علي أحمد فقندش.. 40 عاماً في خدمة الصحافة الفنية
الاثنين / 29 / ذو الحجة / 1444 هـ الاثنين 17 يوليو 2023 02:32
بقلم: د. عبدالله المدني abu_taymour@
حينما يذكر اسم علي فقندش يحضر الفن ويتراقص على وقع اسمه الغريب، مشيراً إلى شخصه كعميد للصحافة الفنية في المملكة العربية السعودية. كيف لا وهو الذي قضى عمراً يعمل في هذا المجال، يحاور أهل الفن ويحصي أعمالهم ومشاريعهم ويعد المؤلفات عن سيرهم ويقدم البرامج التلفزيونية عن إبداعاتهم، ويقربهم من بعضهم البعض، فبات مرجعاً وموثّقاً لا ينافسه أحد في كل ما يتعلق بالفن داخل بلاده وخارجها، وصاحب أرشيف مكتنز بالمعلومات الفنية لا غنى عنه، بل وصفه البعض بـ«ذاكرة الأغنية السعودية والخليجية والعربية»، كناية عن معاصرته ميلاد أغانٍ كثيرة وارتباطه بأصحابها وثراء ما تختزنه ذاكرته عنها وعنهم.
ومن كان مثله في اجتهاده ودأبه وعلاقاته وحضوره، لا بد أن حب الفن تدفق إلى روحه وشرايينه كتيار جارف، فتماهى معه ووهبه كل طاقته، ووجد فيه ما يغنيه عن خوض تخصصات صحفية أخرى كالرياضة التي فشل فيها باعترافه.
عرفه الناس من خلال كتاباته ومؤلفاته وبرامجه المميزة فأحبوه وتعلقوا به، وهو من جانبه بادلهم الحب بالحب، ولعل أكبر دليل على مكانته عند عشاق الفن والصحافة الفنية وتقدير الناس له كإنسان ومبدع وتاريخ هو ما حدث عام 2020، عندما انتشر خبر إصابته بفايروس كورونا الذي أدخله المستشفى والعناية المركزة لمدة 21 يوماً، كاد خلالها يفشل في مقاومة الوباء بسبب معاناته من السكر والضعف والإعياء العام جراء ظروف الحياة ومتغيراتها. وقتذاك تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى تظاهرة كبيرة في حبه قبل أن تتحول إلى منصة لتعزيته ومواساته بعد أن خرج من المستشفى وحيداً دون شقيقه «سيف»، الذي كان يقاسمه متاعب كورونا وتُوفي جراء مضاعفات الوباء.
حياة بعيدة عن الأضواء
يعيش فقندش اليوم في جدة بعيداً عن الصحافة وعن الأضواء، بعد بلوغه الستين واضطراره للتقاعد عن العمل، وتخلصه من متاعب المهنة اليومية، لكن بيته وقلبه مفتوحان لكل محبيه كما كان دائماً، وشعوره أن لديه الكثير ليوثّقه ويخبر الناس به. والغريب أن هذا الرجل، الذي كتب تفاصيل التفاصيل عن الشخصيات الفنية وجعلهم محوراً لحكاياته ومؤلفاته، لا يحب أن يكون محوراً للأحاديث. لذا نراه يكتب عن كل شيء إلا عن نفسه، ما جعل الكثيرين لا يعرفون سوى القليل عن أحواله.
