زوايا متخصصة

سامي محمد الصالح.. مايكل أنجلو الكويت والخليج

سامي داخل مرسمه يصنع تمثالاً عن التعليم عام 1964.

بقلم: د. عبدالله المدني abu_taymour@

إذا حق لأوروبا أن تفتخر بعظمائها في فنون النحت والرسم من أمثال دافنشي وأنجلو ومانيلو ورفائيلو، وإذا حق لمصر أن تفتخر بنحاتها الأشهر محمود مختار، والعراق بنحاتها الألمع جواد سليم، فإنه يحق للكويت أن تتباهى وسط الأمم بابنها الفنان «سامي محمد»، الذي حلق بعيداً في عالم النحت والرسم والتصميم، مؤسساً لنفسه مدرسته الخاصة، ومشاركاً نظراءه في المسابقات والمهرجانات الفنية العالمية، وحاصداً الجوائز والتكريمات، وواهباً طاقاته لخدمة قضايا التعليم والتنوير والمساواة والحرية والسلام والإنسانية، من خلال التصميم والنحت بأشكاله المختلفة، حتى صار علماً من أعلام الخليج في تخصصه. فما قصته؟ ومن أين بدأ؟ وكيف طوّر مواهبه؟ وما فلسفته في الإبداع النحتي؟ وما العوامل التي ساهمت في انطلاقه من نطاق المحلية إلى بعد إنساني أشمل وأعمق وأوسع؟ أسئلة كثيرة نحاول الإجابة عنها من خلال الإبحار في سيرته المكتنزة ومشواره الدراسي والعملي على مدى العقود الماضية.

الجائزة الأولى

ولد «محمد سامي أحمد الصالح» سنة 1943، بفريج الصوابر بمنطقة شرق من العاصمة ابناً لوالده (توفي في السعودية عام 1975)، الذي كان يعمل في خياطة وتطريز البشوت الخليجية وتزيين حواشيها بالكرمك. بدأ دراسته في كتاب خالته المطوعة «فاطمة علي شهاب»، قبل أن يلحقه والده في عام 1949 بمدرسة الصباح الابتدائية بمنطقة شرق، التي تركها بعد 4 سنوات بسبب اعتداء الطلبة الأكبر سناً عليه بالضرب، لكنه عاد إلى المدرسة بعد مدة. وفيها بدأ النحت في سن العاشرة، مستخدماً صخور البحر والطين كوسيطين، وفيها أيضاً شارك للمرة الأولى في عمل فني جماعي كان عبارة عن مجسم لتخليد ذكرى العدوان الثلاثي على مصر. عن مشاركته في هذا المشروع، قال في حوار مع صحيفة البيان (1/‏8/‏2009): «كان علينا عمل جنود ونساء وأطفال تحت إشراف أساتذة التربية الفنية في المدرسة. أنجزنا المجسم على أدق وأجمل هيئة، وكم كانت فرحتي كبيرة لحظة أذيع اسمي من (ميكرفون) المدرسة، وخرجت لأصافح راعي الحفل الشيخ عبدالله الجابر الصباح. يومها تسلمت أول جائزة في حياتي، وكانت عبارة عن قلم جاف. وخلافاً لبقية الأقلام، ظل ذاك القلم ندياً في ذاكرتي وقلبي».

المرسم الحر

وحينما انتقل إلى مدرسة الشامية المتوسطة سنة 1959، تلقى دروسه الفنية على يد معلمه المصري الخزاف المعروف شوقي الدسوقي، وبالتزامن التحق بفرقة الكشافة المدرسية وبدأ يتردد على «المرسم الحر» كرسام هاوٍ لحضور دروس فنية متقدمة كان يباشرها هناك معلمه المصري. وفي عام 1961 التحق بمدرسة كيفان الثانوية، فصادف أن تعرضت بلاده في تلك السنة لأولى أزماتها مع العراق زمن الزعيم عبدالكريم قاسم، فتحمس للدفاع عن بلده من خلال الالتحاق بالدفاع المدني.

