب؛ سببها الانحراف والانجراف وراء (حبّة، أو سيجارة، أو مسحوق، أو مطعوم، أو مشروب) وغيرها مما ظاهره الرحمة وباطنه العذاب، (ولا يُنبئكَ عن ضرر التعاطي، كمن فقد الكرامةَ والأمانا).

للإدمان دوافع نفسية واجتماعية ووجدانية، وربما يجنح الخيال بالعاجز عن التصالح مع ظروفه، ويصوّر له عالماً حالِماً، فيهرب من واقع عجز عن التعايش معه، فاراً إلى الاتجاه الخاطئ الخطر، معتقداً أن الكيف المتوهم سيمحو ما عجزت عنه ممحاة الزمن، فيما الأسوياء لا يهربون من مجابهة المصاعب والمتاعب، وإنما يخوضون غمار المواجهة مستعينين بالله، ثم بمن لديهم مفاتيح أبواب الحلول.

مع المخدرات نحن مسؤولون، ومُدّعون، وقضاة، وضحايا، ومُذْنِبون. مسؤولون لأننا نعلم أن المروجين والمهربين لهم رحلات قنص يومية، وعلينا أخذ الاحتياطات اللازمة للتصدي، ومُدّعون إذ ما من عاقل أو سويّ إلا ويتمنى إنزال أقسى العقوبات على بائعي السموم، وقضاة نُنزل بالمعتدي على أمن وسلامة وصحة وطننا أقسى عقاب بالإبادة أو المؤبد، وضحايا لاستخفاف أولادنا بنا، أو استغفالهم لنا، باستثمار طيبتنا وتسامحنا، وكذلك حين نستهين أو نتهاون بالتكامل مع مؤسسات الأمن في كسب الاستشارات، ومكافحة المخدرات بالإبلاغ والإرشاد لمواقع وبؤر الإجرام.

ونحن مُذْنِبُون، بتفريطنا في أمانة رعاية الأسرة وحمايتها، وإهمال غرس الوازع الديني في الأهل والأبناء والبنات، وعدم احترام آرائهم، وتضييق مساحة التعبير أمامهم، وسحب الثقة منهم، والإعراض والبُعد عنهم وتجاهل متاعبهم، وتسفيه بوحهم بمشاعرهم ومشكلاتهم، واستكثار الوقت عليهم، وإغفال العناية باهتماماتهم ومواهبهم، ومنها الأدب والفنّ والرياضة والرسم، وترك النصح لهم، وحرمانهم من خبرات التعامل مع الضغط النفسي والإحباط، والانشغال عن مشاركتهم سفراً أو رحلة أو نزهة أو نشاطات، وتجريم المرح، والحرمان من الحُبّ، وتدويخ العائلة بالمشاكل وعدم الاستقرار، والإسراف في حُسن الظنّ بهم بحكم أن غالبية الآباء والأمهات لا يتصورون أن أولادهم يمكن أن يقعوا في شِباك المخدرات.

ومن المُتعارف عليه، هروب البعض، من الاعتراف بالقصور، والتباطؤ في المعالجات، وتحميل المسؤولية على طرف أو جهة، والاستماتة في الدفاع عن فلذات أكبادنا، وتوظيف كافة قدراتنا لتثبيت إدانة الآخرين وتبرئة الذات.

أتصور أن الابتلاء بهذا الوباء له أسباب ومقدمات، منها ذاتي ومنها موضوعي، ومنها غيبي ما ورائي، تقول الأقدار فيها كلمتها، بسبب شماتة بمبتلى، أو إعابة صاحب هوى، أو اغتياب ذي قُربى، كما أن للجينات، والتربية، والصُحبة غير الموفقة ولا المناسبة، والخلافات الأسرية، دورها في التوريط بالإدمان.

لن ننكر ولا نتنكر أن بيننا باعة أسلحة، ولكن بائع السلاح لا يتوقّع أن المشتري لقطعة حربية سينتحر بها، بل دافعه أحياناً رجولي أو بطولي، انطلاقاً من قناعته وإيمانه بضرورة حمل السلاح، للدفاع عن الأنفس والأعراض في حال التعدي أو الصيالة، وهذا متصور وربما مبرر في أزمنة وأمكنة، وإن كنا نتحفظ عليه بيننا، كون دولتنا بأجهزتها، ورجال وسيدات أمننا البواسل فيهم الخير ومقتدرون على حفظ الأمن للجميع، من خلال النظام، وتطبيق الشرع وتجريم الاعتداء ومحاسبة الخارجين على القانون.

إلا أنّ تاجر المخدرات، ومروّج السموم، لا يفكّر كما يفكر تاجر السلاح، فلا يعنيه موت ولا انتحار متعاطٍ، ولا ارتكاب فاحشة ولا وقوع في جريمة نكراء قدر ما يعنيه جني المال وكسب المادة وتدمير الكائن الحي، وأثبتت الأيام والأحداث أن غالبية المروجين والمهربين ناقمون على أنفسهم وعلى المجتمعات بحكم ظروف سيئة مروا بها أو أزمات خانقة تعرضوا لها.

ويظل التشخيص النظري سهلاً، وتستوعبه المجالس برحابة صدر، إلا أن الخطورة تقرع أبواب الجميع عندما نتابع نشاط المافيات والعصابات التي تتفنن في غزو الشعوب من خلال ابتكار أفتك السموم ورسم خطوط الإنتاج، وتحديد مراكز ونقاط التوزيع، واحتواء شخصيات نافذة ومحصّنة يمكن من خلالها وعبرها الترويج والتسويق بأمان.

ليس من السهولة بمكان أن نحصر ترويج وتهريب المخدرات في صنع وتوفير مواد سائلة أو رخوة أو صلبة، فهناك حكومات ظل تبذل جهوداً حثيثة لدراسة أوضاع دول، ومستويات تعليم وثقافة وتديّن شعوب، والإشكالات التي يعانون منها، وتتبع الفضاء العام، ورصد القرارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لبناء عالم موازٍ مخصص للكيف الوهم يقوم على معطيات وحسابات مدروسة وإن كانت عبثية.

ولعل فكرة اختراق الشخصيات أخطر ما يعانيه الأفراد والمجتمعات، فالمناعة والحصانة الناجمة عن التديّن، والتعليم والتربية لا ترتقي عند الجميع لمستوى يؤهل للدفاع عن كينونة، ولا صيانة وجود، و حائط الصد الروحي لبعض المُستهدفين هشّ، والشخصية المدمنة غالباً مضطربة رخوة، ولا تطمح لأي منجز، ولتلك الحالات أسبابها (البالغة) والمُبالغ فيها.

الكيف وهم، كونه لا يحلّ إشكالاً، ولا يُخرج من أزمة، ولا يجمّل قبيحاً، ولا يُنقذ من ورطة، ولا يُعافي من ابتلاء، ولا يقيل من عثرة، ولا ينتشل من فشل، ولا يمحو ندوب الذاكرة المُفترسة.

والحملة الوطنية للحرب على المخدرات مفخرة، ومنطلق له ما وراءه، وواجب ديني ووطني وقومي وأخلاقي وإنساني، والمتعافي من حالة إدمان يولد من جديد، كونه نجا من هلاك محتّم كان عرضةً له لو استمر في طريق الاستهلاك الطائش، وما أبهج لحظة النجاة من فخ مأساة باستثمار المزيد من فرص الحياة!