كتاب ومقالات

عرب دكاكين الشعارات

وفاء الرشيد

في رواية الكاتب الفرنسي فولتير الشهيرة «كانديد» ورَدَ على لسان البطل الذي هو الطفل الساذج الذي تربى على شعارات وأوهام أستاذه الفيلسوف المثالي مقولة انتشرت على نطاق واسع وهي: «كل ما أعرفه هو أن علي أن أزرع بستاني».

تعني هذه العبارة أن الواقع أقوى من الشعارات، وأن العمل المنتج هو الوحيد الذي يمكن أن يبلغ الإنسان أهدافه في التقدم والرقي بدلاً من الشطحات المثالية والأدبيات الغنائية العاطفية.

في كتاب الأديب المصري المعروف توفيق الحكيم «عودة الوعي» الصادر عام 1974 نفس الموقف الساخر من الشعارات البراقة؛ التي لم ينتج عنها إلا الفشل الذريع والانهيار الاقتصادي والاجتماعي، وهو هنا يحاكم العهد الناصري بشعاراته الثورية البراقة..

لقد أدرك الغرب الحديث هذه الحقائق منذ قرون، فاعتبر أن الأساس الذي يعتمد عليه هو العقلانية والتفكير العلمي والتخطيط المستقبلي.

أما عند عرب الدكاكين، فلا تزال الشعارات والأوهام اللفظية هي السائدة، إلى حد أن الكاتب السعودي المعروف عبدالله القصيمي وضع على أحد كتبه عنوان «العرب ظاهرة صوتية».

في السابق، باعوا لنا شعار محاربة الغزو الثقافي واعتبروا أن الحداثة مشروع استعماري ماسوني وصليبي، وكان محمد قطب يكرر في جامعاتنا وأمام طلبتنا أن الثورة الفرنسية من صنع اليهود، وأن الفكر الغربي الحديث نتاج اليهود الثلاثة: ماركس وفرويد ودوركايم..

وهكذا منذ البداية حرمنا من الاقتباس من الفكر التنويري والحداثي الذي قاد أوروبا إلى التقدم والصعود، وقد كان الإمام محمد عبده، المفتي الأكبر والمصلح الأزهري المعروف، يقول لنا ويكرر ليس لديكم مناص من التعلم من الغرب والتأثر بأفكاره في التمدن والتطور.

ما كان بالنسبة لمحمد عبده والأفغاني تراثاً إنسانياً مشتركاً حولّه الغُلاة المتعصبون إلى جاهلية جديدة لا بد من محاربتها والعزلة عنها، بل ورفع السلاح لتغييرها كما حدث من بعد لدى التكفيريين والإرهابيين من القاعدة والدواعش ومن على شاكلتهم..

حمل لنا القوميون شعارات الهوية العربية والأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة، وحكموا علينا بالعزلة عن العالم بحجة مواجهة الصهيونية العالمية، فكانت حصيلة نشاطهم هزائم متكررة وحروباً أهلية فظيعة واستبداداً حزبياً قاتماً.

جاء اليساريون بأوهام الثورة الاشتراكية، وعندما طبقوها في بعض البلدان العربية كان المآل هو الإفلاس الاقتصادي والانتفاضات الاجتماعية المتواصلة، قبل أن تتفكك الدول وتضيع إلى الأبد كما شاهدنا في أحداث ما سمي بـ«الربيع العربي».

فوتت قيادات الدول العربية التي تبنت شعارات سرابية قومية ناصرية فرصة ذهبية للنهوض باقتصادياتها كما فعلت الصين وماليزيا وكوريا الجنوبية واليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، التي أصبحت من أهم اقتصادات العالم، بينما دول الشعارات لم تزرع إلا الجهل وتدمير الإنسان والاقتصاد، ونجحوا بفصل حضارات دولهم القديمة التي أذهلت العالم عن الدولة المعاصرة المتخلفة التي بنوها على ركائز التجهيل والتخبط الاقتصادي وبناء دولة عميقة داخل الدولة ووضع مستقبل الدولة رهينة أهوائهم.

النهضة لا تقوم بلا بناء الدولة القوية ذات المؤسسات العمومية الفاعلة، ووضع بنية اقتصادية متماسكة وصلبة مندمجة في الاقتصاد العالمي، وإنشاء نظام تربوي تعليمي عصري ينقل المنتج العلمي والتقني إلى المجتمع، والانفتاح الاجتماعي المتوازن الذي يحرر المجتمع من السلبية والتخلف.

في هذه الأمور الأربعة، لا مناص من الاعتراف أن بلداننا الخليجية تفوقت.. نعم تفوقت على بقية البلدان العربية بما فيها الدول النفطية الغنية، وهي اليوم -رضوا أم أبوا- المرجعية والمركز لقيادة النظام العربي.

لقد فهمنا أن المطلوب هو زراعة الحديقة وحرق الدكاكين.. فهمنا أن بناء الإنسان هو الأساس، وليس التغني بالشعارات الأيديولوجية الفارغة.