بعد تخرجه من الثانوية عمل لأقل من سنة موظفاً مسؤولاً عن البصمات في إدارة المباحث بوزارة الداخلية، ثم طلب نقله إلى وزارة التربية، فتم تعيينه موظفاً في «المرسم الحر». وفي عام 1962 حصل على تفرغ كامل براتب شهري من وزارة التربية والتعليم الكويتية، فانضم كفنان متفرغ إلى «المرسم الحر»، الذي منحه مرسماً خاصاً به اعترافاً بمواهبه. ولم تمضِ سنتان إلا والرجل ينخرط في دروس تدريبية على النحت على يد الفنان المصري أنور السروجي. وبعد أن أثبت تفوقه في هذا المجال، حصل سنة 1966 على بعثة حكومية لدراسة فن النحت بمصر. وهكذا سافر إلى القاهرة بمفرده، تاركاً خلفه زوجته التي كان قد اقترن بها قبل عام واحد، واستطاع هناك أن يجتاز كافة امتحانات القدرات الفنية ويحصل على القبول في كلية الفنون الجميلة بدوام كامل.

الدراسة في مصر

في مصر راح يدرس النحت على يد الفنان المصري جمال السجيني، الذي عرفه على تقنيات النحت وفنونه عند «أوغست رودان»، أحد أشهر نحاتي فرنسا في القرن الـ19. وخلال السنوات الأربع التي قضاها هناك راح يرتاد المتاحف المصرية ويتأمل محتوياتها ويزور المعابد الفرعونية ويتردد على مراسم الفنانين المصريين، ويبحث ويقرأ ويتعلم دون توقف، وهو ما أكسبه علماً غزيراً وثقافة واسعة وتجربة ثرية. فلا غرو بعد ذلك لو كرر أن لمصر والمصريين أفضالاً كبيرة عليه. فقد ذكر في حواره مع صحيفة «اليوم السابع» المصرية (12/‏10/‏2017)، أنه يدين بفضل كبير للفنان التشكيلي المصري أنور السروجي، «الذي حضر إلينا في الكويت عام 59 وهو من خريجي الفنون الجميلة، وكنت وقتها أعمل في الفن الخزفي ووجهني السروجي إلى النحت وتعلمت منه النحت وصب التماثيل وتبناني فنياً، وعلى يديه وجدت ضالتي التي كنت أبحث عنها حيث تحولت إلى نحات».

العودة إلى الكويت

في عام 1970 تخرج من كليته المصرية وعاد إلى الكويت في زمن كانت الأخيرة تعيش حركة فنية قوية مواكبة لما يجري في العالم من تطورات، وهو ما شجعه على مشاركة زملائه في تأسيس الجمعية الكويتية للفنون التشكيلية لتصبح نواة لبقية الجمعيات المماثلة في منطقة الخليج العربي. وبالمثل شجعته تلك الأجواء المفعمة بالأمل والسلام على بدء العمل، فقام بعمل تمثاله الأول «الجوع»، الذي جمع فيه بين الحركة والتمرد والتوتر والغضب المشوب بالخوف من خلال امرأة بالحجم الطبيعي مع طفلها. ويعترف سامي بأنه في تلك الفترة سيطر عليه هاجس أن يميز نفسه بأعمال ذات خصوصية. ومن هنا جاءته فكرة توظيف رموز درامية في أعماله تعبر عن صراع الإنسان مع القيود التي تكبله وتمنع انطلاقه أو تنم عن ألمه وغضبه وتمرده. لاحقاً بدأ توجهاً آخر اعتمد فيه على المواءمة بين تموجات البحر وثنايا رمال الصحراء.

نصب تذكاري لعبدالله السالم

والحقيقة أن جهوده الدؤوبة المبكرة آنذاك أثمرت عن نتائج طيبة، نجد تجلياتها في مشاركته في عدد من المعارض الفنية المحلية واقتناص جوائزها، وحصوله على دبلوم «الجائزة الوطنية» في المهرجان العالمي الثالث للرسامين في «كان سور مير» بفرنسا، ناهيك عن تكليفه في العام 1971 بعمل ما زال يفتخر به ويعده وساماً على صدره. ففي تلك السنة كلفه المرحوم عبدالعزيز المساعيد صاحب ورئيس تحرير جريدة «الرأي العام»، أقدم صحف الكويت اليومية، بعمل تمثال ضخم من البرونز لأمير البلاد الشيخ عبدالله السالم الصباح كي يوضع كنصب تذكاري في ساحة عامة تخليداً لدور سموه في استقلال الكويت ونهضتها. نفذ سامي العمل بإتقان على مدى عام كامل، لكن الجماعات المتشددة المسيطرة على العمل البلدي آنذاك تصدت لعملية وضعه في ساحة عامة بحجة تحريم الإسلام للتماثيل. كان ذلك أول الإحباطات في مشواره العملي، وانتهى الأمر بوضع التمثال في مدخل المبنى الجديد لدار الرأي العام.

