كتاب ومقالات

رصاصة الرحمة!

محمد مفتي

تبلغ مساحة مخيم عين الحلوة ما يقارب كيلومتر مربع واحد فقط حيث يقع بجنوب لبنان، وقد تم إنشاؤه العام 1948 لإيواء اللاجئين الفلسطينيين عقب قيام دولة إسرائيل ويعيش به عشرات الألوف منهم، ولعلنا لسنا بحاجة لذكر الأوضاع المأساوية والمعقدة بالمخيم الذي يعيش على معونات من منظمات الإغاثة الدولية ويعاني سكانه من شبح الفقر والجوع والمرض، تلاحقهم البطالة وتردي الخدمات التعليمية والأمنية بخلاف أوضاعهم المعيشية الصعبة على الأصعدة كافة.

المخيم الذي أنشئ لإيواء ألوف عدة من الفلسطينيين الذين تم طردهم قسراً من بيوتهم في وطنهم الأم تضاعف عددهم عبر عشرات السنين، ولعله لم يدر بخلدهم يوماً أن يطول بقاؤهم لعقود في هذا الوضع وسط تجاهل شبه تام من المجتمع الدولي لقضيتهم، غير أن مُضي العام تلو العام أكد لهم أن المؤقت بات دائماً وغير المألوف أضحى هو الطبيعي، وتوالت الأجيال وراء الأجيال حتى انتهى الحال بالأجيال الحالية لأن تعيش أوضاعاً أسوأ عاماً بعد عام، وأصبحت أمنية كل فرد بالمخيم أن يعيش فقط كسائر المواطنين في بقية بقاع العالم آمناً على حياته وعلى حياة أبنائه.

وعلى الرغم من مشروعية وبساطة أحلام سكان مخيم عين الحلوة إلا أنها أبت أن تتحقق بأي صورة، فالنتيجة المنطقية لكل هذا التكدس السكاني في تلك المساحة المحدودة هو أن تتفشى الأمراض وتسود الأوضاع السيئة -وهو الوضع الفعلي في المخيمات الفلسطينية كافة وليس عين الحلوة فقط- كما أنه من المنطقي أن يعاني سكان المخيم من عنف ممنهج، وأن يندس بين سكانه مسلحون ومرتزقة يسهل استقطابهم للزج بهم في أنواع الحروب كافة حتى الدولية منها، كما أنه من المتوقع أن تشتعل العديد من الصراعات المسلحة بين ظهرانيه ما بين فترة وأخرى، وفي النهاية الخاسر الأوحد والأشد ألماً هم السكان العزل الذين لا مأوى ولا سكن لهم، وليس أمامهم سوى الصمت وانتظار المصير المظلم المتربص بهم.

من المؤسف أن يتحول هذا المخيم المنكوب لوجهة بعض أفراد الفئات المتصارعة التي لا هم لها سوى الاندساس خفية بين سكان المخيم، غير أن العدو لا يعرف لغة الرحمة ولا يعيقه عن تنفيذ خططه أي عائق سواء كان إنسانياً أم غير إنساني، فمجرد الاشتباه في وجود قيادي أو حتى عضو عادي داخل أي مخيم فلسطيني يتسبب ذلك في دكه عن بكرة أبيه على رؤوس ساكنيه دون لحظة تردد واحدة، فالشعب الفلسطيني يعيش أسوأ الظروف المعيشية في العالم حيث تم ابتلاع دولته، كما حرمه تخاذل المجتمع الدولي من إقامة دولته على ما تبقى من أراضٍ في الضفة الغربية وغزة، وفوق هذا وذاك تلتهم الصراعات المتأججة الكثير من أمنه الضعيف، التي يموت فيها العشرات من المواطنين الأبرياء.

مأساة مخيم عين الحلوة ليست الأولى من نوعها ومن المرجح أنها لن تكون الأخيرة، فقد سبقتها العديد من الحوادث المأساوية المشابهة، ومن المؤكد أنها ستكرر مرة أخرى ما لم يتم التوصل لحل جاد في هذه القضية والمعلقة من عشرات السنين، وما حدث في عين الحلوة يتشابه مع أحداث تل الزعتر الذي أزيل عن بكرة أبيه خلال اشتباكات الحرب الأهلية اللبنانية التي أسفرت عن مقتل عشرات الألوف من الأبرياء حينما تقاتل أبناء الوطن الواحد مع بعضهم البعض، وتكرر الأمر بعدها بسنوات في مخيمات صبرا وشاتيلا التي ارتكبت بحقها مجازر ينأى القلم عن وصفها.

على الرغم من اشتداد القصف على المخيم خلال الأيام القليلة الماضية، لم يهرع بعض الأهالي لمغادرة منازلهم، فالأمر ليس بالجديد عليهم، فمأساتهم يومية وحياتية ومعيشية متكررة، ومن الصعب تصور ذلك على أنه شجاعة منهم؛ فقد فعلوا ذلك لأنهم لا يملكون أي مأوى آخر يؤويهم، ولعل رفضهم ترك المخيم يعكس شعوراً دفيناً داخلهم بالرغبة في الاستسلام وانتظار رصاصة الرحمة التي سوف تريحهم من كل هذا العذاب والظلم والألم والقهر الذي يعيشونه يوماً بعد يوم.

لعل الصراعات بين الفئات الفلسطينية تمثل مصدر سعادة لقادة إسرائيل، وما يحدث في هذا المخيم وما حدث سابقاً في المخيمات الفلسطينية سواء على يد الإسرائيليين أو على يد عملائهم يذكرنا بما قامت به إسرائيل من دك وقصف لقرى غزة مراراً وتكراراً بلا هوادة، وهو ما يجعلنا نصل لخلاصة مفادها أن ما يحدث هو أشبه بخطة ممنهجة لإبادة من تبقى من الشعب الفلسطيني، وكأنها ترجمة حرفية لأمنية رئيس وزراء إسرائيل الأسبق إسحاق رابين التي تمنى فيها أن يبتلع البحر غزة، في إشارة صريحة لا تقبل التأويل لرغبة الدولة الإسرائيلية في إبادة الشعب الفلسطيني بأكمله عن بكرة أبيه حتى يموت الحق بانعدام المطالبين به.