كتاب ومقالات

آل جابر في عدن !

سام الغباري

ما بين وصولين، ومحطتين، أعوام من تقلبات أحوال الحرب في اليمن، ثم السلام، والتنمية، ودعوات حوار متجددة، لا تتوقف الألسن عن ترديدها. في الوصول الجديد، قبل أيام، هبطت طائرة سعودية، أقلت سفير خادم الحرمين الشريفين لدى اليمن: محمد آل جابر على مدرج مطار العاصمة اليمنية المؤقتة: عدن.

وفي ثلاث سيارات بيضاء، مضى الوفد السعودي وسط طرقات عدن، مستمتعين بصباح منعش، تأتي نسائمه الهادئة من واجهة ساحل البحر الأكثر سحرًا، في طريقهم إلى قصر معاشيق حيث مكتب الرئيس اليمني رشاد العليمي، ونائبه عيدروس الزبيدي.

أسند محمد آل جابر رأسه إلى نافذة السيارة الأولى، على مقعد الراكب الأيمن، يتذكر وصوله الأول إلى عدن، قبل 8 سنوات تقريبًا، كانت مهمته تبدو مستحيلة. كل الوفود الدبلوماسية التي انتقلت مع الرئيس اليمني السابق عبدربه منصور هادي إليها، عقب تداعي صنعاء أمام الغزو الحوثي، كانت تلوذ به لإنقاذ أفرادها من زحف مسلح بعتاد الجيش المنهوبة ذخائره الضخمة، فبات سوطها الدامي الذي تغزو به المدن اليمنية تباعًا !.

هناك، استعاد محمد آل جابر كل فنون العسكرية التي تلقاها طوال سني عمره، قبل ارتدائه ثوب الدبلوماسية الأبيض، مُحققًا أسرع إجلاء وتأمين لكل طالب لجوء، من اليمنيين وغيرهم. وقتئذ كانت عدن تشتعل في حرب شوارع غير متكافئة مع عدو قرر غزوها تباهيًا بمتعة مسلحة، وأموال متدفقة، وقبائل عمياء طيعة.

اليوم، يرى آل جابر بعينين سعيدتين، ما أحدثته بلاده في عدن، يقول في حديث جانبي مع وزير الصحة اليمني، إن ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان، شدد عليه في كل لقاء بإسناد ودعم اليمن دون تردد. لهذا بدت عدن مختلفة، اختفت روائح الدخان الأسود، ومشاهد العربات والجثث المحترقة، وانتقلت آلة التنمية إليها منذ سنوات، وشكل الذراع التنموي الضخم الذي أطلق عليه اسم: البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن، قوة مضافة إلى يد الحكومة اليمنية، لتحقيق أسعد اللحظات الممكنة لشعب ما يزال يقرأ كل يوم أخبار الصراعات المؤسفة في مناطق مختلفة من أراضيه.

استمر لقاء السفير محمد آل جابر مع الرئيس اليمني رشاد العليمي، ونائبه عيدروس الزبيدي، زهاء الساعة، تسلم خلالها العليمي دعوة رسمية من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لحضور القمة العربية المرتقبة في محافظة جدّة.

وفي طريقهما لافتتاح مستشفى عدن الذي موّلته السعودية عبر برنامجها التنموي، ركب الاثنان، مع وزير الصحة د. قاسم بحيبح، ومرافقيهم سيارات مختلفة، حيث بدا المشفى الأكبر مساحة في اليمن، متزينًا بأعلام يمنية وسعودية. عند لوحة الافتتاح، كان الإعلامي السعودي الشهير: مالك الروقي مبتسمًا بأناقة، وقد ظهر في زيه الوطني الرسمي مختلفًا عما ألفه المشاهدون عنه على شاشة mbc، سألته عقب عودته إلى الرياض، عن عدن. قال: إنها أكثر أمانًا من أي لحظة في حياتها، وأن مشاعر الناس الودودة نحو السعودية كانت زاهية وملحوظة.

