كتاب ومقالات

الذكاء الاصطناعي (روبوتات الحرمين الشريفين مثالاً)

نجيب يماني

في مسيرة الإنسان المعاصر اتّسم سعيه نحو إبداع اختراعات جديدة متّسقًا مع حاجته الماسة لها؛ في سبيل تيسير سبل الحياة، وبحثًا عن جودتها، ليكون ملخص ذلك منظورًا في المثل الإنجليزي الدارج «الحاجة أمّ الاختراع -Necessity is the mother of invention»، وتبعًا لذلك نعمت الإنسانية، منذ القرن الثالث عشر، وحتى يومنا هذا، بمخترعات أسهمت بشكل كبير في تغيير نمط الحياة، وتسريع وتيرة الإنتاج.

ومع انتشار العلم وتطوّر العقل البشري بشكل مذهل، تسارعت وتيرة إبداع المخترعات الحديثة، بشكل ألغى مظاهر الدّهشة التي كانت تزامن كلّ مخترع حديث يظهر في الساحة، وصار الأمر «اعتياديًا»، لا يثير دهشة، أو تعجبًا؛ بل إنّ أغلب الدول اليوم؛ وعلى اختلاف مستوياتها المعيشية باتت منخرطة في منظومة «الذكاء الاصطناعي»، بما يجعل من هذه الحالة عنوانًا عريضًا لعصرنا الذي نعيشه فيه اليوم.

ومع تسليمي المطلق بحتمية مواكبة التطور العالمي، والاستفادة القصوى من مخرجات التقنية الحديثة، إلا أنني أرى ضرورة أن يتقيّد ذلك بمنطلقات الحاجة والضرورة، وليس من باب الترف والعبث الذي لا طائل منه، فأي معنى لأن يهدر المخترع وقته وجهده الذهني، وموارده المادية في إنتاج آلة تؤدّي عملاً يمكن أن يقوم به أدنى البشر ذكاء، وأقلهم نباهة؛ بل الأعجب من ذلك أن يجد منتجه هذا سوقًا رائجًا، وإقبالًا من البعض، بما يشكّل علامة تعجّب كبرى، حول جدوى التعاطي مع مثل هذا المخترع الآلي الذي لا يضيف جديدًا لمنظومة الإنتاج، ولا يؤدي عملًا عسيرًا على البشر.

فمثلًا؛ ما جدوى أن يستغل «ربوت» أُنفق عليه من المال والطاقة الذهنية في لعب دور نادل في مطعم ليقدم الوجبات للزبائن، وهي وظيفة لا تحتاج إلى ذهن وقّاد، ولا إلى ذكاء خارق لأدائها، بما يجعل من تسخير هذا «الربوت» المسكين، في مثل هذه الوظيفة ضربًا من «تبليد واستغباء» الذكاء الاصطناعي، واستغلاله في سياق لا يخرج عن المعابثة التي تنسف مفهوم «الاحتياج» بوصفه المحرّك الأوّل لعملية الاختراع والابتكار، والأمثلة بعدُ كثيرة.

ومن المؤسف أنّ هذا الواقع الذي أشير إليه، حاضر لدينا، ففي الوقت الذي تمضي فيه مسيرة المملكة مع الذّكاء الاصطناعي إلى آفاق رحبة باستخدامه للدخول بقوّة في عالم الفضاء، والمشاركة المذهلة في الرحلة الأخيرة وكذلك باستخدامه في المجال الطبي، على نحو ما نشاهد ونلمس في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بتوظيف لهذه التقنية في عمليات معقّدة، ووظائف تساعد كثيرًا في مجالها، نجد في المقابل استخدامًا لا يخرج عن إطار المعابثة والهدر المالي،

أتساءل عن الجدوى من جلب «ربوت» قد يكلف ميزانية الدولة أموالاً ليوزّع قوارير زمزم على زوّار بيت الله الحرام؟، أو يرشّ معطّرات الجوّ على الطائفين والرّكع السجود، أو يقف عند باب متحف الحرمين ليلقي بالتحية على الزائرين بوجه جامد، لا حياة فيه؟،

كلّها وظائف يمكن أن يشغلها عامل لا حظ له من المؤهّلات الأكاديمية في أدنى مراتبها، إذ لا حاجة عصيّة تتطلبها مثل هذه الوظيفة، بل إنه حين يشغلها الإنسان يتفوق فيها على الآلة (الربوت) بطلاقة الوجه، وحسن العطاء، ورجاء المثوبة للخادم والمخدوم على حدٍّ سواء، وهو أجر يفوت على «الربوت» تحصيله، وثواب يضيع عليه للأسف.

وفوق ذلك كلّه؛ فإنّ استغلال هذه «الربوتات» في الحرمين الشريفين تحديدًا؛ وبهذه الصورة، ينطوي على إشغال خاطر العُبّاد والمصلين والحجّاج والمعتمرين عن الغاية الكبرى من الإخلاص في العبادة، وصرف الوجه بالكُلّية لله عزّ وجلّ في هذه البقعة المطّهرة والمكان المقدّس.. فليس بمثل هذا نحصّل النّفع من الذكاء الاصطناعي ولنا إليه حاجات أكبر، ومساقات أرحب في ظل رؤية 2030، ونحن نستشرف آفاقًا أبعد بكثير عن مجرد الإعجاب بـ«روبوت» يؤدي ما يؤديه أدنى البشر في الذكاء والفطنة.

فالرجاء أن يخرج القائمون على أمر رئاسة شؤون الحرمين من عباءة هذا النوع في التعاطي مع التكنولوجيا الحديثة ففيه هدر مالي، والعمل بجدية على صرفها نحو مساقات أخرى في هذا المرفق الحيوي، بخاصة أن تحديات المملكة مع إدارة الحشود المتزايدة في كل موسم حج ومواسم العمرة المتصلة تحتاج الذكاء الاصطناعي بما يسهّل العمل، ويقدم إضافة حقيقية.

إنّ مثل هذا الاستغلال العبثي للتكنولوجيا ومخرجات الذكاء الاصطناعي، عين ما نبّه إليه وحذّر منه الأمين العام للأمم المتحدة؛ أنطونيو غوتيريش مؤخرًا، بدعوته العلماء والخبراء إلى إعلان أنّ الذكاء الاصطناعي تهديد وجودي للبشرية، لا يقل عن الحرب النووية، مشددًا بالقول: «يجب أن نأخذ تلك التحذيرات بجدية بالغة»، مع إشارته إلى أن «هناك إمكانات هائلة في استخدام الذكاء الاصطناعي، لكن من الواضح أن هناك مشاكل خطيرة أيضا، تتمثل في إمكانية إلغاء قرار البشر»..

من المهم أن ينظر إلى هذا التنبيه بعين الاعتبار والنّظر الفاحص، ونحن أولى به ومعنيون بالدرجة الأولى، في مسيرتنا المثمرة مع الذكاء الاصطناعي، فلا يكون استغلالنا له إلا بالقدر الذي يضيف جديدًا نوعيًا في وطننا المتجدد ويسهّل عسيرًا ليس في مكنة البشر ولا قدرتهم، ويحرّك عجلة الإنتاج بوتيرة تتناسب وطموحات المملكة ورؤيتها وقدراتها على المنافسة العالمية بكل جدارة واستحقاق.