وُلد علي أحمد محمد عبدالله النمر، الشهير بـ«علي فقندش» في الـ17 من مارس سنة 1957 لوالدين يمنيين، كانا قد انتقلا من اليمن إلى الحبشة ومن الأخيرة إلى السودان للإقامة والعمل. ولهذا فإن فقندش ولد وعاش جزءاً من طفولته في مدن سودانية على ساحل البحر الأحمر مثل «طوكر» و«سواكن» و«بورتسودان» حتى سن الثامنة. وفي مقابلة معه أجراها نايف العجلاني ونشرتها صحيفة «الحدث» (9/12/2021)، أخبرنا فقندش عن ظروف حياته المبكرة في السودان، فقال «السودان، رغم أني وأسرتي غادرناها مبكراً، إلا أني أحتفظ لها بكثير من الود والحنين. والناس في السودان يتميزون بأنهم ودودون واجتماعيون ويغلب عليهم الجو الأسري. ومن الذكريات التي لا أنساها أيام الثورة (يقصد الانتفاضة الشعبية ضد حكم الفريق إبراهيم عبود)، حينما كان عمري خمس سنوات، أني شعرت بالانتماء لهذا البلد من خلال أغنياتهم الوطنية الجميلة، وخصوصاً أغنية (أصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باقي) للفنان محمد وردي من كلمات محمد الفيتوري. ومن تلك الأجواء واللحظات بدأ اهتمامي بما حولي خصوصاً الفن والرياضة رغم صغر سني وقتها».
الانتقال إلى السعودية
في سن الثامنة أو نحوها، وتحديداً في عام 1966، انتقل مع أسرته إلى السعودية، حيث سكنت عائلته أولاً بحي الهنداوية في مكة المكرمة. وفي هذا الحي الشعبي عاش سنتين من طفولته، تشرّب خلالهما الثقافة المكية وتوسعت أثناءهما مداركه الفنية، خصوصاً أنه كان يتردد على منطقة «حوض البقر» (العزيزية حالياً)، حيث كانت نخبة من فناني ومبدعي مكة المكرمة من أمثال إبراهيم خفاجي وهاني فيروزي يجتمعون في «مقهى الشجرة».
وفي مكة المكرمة، ارتبطت كلمة «فقندش» باسمه، وملخّص الحكاية، كما رواها بنفسه لبرنامج «وينك» التلفزيوني الذي تبثه قناة «روتانا خليجية»، أنه دخل ذات يوم في عراك مع صبي من صبية الحي، وحينما أفاقت والدته على صوت العراك وجاءت لعتاب الصبي المعتدي رد عليها «شيلي ولدك هذا الفقندش». ومن تلك اللحظة صار أطفال الحي لا ينادونه إلا بفقندش، فالتصقت التسمية به بإحكام لدرجة أنه حينما التحق بالمدرسة وجدها مسجلة أمامه. وروى صاحبنا أيضاً أن من أطلق عليه هذا اللقب صار لاحقاً صديقه وكان دائماً يمازحه ويقول إنه صاحب فضل عليه بسبب هذا الاسم الذي اختاره له. ومما يُروى أن غرابة الاسم لفتت ذات مرة انتباه الفنانة اللبنانية باسكال مشعلاني، فسألت فقندش عن معناه، فرد ساخراً «يعني فقدنا كل شيء».
هنداوية جدة
ومن مكة المكرمة إلى جدة مع أسرته، حيث افتتح والده فيها مطعماً ومقهى باسم «قهوة القاهرة» في حي الشاطئ الوسيط بين الهنداوية وباب شريف. وكما في مكة المكرمة سكن مع والديه بحي الهنداوية الجداوي، الذي قال عنه إنه أقرب إلى قلبه من هنداوية مكة المكرمة، لأنه كان مركزاً للفن ومقراً لسكن معظم مشاهير الفن والرياضة مثل طلال مداح ومحمد عبده وعمر كدرس ولاعبي ومؤسسي نادي الاتحاد الجداوي، ناهيك عن وجود منزل الفنان علي عبدالكريم، الذي كان به روشان يجتمع فيه الفنانون، ولاسيما طلال مداح الذي كان يحضر لتعليم علي عبدالكريم العزف على آلة العود. وقد روى فقندش لصحيفة «الحدث» بعض ذكريات طفولته في حارة الهنداوية بجدة، فقال إن أطفال الحي كانوا يجتمعون في برحة للعب، وإنه من خلال تلك البرحة تعرف على الملحن «طلال باغر» الذي كان يكبره بسنة وكان موهوباً منذ صغره بالمرحلة الابتدائية في العزف على آلة عود بدائية من صفيح شُدت عليه خيوط بلاستيكية كأوتار، قبل أن يؤسس فرقة فنية صغيرة في مدرسته المتوسطة ويصبح مطرب المدرسة ومتزعم أنشطتها الفنية.
