كتاب ومقالات

مُلخّص لحركة النظام العالمي الراهنة..

صدقة يحيى فاضل

ها قد مر الخُمس الأول من القرن الواحد والعشرين؛ وهو القرن الذي اعتبره الاستراتيجيون الأمريكيون «القرن الأمريكي» (American Century)، الذين غمرتهم الفرحة الكبرى، التي تمثلت في انهيار عدوهم اللدود، الاتحاد السوفييتي، والمعسكر الشرقي (حلف وارسو) عام 1991م. مما مهد الطريق لبزوغ «العصر الذهبي لأمريكا»، الذي تمثل في انفرادها، حتى الآن (سنة 2023م) بقمة العالم السياسية-الاقتصادية، لتصبح القطب الوحيد لمدة ثلاثين عاماً متواصلة (1991-2023م). قبل أن يبدأ القرن الواحد والعشرون كان أولئك الاستراتيجيون قد فرغوا من «تحديد» أهم الأخطار والتحديات التي ستواجه أمريكا في القرن الـ21 هذا. فتوصلوا الى أن أبرز هذه الأخطار التي ستواجه بلادهم، والغرب بعامة، في هذا القرن، وبعد زوال «الخطر الشيوعي»، هي: الصين، والإسلام المتطرف. ولكنهم لم يتوقعوا أن تصعد الصين بهذه السرعة إلى قمة العالم، كقوة عظمى ثانية، تشارك الولايات المتحدة هذه القمة.

والمتوقع، أن تلحق روسيا بالصين هذا العام، ليتحول المنتظم العالمي إلى نظام «الأقطاب المتعددة»، وينتهي، بذلك، «العصر الذهبي لأمريكا»... الذي تجسد في انفراد أمريكا وحدها لثلاثة عقود، بقمة هذا النظام. سرعة صعود الصين ربما فاجأت الأمريكيين. فبدأوا يعتبرون المارد الصيني العدو اللدود الأول؛ اقتصادياً وتقنياً وسياسياً، رغم التصعيد الخطير المتواصل في أزمة أوكرانيا. لقد تراجعت حدة «الأخطار» الأخرى، أمام «الخطر الصيني» الماثل ضد الولايات المتحدة، وحلفائها. إنها قوة منافسة، تضارع قوة كل الغرب مجتمعاً، وتتطلع لأن يكون لها دور ملائم، وكلمة مسموعة، في العلاقات الدولية.

****

وهذه التطورات الاستراتيجية ما زالت تدفع أمريكا للمسارعة في محاولات الالتفاف على الصين، عبر حلفائها، واحتوائها أولاً، وقبل مواجهة أي طرف معادٍ آخر. فعملت على توجيه جزء كبير من قواتها، وأدواتها السياسية، لمنطقة المحيط الهادي، وبحر الصين الجنوبي. وبالنسبة للمنطقة العربية (الشرق الأوسط) فإن عليها أن تدرك الآن أن للولايات المتحدة، الحليف المزعج، منافسين أنداداً، يريدون أن يشاركوا أمريكا في «كعكة» المنطقة، بدفع مقابل نقدي وتقني، وحتى سياسي. فالصين خاصة بحاجة ماسة لنفط وغاز المنطقة، عكس روسيا، والولايات المتحدة التي طالما اهتمت بالمنطقة لثلاثة اعتبارات، تخدم المصلحة والاستراتيجية الأمريكية حصريا، وهي:

- انسياب نفط المنطقة إليها، وإلى حلفائها، بأقل تكلفة ممكنة.

- ضمان بقاء، وهيمنة إسرائيل.

- محاربة «التطرف الإسلامي».

****

أصبحت الولايات المتحدة مكتفية ذاتياً من النفط والغاز، وبالتالي لم تعد في حاجة مباشرة لهما، ولكنها تظل مُصرَّة على التحكم في انسيابه لأصدقائها وأعدائها، والاستفادة من عوائده، قدر الإمكان. وتراجع العنف الإسلاموي، المصطنع أصلا –إسرائيلياً وأمريكياً. أما إسرائيل، فقد أصبحت قوة إقليمية كبرى، بما تمتلكه من أسلحة دمار شامل، ودعم غربي مطلق، قد يضمن هيمنتها على المنطقة مؤقتاً. أما على المدى الطويل، فيصعب ضمان «طول بقاء» لهذا الكيان الدخيل، لأنه عبارة عن دولة احتلال وعدوان، بامتياز. فمع كل ما تمتلكه إسرائيل من عناصر القوة، تبقى، في أعين معظم شعوب المنطقة، وكل الشرفاء في العالم، كياناً غاصباً محتلاً، وكريهاً. وهذا ما يثير تساؤلات حول مستقبل هذا الكيان العدواني، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أنه «لن يضيع حق وراءه مطالب جاد».

****

لقد بدأ العالم يشهد تواجداً أمريكياً نشطاً في المحيطين الملاصقين للصين، وفي «بحر الصين» نفسه. ويتمنى بعض الحانقين على السياسات الأمريكية أن تغرق في ذلك المحيط. أضحت هذه المنطقة هي الأهم، بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية الحالية. يليها، في الأهمية، منطقة الخليج العربي، ثم أوروبا. ولا يتوقع -كما سبق وتمنى الاستراتيجيون الأمريكيون- أن تنشغل الصين بنفسها، داخل سورها. فقد بدأ انفتاحها على العالم، وبقوة. وكان هؤلاء يتمنون أيضاً أن يتسبب الخلل المناخي بذوبان جليد سيبيريا، وغرق روسيا. ولكن روسيا مصرة -وقادرة، بما لديها من إمكانات هائلة-على أن تصبح القطب الثالث. الحقيقة، أن هؤلاء العمالقة الثلاثة باقون، في المدى القريب، كلاعبين أساسيين قادمين على الساحتين العالمية، والإقليمية. وأن التنافس الأشد سيتم بين العملاقين الأمريكي والصيني، وبدرجة أقل -كثيرا- بين أمريكا وروسيا. هذا إن لم يتحالف القطبان، التنين والدب، ضد الكاوبوي، باعتباره العدو المشترك العتيد الأخطر لهما.

بؤرتا التوتر (العالمي) الأكبر والأخطر حالياً (أوكرانيا وتايوان) ما زالتا ساخنتين. إصرار الصين غير المسبوق على استعادة تايوان، يضع أمريكا أمام خيارين: إمّا الاستجابة لرغبة الصين، أو الدخول معها في حرب، غالباً ما ستتطور، إن نشبت، لتصبح عالمية. وإصرار روسيا على الانتصار في أوكرانيا، يضع أمريكا أمام نفس الخيارين، إمّا التراجع، والتسليم بمطالب روسيا، أو التصعيد لحرب عالمية. الأمر الذي يجعل التحالف الصيني-الروسي، ضد أمريكا، احتمالاً وارداً، وبقوة، ويجعل احتمال دمار الأقطاب الثلاثة، والعالم، أقرب من أي وقت مضى. لقد أمسى الهم الأكبر والأخطر للعالم ليس التنمية، والنمو الشامل.. بل الخشية من تقارع هؤلاء العمالقة، قريباً، بأسلحة الدمار الهائل.