في العامين التاليين (1972 و1973) حدث ما أشعره بشيء من التعويض. ففيهما كلفته الكويت بتمثيلها في المؤتمر العربي للفن بدمشق سنة 1972، وكلفته جامعة الكويت في العام نفسه بتأسيس مرسم في رحابها لتدريب الطلبة الهواة على أساليب وتقنيات الرسم والنحت وإطلاعهم على تجربته الشخصية الرائدة في استخدام خشب الصاج وسيطاً في النحت. ثم جاء عام 1973 الذي منحته فيه وزارة الإعلام بعثة خارجية إلى الولايات المتحدة.

حلّ سامي أولاً بمدينة براتلبورو بولاية فيرمونت لدراسة اللغة الإنجليزية، ثم انتقل إلى «معهد ومحترف جونسون التقني للنحت» بمدينة برنستون في ولاية نيوجيرسي، الذي أكمل دراسته فيه سنة 1976. والحقيقة أن دراسته في أمريكا شكلت نقطة فاصلة في مسيرته الفنية، فبعد عودته من هناك انفتح على مغامرة الحداثة، وانطلق يعالج المواضيع الإنسانية من خلال النحت، فإذا ما أعيته الحيلة عالجها بالرسم الزيتي. وقد اعترف بذلك في حديثه إلى صحيفة «الخليج» (7/‏3/‏2016)، حينما قال: «عند عودتي إلى وطني عام 1976، وجدت أفكاراً كثيرة تتقاذفني، وكنصل الخنجر هاج بي سؤال ماذا أريد؟».

نجم لامع على المستوى العربي

في السنوات التالية من عمره بدأ نجمه يلمع على المستويات المحلية والعربية والعالمية من خلال أعماله التي أفرغ فيها هواجسه الإنسانية وهويته الخليجية والعربية، ومن خلال تواجده الدائم في المعارض والمهرجانات والمؤتمرات المحلية والأجنبية ممثلاً للكويت أو مشاركاً بصفته الشخصية، دون انقطاع عدا الأشهر الكئيبة التي عاشتها بلاده في ظل الاحتلال العراقي سنة 1990، والتي رفض خلالها مغادرة الكويت مفضلاً البقاء في الداخل إلى جانب والدته المريضة.

ومن آيات سطوع نجمه وانتشار اسمه كفنان محترف، فوزه في عام 1985 بتصميم النصب الجمالي لساحة الصفاة، الذي حصل من ورائه على جائزة التصميم الأولى، واختياره في العام 1986 عضواً في لجنة المقتنيات الفنية للديوان الأميري، وتكليفه من قبل «دار الرأي العام» في عام 1988 بعمل تمثال من البرونز للشيخ صباح السالم الصباح، وتكليفه في العام نفسه من قبل الشيخة إلطاف سالم العلي بإعداد تصاميم مبتكرة لنسخ وحياكة السدو، مدشناً بذلك تعاوناً مثمراً مع «بيت السدو». هذا علاوة على وقوع الاختيار عليه من قبل «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» مرتين: الأولى سنة 1993 لتصميم وتنفيذ مجسم الفوز بجائزة الدولة التشجيعية، والثانية في سنة 2000 لتصميم وتنفيذ مجسم الفوز بجائزة الدولة التقديرية، علماً بأنه انضم في عام 2002 إلى لجنة تحكيم جائزة الدولة التشجيعية، وفي العام نفسه انضم إلى لجنة تحكيم الأعمال الفنية لمعرض الفن التشكيلي لدول مجلس التعاون الخليجي. وكان قبل ذلك في عام 1996 قد اُختير عضواً في لجنة تحكيم بينالي الكويت الدولي، وعضواً في لجنة تحكيم الأعمال الفنية لمعرض «ملون»، الذي رعته الخطوط الجوية السعودية سنة 2001.

تمثيل خارجي مستحق

وما بين عامي 1978 و2000، مثّل سامي الكويت في العديد من الفعاليات الخارجية في باريس وتورينتو ومدريد والجزائر والقاهرة والمنامة وجدة وطهران.