علاقته بالصحافة والعمل الصحفي لم تبدأ من بوابة الفن، وإنما من بوابة الشعر. ففي سن الـ16، وكما يفعل عادة المراهقون، كتب شيئاً ما بين الشعر والنثر كان نصه:
إلى عينيك أسافر
ركضاً إبحاراً لا أعرف كيف
ولكني إليك أسافر
يحملني شوقي وأحمله
أتلذذ بخطاي إليكِ
يلاقيني الورد يلاقيني الشوك
أشم الورد أدوس الشوك
وإليكِ أسافر.
ثم بعث النص للنشر بـ«ملحق الأربعاء» بجريدة «المدينة»، وفوجئ أنه نُشر في مكان بارز مع إخراج جيد، الأمر الذي كاد يشجعه على مواصلة تجربته الشعرية لولا أن طموحه كان امتهان العمل الصحفي والتميز كصحفي وليس كشاعر أو أديب، خصوصاً أنه كان وقتذاك يحرر بعض الأخبار ويكتب بعض الخواطر، ويعمل مراسلاً لمجلة تونسية متخصصة في الفن والرياضة والموضة.
الانغماس في الصحافة
في عام 1978 بدأ محاولة غير ناجحة ليكون صحفياً رياضياً، حيث راح يلاحق نجوم الرياضة لمحاورتهم، وخصوصاً نجوم المنتخب التونسي الذي شارك في مونديال الأرجنتين ممن تعاقدوا للعب في الأندية السعودية. بعد هذه المحاولة، التي لم تثمر إلا عن إصداره كتابين حول المنتخب الوطني السعودي لكرة القدم وإجرائه حوارات مشتركة بين رياضيين وفنانين معروفين، عمل لفترة قصيرة محرراً وصانعاً للكلمات المتقاطعة في صحيفتي «المدينة» و«البلاد» السعوديتين، قبل أن يقرر الاتجاه صوب الصحافة الفنية التي وجد نفسه فيها، وكان ملعبه وساحته صفحات جريدة «عكاظ»، التي تدرج في وظائفها حتى أصبح رئيساً لقسمها الفني. وهكذا صار متخصصاً مذاك في هذا المجال، وهو ما أكسبه شهرة وخبرة ومعرفة، مع نيل ثقة واحترام وتقدير الكثير من الفنانين والمبدعين والمثقفين في دول الخليج العربي خصوصاً والعالم العربي عموماً. ومما يذكر أنه بدأ في «عكاظ» بابتكار زاوية «ستة على ستة»، كان يستضيف فيها فنانين لاختبارهم في المعلومات العامة ويمنحهم درجات من 1 إلى 6.
ويدين فقندش بالفضل الأكبر لعمله ونجاحه بجريدة «عكاظ» إلى رئيس تحريرها الأسبق الدكتور هاشم عبده هاشم. فقد قال، إن الأخير «فرغني للعمل الصحفي، حيث كنت أعمل في إحدى الشركات حتى الساعة الخامسة مساءً ثم أتوجه مباشرة للجريدة وأمكث بها إلى قرابة منتصف الليل. وهذا الشيء أثبت للأستاذ هاشم عبده هاشم روح المثابرة لدي والإصرار فكان الدعم والمساعدة من قِبَلِه».
في الأحاديث والمقابلات التي أجريت معه، نجده صريحاً لا يخفي شيئاً، ويتجنب إطلاق الأحكام المطلقة ويعطي كل ذي حق حقه دون مبالغة أو تفريط. فقد قال عن الأغنية السعودية مثلاً، إنها انتشرت ولمع نجمها خلال مرحلتين مهمتين، أولاهما مرحلة الرواد من أمثال طارق عبدالحكيم وعمر كدرس وعبدالله محمد، ثم مرحلة الجيل التالي للرواد التي شملت فنانين كسراج عمر وسامي إحسان وعلي هباش، مضيفاً أن الفنان طلال مداح هو «مترجم إبداعات هذين الجيلين لأنه عايش المرحلتين وأبدع فيهما».
