كتاب ومقالات

خالد الفيصل.. الحب والجغرافيا في رجل

محمد الساعد

كان قدر الفيصل أن تذوب جغرافية البلاد السعودية في شخصه ببشرها وتراثها وأدبها وشعرها وغنائها وأجوائها المختلفة، فهو الأمير النجدي المولود في مكة المكرمة في حارة تحمل تفاصيل وشخصية مكة بكل عبقها، وهو الأمير الطفل الذي تربى في أحضان الأحساء بنخيلها وعيونها وتمرها الفريد فتطاولت شخصيته كنخلة عربية وهامت نفسه بعذوق النخل، وهو الشاب الذي ترعرع في جنبات الرياض وشرب سياستها وحكمها من مصادرها حيث الأعمام الملوك، والأمراء الكبار المملوئين حكمة وصبراً، وهو أمير عسير، المنطقة البكر التي وصلها شاباً وأميراً عليها، وغادرها وهي تشكو فراقه، عسير التي كانت أجمل من وصفها فقال «والسحاب يطاردك بين الشجر خالق الزين ابدعك»، وغنى لها:

يا طيور أبها تغنّي واصدحي

حادي الأشواق موعود الجواب

ردّدي صوت المحبّه والوفا

مع خريرٍ من جداولها العِذاب

أربعون عاماً من القصائد والغناء وتمدين الإمارة الناشئة، تحوّلت معه إلى مسرح للغناء ومرسم للألوان، وقصيدة مغناة لا تتوقف.

وهو ابن الطائف الفاتنة، حيث أمسيات «الصيفية الملكية» في معشي وقروى و«شهار» التي أنشد فيها قائلاً:

انا شاقني بالحيل منظر حَماَم شهار

صلاة العصر يوم انحدر بأسفل الوادي..

لحظني شبكني ثم قفّى وانا محتار

دفعني غرامي له على غير معتادي..

تطاير حمام الشوق والقلب مني طار

تلاعب جناحه بالهوى لعب بفوادي..

أنا امّا حصلي يا سعد يمهم مسيار

تراهم سبب ذبحي إلَى جاك نشَّادي

أما مكة المكرمة التي عاد إليها أميراً لأقدس الأقداس، وشهد فيها أهم عمارة سعودية مرت على تاريخها ولا تزال تكتمل لليوم في عهد الملك سلمان، فكانت مهوى فؤاده وأجمل مستقراته وبنك خبراته الإدارية.

الفيصل ليس أميراً عادياً ولا إدارياً يمكن تجاوز تجربته هكذا، فقد ولد قائداً بالفطرة، عاش تفاصيل بلاده السعودية الثالثة الناشئة حينها، الناضجة، شهد منها الفيصل لليوم ثمانين عاماً أو تزيد قليلاً.

فكان جزءاً مهماً من إدارتها البارعة للناس وتنميتهم وتحقيق أحلامهم والاهتمام بهمومهم وحاجاتهم في منطقتي عسير ومكة المكرمة.

كيف يمكن تلخيص جغرافية السعودية في خالد الفيصل، هو أمر غاية في الصعوبة لكنها تفاصيل واضحة وشفافة تراها في تقاسيم مكة المكرمة والرياض، والأحساء، وعسير، والطائف.

كلها أماكن رصدت تحولات الفيصل الإنسانية ونضج تجربته الأدبية والشعرية، لتكشف لنا عن شخصيتين في رجل: الأمير الإداري الناجح، والأمير الفنان الشاعر المبدع أيضاً، ومع أنهما ميزتان يصعب على أي أحد أن يتفوق فيهما بنفس الدرجة، إلا أنهما يُحملان صاحبها أثقالاً وهموماً مختلفة، شكلا في نهاية الأمر هذه الشخصية المتفردة التي يصعب على التاريخ تجاوزها.

سيبقى خالد الفيصل المهموم بالإبداع حارس اللغة العربية الأمين، فهو كما طوع معشوقته اللغة لتحمل معانيه وأشواقه وإبداعه الفريد، حمل همها ودافع عن حياضها، وعمل لذلك طوال حياته فأنشأ المؤسسات ودعم الجامعات ودعا لتمكينها في كل مناحي الحياة.

قصيدة الفيصل التي لاتزال تتردد في نفوسنا نسمعها من شبابيك البيوت وعلى شفاه الصبايا منذ كنا صغاراً إلى اليوم وهي على مسارح بلادنا، هي «قصيدة مطيرة» تسيل بين جنبات القلوب والأنفس، تقيم فيها ولا تغادرها، حملت في داخلها السحاب والضبي، والشجر، والحب، والقلوب.

أما الجغرافيا فسنجدها في معظم قصائده، تتوسد عيون الفيصل المحبة لبلادها من تفاصيل عسير بجبالها ووديانها، إلى الساحل الغربي، وانتهاء بالطائف ودهشته وفرادته وأجوائه الساحرة.

لقد كان وما زال خالد الفيصل أيقونة القصيدة الشعرية السعودية التي تملكها وتملكته، تجربة متنوعة فرض عليها أسلوبه وهيمنت مفردته عليها فأنتجت صورها الشعرية الخالدة، ولذلك شاركتنا تفاصل حياتنا ولا تزال فكانت دائماً الأقرب لسهرنا وليلنا وأحبابنا.