مالك الروقي، أنشأ محتوى مختلفًا عن الأحاديث الرسمية المكرورة في الإعلام الرصين التي تكتب في مناسبات الزيارات الحكومية، التقى عددًا من الشباب، وتحدث إلى أطفال يلعبون كرة القدم، مفتشًا بين أعينهم عن ابتسامة كانت حاضرة، رغم تواري خزن شفيف خلف إشراقتها وجاذبيتها.

أضعف رنين مكالمة منتظرة في هاتفي صوته قليلًا، فسألته عن انطباعه حول تفاصيل الزيارة مع السفير السعودي آل جابر وطبيعة مهمته، قال: هذا الرجل يخطو وسط حقل ألغام، في السياسة، والحرب، والتعقيد الشديد للأزمة اليمنية برمتها. ذلك أيضًا ما حمله تصريح السفير السعودي لوكالة الصحافة الفرنسية من عدن، ركّز على تفاؤله وأمله بإذن الله في أن يجد اليمنيون مخرجًا لهذا الصراع بأسرع وقت ممكن. كانت عدسة كاميرا الوكالة مقربة بشدة من وجه محمد آل جابر، كأنها تريد مقارنة تصريحاته بما يمكن أن يشي من لغة الجسد، غير أنه كان ثابتًا في حديثه، يتحدث بإنجليزية جيدة عن اعتبار الرياض نفسها أكثر من وسيط يحاول تسهيل اتفاق بين الدولة اليمنية والحوثيين.

حين فتشت في حوارات وتصريحات السفير السعودي لدى اليمن خلال خمس سنوات سابقة، لم تحض أي وسيلة إعلامية يمنية بحوار منفرد معه، كانت اللغة والمفردات -ربما- وخصوصًا التوصيفات الإضافية التي يسبغها الـمُحرر إلى التصريح قد تودي إلى تعثر مهمة، أو غضب جهة، أو رد فعل غير إيجابي، خصوصًا أن أغلب الصحافيين اليمنيين في حالة استقطاب حاد، وليس لديهم تلك الأريحية التي قد يتمتع بها إعلام آخر، في مثل هذه الحالات فالحديث السعودي يكون عادة عبر شبكة العربية التلفازية، وقد عبّر عنه محمد آل جابر في ختام التصريح المسجل له من عدن، بقوله: إن الجانب الحكومي والحوثيين يرفضون الجلوس معًا في الوقت الراهن.

حين شاهدت هذا التصريح، راق لي، وقررت الكتابة عنه، ولأني لستُ من هواة الأرقام في المقالات، فتلك شؤون اقتصادية لا أحبذها، أشعر أكثر أني أريد الاستمتاع بالتفاصيل الصغيرة في الزيارات، والأحداث المهمة، رؤية عيون الناس، ولغتهم التي لا يفصحون عنها عادة، فهذه عدن التي استأثرت بحظ وافر من المشاريع المقدمة من البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن، بإشراف السفير محمد آل جابر.

هذا الإشراف الذي أضيف إلى مهامه يكاد يجعله السفير الذي لا يُحسد على مكانه، فبالإضافة إلى كونه دبلوماسيًا أول في بلد مُعقد بالخيارات الاجتماعية الفظة، ومثخن بالأسلحة والحدود المفتوحة، والمؤامرات الإقليمية، يتولى مهمة إنسانية، وتنموية بالغة الدقة، واهتمامًا مرتبطًا بأعلى دوائر المؤسسات والقيادة السعودية، إلى جانب أنه يكاد يكون مُلزمًا بالتعامل المرن مع الذات اليمنية التي تشهد أقسى تناقضاتها الفطرية.

على مقربة من بوابة مستشفى عدن، وقف الرئيس اليمني د. رشاد العليمي ممسكًا مقصًا حادًا بيده اليمنى إيذانًا بقص شريط المشروع الصحي الأضخم من نوعه في اليمن، وعلى جانبه يقف السفير محمد آل جابر مبتسمًا برداء سعودي رسمي، وعلى الجانب الآخر كانت شاشة التلفاز تنقل وجه وزير الصحة اليمني الذي بدا أكثر سعادة بإنجاز هذا الصرح الفائق في عهد وزارته.