خلافات الفن مصطنعة
كما قال إن الخلافات في الوسط الفني كثيراً ما تكون مصطنعة وراءها صحفي يسعى إلى أن يكون محور أحاديث الناس. ورداً على سؤال حول أفضل الأصوات الشابة التي تبناها ولم تخذله وكانت عند حسن ظنه، قال إنه عبدالمجيد عبدالله، لكنه استدرك قائلاً «أنا لم أتبنَّ أحداً، لكني كنت آخذه معي للحفلات في بداياته حينما كنت أقدم الفنانين كي يكون السبق لي ولصحيفتي «عكاظ» في أي أخبار تخص هذا الفنان بعد بزوغ نجمه». وحينما سُئل عن الشخصية التي يعتبرها عراباً وملهماً له وصاحب فضل عليه في ما وصل إليه، لم يتردد في قول «ملهمي وعرابي هو جلال أبوزيد رحمه الله، وحاضن إبداعي هو هاشم عبده هاشم». وكان فقندش قد خص صحيفة «عكاظ» في يونيو 2010 بمقال مطول عن ملهمه جلال أبوزيد، وصفه فيه بالمؤسس الحقيقي للصحافة الفنية المتخصصة في المملكة العربية السعودية، وبأنه «اسم فاعل في الحياة الإعلامية والفنية المحلية، ورائد وصاحب بصمة».
مرجع فني فريد
قلنا إن الرجل يعد مرجعاً فنياً فريداً، لكثرة ما احتك بالفن وأهله ونجومه، وبحث في سِيَرِهِم وتقصّى أعمالهم وكتب عنهم، يساعده في ذلك تمتعه بذاكرة حديدية وحضور ذهني. إذ يكفي أن تسأله عن أي واقعة أو عمل فني حتى ينطلق سارداً وشارحاً ومفحصاً عن معلومة تجهل تفاصيلها. سألته صحيفة «الحدث» مثلاً، عن خلفيات غناء طلال مداح أغنية «سلام لله يا هاجرنا» الجميلة معنى ولحناً، فانطلق يروي قصتها، وملخصها أن الأغنية كتب كلماتها الشاعر طاهر زمخشري ولحنها الموسيقار غازي علي، وأن الأخير ذهب إلى بيروت في مطلع الستينات لعرضها على المطربة سلامة كي تغنيها، لكن صادف وجود طلال مداح آنذاك في لبنان، فطلبها من غازي علي، رافضاً أن يمنحها للمطربة اللبنانية قائلاً «جحا أولى بلحم ثوره».
ويفتخر فقندش بأشياء كثيرة حققها خلال 40 عاماً من العمل في الجناح الفني لبلاط صاحبة الجلالة، منها مساهمته في التخفيف من العثرات المادية لبعض الفنانين المحليين من خلال اتصالاته وعلاقاته برجال الأعمال والمسؤولين. ومنها ثروته من الأشرطة الغنائية العربية القديمة والحديثة لمعظم فناني السعودية والخليج وشبه الجزيرة العربية ومصر ولبنان وغيرها من البلاد العربية، إضافة إلى كنز من المجلات الفنية وآلاف الصور الفوتوغرافية النادرة التي يحتفظ بها بمنزله في جدة، الذي أشبه ما يكون بمتحف فني لأنه يضم مقتنيات ومتعلقات وهدايا توثق تاريخ عمله الفني وعلاقاته مع رموز الفن، مثل ربطة عنق لعبدالحليم حافظ حصل عليها من أسرته التي عرفها فقندش عن قرب وارتبط بصداقة مع أفرادها.