ومن مشاركاته الخارجية بصفته الشخصية: المشاركة في المؤتمر العالمي لفن الإنترغرافيك في برلين الشرقية (1987)، وفي مؤتمر النحاتين العالمي في دبلن (1988)، وفي بينالي بودوفا العالمي للنحت في إيطاليا (1995)، وفي بينالي المحبة والسلام باللاذقية (1995).

عدا ذلك، شارك سامي في بينالي مجلس التعاون الخليجي الأول عام 1989، وحصل على جائزة السعفة الذهبية الأولى في النحت، وكرر هذا الإنجاز في البينالي الرابع عام 1996، وشارك الفنان المصري عمر النجدي سنة 1999 في معرض مشترك لأعمالهما تحت رعاية غاليري بوشهري بالكويت، وأقام معرضاً فنياً متجولاً خاصاً بأعماله، انطلق به من الشارقة عام 1994، وأصدر كتاباً من 350 صفحة باللغتين العربية والإنجليزية في عام 1994 تحت عنوان «فن سامي محمد»، استعرض فيه أعماله على مدى 40 عاماً، وخصص له متحف الشارقة للفن المعاصر سنة 2001 جناحاً منفرداً في رحابه لعرض أعماله، وأصدر في عام 2005 مجلداً ضخماً يحكي فيه تجربته مع فن السدو، وتم تدشين تمثال برونزي من صنعه باسم «السدرة» في بوليفارد برج دبي قبالة سوق البحر في يونيو 2009. وتم اختيار العديد من أعماله أغلفة للكتب من قبل بعض الأدباء والجهات الرسمية. إلى ما سبق هو أول فنان كويتي تباع أعماله بمزادات كرستي العالمية بدبي لأكثر من مرة، وأول فنان كويتي وعربي تُعرض ثلاث من لوحاته في متحف روتردام بهولندا، ضمن احتفالات المدينة كعاصمة للثقافة الأوروبية.

التفرغ كالهواء للفنان

في أحاديثه الصحفية ومقابلاته التلفزيونية، أخبرنا سامي أن للبيئة التي عاش فيها طفولته دوراً في عشقه لفن النحت، ففي مرحلة طفولته كان يلعب بالطين، الذي كانت بيوت الكويت تبنى منه آنذاك، ويصنع منه أشكالاً للحيوانات والطيور، وهو ما لازمه بعد التحاقه بالمدارس، حيث تعهده مدرسو التربية الفنية بالرعاية. كما شدد على أن أحد أسباب نجاحه كفنان هو مبادرة الحكومة الكويتية في عام 1962 بتفريغه أسوة بما كانت تفعله مصر مع فنانيها التشكيليين آنذاك، ولم ينسَ سامي أن يعرب عن أسفه لتوقف الكويت عن ذلك منذ التسعينات، واصفاً التفرغ بأنه كالهواء بالنسبة للفنان. غير أنه يرى أن عدم توفر عامل التفرغ، لا يعني أن يتوقف الفنان عن الإنتاج، فإن توقف فهذا دليل على أنه ليس بفنان، مذكراً بحكاية الفنان فان كوخ، الذي عاش في فقر مدقع وكان ينتظر إعانات أخيه ليتمكن من توفير الألوان، ومنوهاً بمقولة «لن تعطينا الحياة إن لم نعطِها». ويؤمن سامي أنه من الضروري أن يتواصل الفنان مع زملائه الفنانين ويتفاعل مع أعمالهم، لكنه يرى أن الأهم من ذلك كله هو أن يتواضع ويبتعد عن الغرور،«فالتواضع يعني غزارة الإنتاج، والغرور هو مقبرة الإبداع» حسب قوله. ولم يَفُتْهُ أن يؤكد أكثر من مرة، أن «النحات مظلوم في العالم العربي ولاسيما في الخليج، لأنهم لا يؤمنون بهذا الفن كوسيلة تحمل رسالة وهدفاً في الحياة».

ومما يجدر بنا ذكره، أن نشاط الرجل لم يقتصر على النحت فقط، وإنما شمل أيضاً أعمال الغرافيك والأكريلك والحفر والخزف والرسم وغيرها من أشكال الفن التي أوصل من خلالها رسالته ومشاعره ومواقفه.