طاف الجمع الرسمي، ومعهم رئيس الحكومة د. معين عبدالملك المرافق الصحية الممكنة، كانت صورة المشفى من الأعلى توحي بضخامة مساحته، ودقة صنعته، ومن الداخل أظهرت الأجهزة الطبية الحديثة، والمعدات المنتشرة حول المرضى، مدى سخاء السعودية في دعم الحياة الإنسانية باليمن.

* * *

قبل انتقال مهمة رئاسة مجلس الوزراء السعودي بسنوات قليلة إلى الأمير الشاب محمد بن سلمان، كان شقيقه الأمير خالد بن سلمان يعمل في منصب نائب وزير الدفاع، حيث استدعي من سفارة بلاده في واشنطن ليبدأ مهمة إضافية تتعلق بالملف اليمني.

يتمتع الاثنان، الأمير والسفير بخلفية عسكرية ودبلوماسية متخصصة، مكّنتهما من تسهيل عثرات كثيرة، والتخطيط لصالح نجاح وتميز وخصوصية العلاقة اليمنية السعودية، ومن ذلك مشاهد اللقاءات المتكررة بين فخامة الرئيس رشاد العليمي والأمير خالد بن سلمان الذي بات وزيرًا للدفاع. في تلك اللقاءات تتجدد علاقات البلدين وتُطرح العديد من القضايا على الطاولة، ومنها زيارة السفير محمد آل جابر إلى صنعاء، ولقائه بعدد من قيادات الحوثي، وما دار حول تكهنات السلام المرتقب في خواتيم رمضان الفائت.

الحكومة اليمنية اطلعت على رسالة السعودية وباركتها، بل دعمتها واعتبرتها جزءًا من عقيدة الحل الأمثل، وهو الحل الذي أعلن بوضوح في كل جولات المفاوضات بين الدولة اليمنية والحوثيين، وعندما قررت السعودية بدء محادثاتها الاستكشافية مع إيران برعاية الصين وإعادة فتح باب سفارتي البلدين خلال مدة شهرين، كان بيان اليمن مؤيدًا.

قبل أيام، غرد محمد علي الحوثي عن السعودية، مُستهجنًا دورها الإقليمي الرائد في المنطقة، بينما كانت وسائل إعلام صنعاء المسيطر عليها من الحوثيين تحاول إخفاء النفسية الحوثية، بتعقيداتها الكهنوتية. في السياق يبدو السفير الفرنسي لدى اليمن «جان ماري» الرجل الأكثر صراحة وتعبيرًا عما يؤمن به سفراء أوروبا حول طبيعة الصراع، جاء تصريحه الأخير قبل أيام قويًا، بإشارته الصريحة «أن تعقيدات الحل في اليمن يتحمل الحوثيون مسؤوليتها، مستبعدًا وجود معتدلين في صفوفهم». تصريحه الرائع أثار حفيظة الجناح الحوثي وخلق رد فعل بذيء كُتب على صفحات عدد من قيادات الحوثي بوسائل التواصل الاجتماعي.

كانت هذه المعارك اللفظية تدور في الفضاء، أما على الأرض، بين الناس، حيث الأنفاس تعلو، والقلوب تزدهر بحيوية، وتحديدًا من عدن، في توقيت متزامن، أطل فتى صغير من شاشة قناة العربية، غطت الأنابيب المخبرية نصف صدره، ووجهه، وقد أشير إليه بصفته مريض قلب، كان فضل الله سبحانه وتعالى، ثم جهود الإنسانية السعودية مفلحًا في تجاوزه دائرة الخطر.

كثيرون للغاية غصت بهم أروقة المشفى طلبًا للعلاج الصحيح، وكثيرون أيضًا في مرافق تعليمية وتنموية وغازية ونفطية، كانوا يتمتعون بخدمات البرنامج السعودي لتنمية وإعمار اليمن، من أمامهم مرت سيارة «محمد آل جابر» عائدة إلى مطار عدن. لوّح له الواقفون على جانب الطريق بأكفهم تحية وسلامًا، أحدهم كتب بقلم عريض رسالة بخط اليد على لوح ورقي سميك، جاء فيها: ابلغوا الملك سلمان أني أحبه.

هذه عدن، حيث الابتسامة تكبر في وجوه اليمنيين.