وأخيراً، فإن فقندش - الذي يشعر اليوم بالملل لأن حب العمل والعطاء ما زال يسكن جيناته - أهدى المكتبة العربية المقروءة نحو 30 كتاباً في الحوارات والقصص الفنية، والسِّيَر الذاتية لأعلام الفن والشعر مثل محمد عبده وطلال مداح وإبراهيم خفاجي وثريا قابل وغيرهم، وأهدى المكتبة العربية المسموعة والمرئية عشرات التسجيلات عن حياة غازي علي وسراج عمر ومحمد أحمد الصبيحي، وعشرات المقابلات مع نجوم الغناء والتمثيل العرب من خلال برنامجي «هم وأنا» و«جواز سفر».
ومن كان مثله في اجتهاده ودأبه وعلاقاته وحضوره، لا بد أن حب الفن تدفق إلى روحه وشرايينه كتيار جارف، فتماهى معه ووهبه كل طاقته، ووجد فيه ما يغنيه عن خوض تخصصات صحفية أخرى كالرياضة التي فشل فيها باعترافه.
عرفه الناس من خلال كتاباته ومؤلفاته وبرامجه المميزة فأحبوه وتعلقوا به، وهو من جانبه بادلهم الحب بالحب، ولعل أكبر دليل على مكانته عند عشاق الفن والصحافة الفنية وتقدير الناس له كإنسان ومبدع وتاريخ هو ما حدث عام 2020، عندما انتشر خبر إصابته بفايروس كورونا الذي أدخله المستشفى والعناية المركزة لمدة 21 يوماً، كاد خلالها يفشل في مقاومة الوباء بسبب معاناته من السكر والضعف والإعياء العام جراء ظروف الحياة ومتغيراتها. وقتذاك تحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى تظاهرة كبيرة في حبه قبل أن تتحول إلى منصة لتعزيته ومواساته بعد أن خرج من المستشفى وحيداً دون شقيقه «سيف»، الذي كان يقاسمه متاعب كورونا وتُوفي جراء مضاعفات الوباء.
حياة بعيدة عن الأضواء
يعيش فقندش اليوم في جدة بعيداً عن الصحافة وعن الأضواء، بعد بلوغه الستين واضطراره للتقاعد عن العمل، وتخلصه من متاعب المهنة اليومية، لكن بيته وقلبه مفتوحان لكل محبيه كما كان دائماً، وشعوره أن لديه الكثير ليوثّقه ويخبر الناس به. والغريب أن هذا الرجل، الذي كتب تفاصيل التفاصيل عن الشخصيات الفنية وجعلهم محوراً لحكاياته ومؤلفاته، لا يحب أن يكون محوراً للأحاديث. لذا نراه يكتب عن كل شيء إلا عن نفسه، ما جعل الكثيرين لا يعرفون سوى القليل عن أحواله.
وُلد علي أحمد محمد عبدالله النمر، الشهير بـ«علي فقندش» في الـ17 من مارس سنة 1957 لوالدين يمنيين، كانا قد انتقلا من اليمن إلى الحبشة ومن الأخيرة إلى السودان للإقامة والعمل. ولهذا فإن فقندش ولد وعاش جزءاً من طفولته في مدن سودانية على ساحل البحر الأحمر مثل «طوكر» و«سواكن» و«بورتسودان» حتى سن الثامنة. وفي مقابلة معه أجراها نايف العجلاني ونشرتها صحيفة «الحدث» (9/12/2021)، أخبرنا فقندش عن ظروف حياته المبكرة في السودان، فقال «السودان، رغم أني وأسرتي غادرناها مبكراً، إلا أني أحتفظ لها بكثير من الود والحنين. والناس في السودان يتميزون بأنهم ودودون واجتماعيون ويغلب عليهم الجو الأسري. ومن الذكريات التي لا أنساها أيام الثورة (يقصد الانتفاضة الشعبية ضد حكم الفريق إبراهيم عبود)، حينما كان عمري خمس سنوات، أني شعرت بالانتماء لهذا البلد من خلال أغنياتهم الوطنية الجميلة، وخصوصاً أغنية (أصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باقي) للفنان محمد وردي من كلمات محمد الفيتوري. ومن تلك الأجواء واللحظات بدأ اهتمامي بما حولي خصوصاً الفن والرياضة رغم صغر سني وقتها».
الانتقال إلى السعودية
في سن الثامنة أو نحوها، وتحديداً في عام 1966، انتقل مع أسرته إلى السعودية، حيث سكنت عائلته أولاً بحي الهنداوية في مكة المكرمة. وفي هذا الحي الشعبي عاش سنتين من طفولته، تشرّب خلالهما الثقافة المكية وتوسعت أثناءهما مداركه الفنية، خصوصاً أنه كان يتردد على منطقة «حوض البقر» (العزيزية حالياً)، حيث كانت نخبة من فناني ومبدعي مكة المكرمة من أمثال إبراهيم خفاجي وهاني فيروزي يجتمعون في «مقهى الشجرة».
وفي مكة المكرمة، ارتبطت كلمة «فقندش» باسمه، وملخّص الحكاية، كما رواها بنفسه لبرنامج «وينك» التلفزيوني الذي تبثه قناة «روتانا خليجية»، أنه دخل ذات يوم في عراك مع صبي من صبية الحي، وحينما أفاقت والدته على صوت العراك وجاءت لعتاب الصبي المعتدي رد عليها «شيلي ولدك هذا الفقندش». ومن تلك اللحظة صار أطفال الحي لا ينادونه إلا بفقندش، فالتصقت التسمية به بإحكام لدرجة أنه حينما التحق بالمدرسة وجدها مسجلة أمامه. وروى صاحبنا أيضاً أن من أطلق عليه هذا اللقب صار لاحقاً صديقه وكان دائماً يمازحه ويقول إنه صاحب فضل عليه بسبب هذا الاسم الذي اختاره له. ومما يُروى أن غرابة الاسم لفتت ذات مرة انتباه الفنانة اللبنانية باسكال مشعلاني، فسألت فقندش عن معناه، فرد ساخراً «يعني فقدنا كل شيء».
هنداوية جدة
ومن مكة المكرمة إلى جدة مع أسرته، حيث افتتح والده فيها مطعماً ومقهى باسم «قهوة القاهرة» في حي الشاطئ الوسيط بين الهنداوية وباب شريف. وكما في مكة المكرمة سكن مع والديه بحي الهنداوية الجداوي، الذي قال عنه إنه أقرب إلى قلبه من هنداوية مكة المكرمة، لأنه كان مركزاً للفن ومقراً لسكن معظم مشاهير الفن والرياضة مثل طلال مداح ومحمد عبده وعمر كدرس ولاعبي ومؤسسي نادي الاتحاد الجداوي، ناهيك عن وجود منزل الفنان علي عبدالكريم، الذي كان به روشان يجتمع فيه الفنانون، ولاسيما طلال مداح الذي كان يحضر لتعليم علي عبدالكريم العزف على آلة العود. وقد روى فقندش لصحيفة «الحدث» بعض ذكريات طفولته في حارة الهنداوية بجدة، فقال إن أطفال الحي كانوا يجتمعون في برحة للعب، وإنه من خلال تلك البرحة تعرف على الملحن «طلال باغر» الذي كان يكبره بسنة وكان موهوباً منذ صغره بالمرحلة الابتدائية في العزف على آلة عود بدائية من صفيح شُدت عليه خيوط بلاستيكية كأوتار، قبل أن يؤسس فرقة فنية صغيرة في مدرسته المتوسطة ويصبح مطرب المدرسة ومتزعم أنشطتها الفنية.
علاقته بالصحافة والعمل الصحفي لم تبدأ من بوابة الفن، وإنما من بوابة الشعر. ففي سن الـ16، وكما يفعل عادة المراهقون، كتب شيئاً ما بين الشعر والنثر كان نصه:
إلى عينيك أسافر
ركضاً إبحاراً لا أعرف كيف
ولكني إليك أسافر
يحملني شوقي وأحمله
أتلذذ بخطاي إليكِ
يلاقيني الورد يلاقيني الشوك
أشم الورد أدوس الشوك
وإليكِ أسافر.
ثم بعث النص للنشر بـ«ملحق الأربعاء» بجريدة «المدينة»، وفوجئ أنه نُشر في مكان بارز مع إخراج جيد، الأمر الذي كاد يشجعه على مواصلة تجربته الشعرية لولا أن طموحه كان امتهان العمل الصحفي والتميز كصحفي وليس كشاعر أو أديب، خصوصاً أنه كان وقتذاك يحرر بعض الأخبار ويكتب بعض الخواطر، ويعمل مراسلاً لمجلة تونسية متخصصة في الفن والرياضة والموضة.
الانغماس في الصحافة
في عام 1978 بدأ محاولة غير ناجحة ليكون صحفياً رياضياً، حيث راح يلاحق نجوم الرياضة لمحاورتهم، وخصوصاً نجوم المنتخب التونسي الذي شارك في مونديال الأرجنتين ممن تعاقدوا للعب في الأندية السعودية. بعد هذه المحاولة، التي لم تثمر إلا عن إصداره كتابين حول المنتخب الوطني السعودي لكرة القدم وإجرائه حوارات مشتركة بين رياضيين وفنانين معروفين، عمل لفترة قصيرة محرراً وصانعاً للكلمات المتقاطعة في صحيفتي «المدينة» و«البلاد» السعوديتين، قبل أن يقرر الاتجاه صوب الصحافة الفنية التي وجد نفسه فيها، وكان ملعبه وساحته صفحات جريدة «عكاظ»، التي تدرج في وظائفها حتى أصبح رئيساً لقسمها الفني. وهكذا صار متخصصاً مذاك في هذا المجال، وهو ما أكسبه شهرة وخبرة ومعرفة، مع نيل ثقة واحترام وتقدير الكثير من الفنانين والمبدعين والمثقفين في دول الخليج العربي خصوصاً والعالم العربي عموماً. ومما يذكر أنه بدأ في «عكاظ» بابتكار زاوية «ستة على ستة»، كان يستضيف فيها فنانين لاختبارهم في المعلومات العامة ويمنحهم درجات من 1 إلى 6.
ويدين فقندش بالفضل الأكبر لعمله ونجاحه بجريدة «عكاظ» إلى رئيس تحريرها الأسبق الدكتور هاشم عبده هاشم. فقد قال، إن الأخير «فرغني للعمل الصحفي، حيث كنت أعمل في إحدى الشركات حتى الساعة الخامسة مساءً ثم أتوجه مباشرة للجريدة وأمكث بها إلى قرابة منتصف الليل. وهذا الشيء أثبت للأستاذ هاشم عبده هاشم روح المثابرة لدي والإصرار فكان الدعم والمساعدة من قِبَلِه».
في الأحاديث والمقابلات التي أجريت معه، نجده صريحاً لا يخفي شيئاً، ويتجنب إطلاق الأحكام المطلقة ويعطي كل ذي حق حقه دون مبالغة أو تفريط. فقد قال عن الأغنية السعودية مثلاً، إنها انتشرت ولمع نجمها خلال مرحلتين مهمتين، أولاهما مرحلة الرواد من أمثال طارق عبدالحكيم وعمر كدرس وعبدالله محمد، ثم مرحلة الجيل التالي للرواد التي شملت فنانين كسراج عمر وسامي إحسان وعلي هباش، مضيفاً أن الفنان طلال مداح هو «مترجم إبداعات هذين الجيلين لأنه عايش المرحلتين وأبدع فيهما».
خلافات الفن مصطنعة
كما قال إن الخلافات في الوسط الفني كثيراً ما تكون مصطنعة وراءها صحفي يسعى إلى أن يكون محور أحاديث الناس. ورداً على سؤال حول أفضل الأصوات الشابة التي تبناها ولم تخذله وكانت عند حسن ظنه، قال إنه عبدالمجيد عبدالله، لكنه استدرك قائلاً «أنا لم أتبنَّ أحداً، لكني كنت آخذه معي للحفلات في بداياته حينما كنت أقدم الفنانين كي يكون السبق لي ولصحيفتي «عكاظ» في أي أخبار تخص هذا الفنان بعد بزوغ نجمه». وحينما سُئل عن الشخصية التي يعتبرها عراباً وملهماً له وصاحب فضل عليه في ما وصل إليه، لم يتردد في قول «ملهمي وعرابي هو جلال أبوزيد رحمه الله، وحاضن إبداعي هو هاشم عبده هاشم». وكان فقندش قد خص صحيفة «عكاظ» في يونيو 2010 بمقال مطول عن ملهمه جلال أبوزيد، وصفه فيه بالمؤسس الحقيقي للصحافة الفنية المتخصصة في المملكة العربية السعودية، وبأنه «اسم فاعل في الحياة الإعلامية والفنية المحلية، ورائد وصاحب بصمة».
مرجع فني فريد
قلنا إن الرجل يعد مرجعاً فنياً فريداً، لكثرة ما احتك بالفن وأهله ونجومه، وبحث في سِيَرِهِم وتقصّى أعمالهم وكتب عنهم، يساعده في ذلك تمتعه بذاكرة حديدية وحضور ذهني. إذ يكفي أن تسأله عن أي واقعة أو عمل فني حتى ينطلق سارداً وشارحاً ومفحصاً عن معلومة تجهل تفاصيلها. سألته صحيفة «الحدث» مثلاً، عن خلفيات غناء طلال مداح أغنية «سلام لله يا هاجرنا» الجميلة معنى ولحناً، فانطلق يروي قصتها، وملخصها أن الأغنية كتب كلماتها الشاعر طاهر زمخشري ولحنها الموسيقار غازي علي، وأن الأخير ذهب إلى بيروت في مطلع الستينات لعرضها على المطربة سلامة كي تغنيها، لكن صادف وجود طلال مداح آنذاك في لبنان، فطلبها من غازي علي، رافضاً أن يمنحها للمطربة اللبنانية قائلاً «جحا أولى بلحم ثوره».
ويفتخر فقندش بأشياء كثيرة حققها خلال 40 عاماً من العمل في الجناح الفني لبلاط صاحبة الجلالة، منها مساهمته في التخفيف من العثرات المادية لبعض الفنانين المحليين من خلال اتصالاته وعلاقاته برجال الأعمال والمسؤولين. ومنها ثروته من الأشرطة الغنائية العربية القديمة والحديثة لمعظم فناني السعودية والخليج وشبه الجزيرة العربية ومصر ولبنان وغيرها من البلاد العربية، إضافة إلى كنز من المجلات الفنية وآلاف الصور الفوتوغرافية النادرة التي يحتفظ بها بمنزله في جدة، الذي أشبه ما يكون بمتحف فني لأنه يضم مقتنيات ومتعلقات وهدايا توثق تاريخ عمله الفني وعلاقاته مع رموز الفن، مثل ربطة عنق لعبدالحليم حافظ حصل عليها من أسرته التي عرفها فقندش عن قرب وارتبط بصداقة مع أفرادها.
وأخيراً، فإن فقندش - الذي يشعر اليوم بالملل لأن حب العمل والعطاء ما زال يسكن جيناته - أهدى المكتبة العربية المقروءة نحو 30 كتاباً في الحوارات والقصص الفنية، والسِّيَر الذاتية لأعلام الفن والشعر مثل محمد عبده وطلال مداح وإبراهيم خفاجي وثريا قابل وغيرهم، وأهدى المكتبة العربية المسموعة والمرئية عشرات التسجيلات عن حياة غازي علي وسراج عمر ومحمد أحمد الصبيحي، وعشرات المقابلات مع نجوم الغناء والتمثيل العرب من خلال برنامجي «هم وأنا» و«جواز سفر».