كتاب ومقالات

مؤتمر مكة.. منصة «التواصل والتكامل»

نجيب يماني

حين تمتلك قيادة لها «رؤية» مستشرفة وواعية، وعزيمة ماضية ونافذة، تقرأ ماضيها برويّة وفهم، وتعيش واقعها بإدراك لحجم التحديات، وتتطلع لمستقبلها بتوثب، فاعلم حينئذٍ أنها لا ترسل قولها عفو الخاطر، ولا ترتجل الخطابات من منصات الهياج الديماجوجي، والاستشارة العصابية؛ ولكنها تزن قولها بميزان المستطيع للفعل، القادر على الإنجاز، والعازم على إحداث التغيير بمحركات الوعي والعزيمة والحكمة المستنيرة.

مؤتمر «تواصل وتكامل»، الذي تحتضنه أم القرى؛ مكة المكرمة، ويتنادى له وزراء ورؤساء الشؤون الدينية والإفتاء والمشيخات والجمعيات الإسلامية من (85) دولة، تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، والغاية التواطؤ والاتفاق على إعلاء خطاب يُعلي قيم الوسطية والاعتدال الذي عُرف به الدين الإسلامي منذ انطلاق فجر الرسالة وانبثاق نورها من غار حراء في حرز مكة المكرمة.

أليست هذه الغاية النبيلة هي عين ما صدح به مهندس «الرؤية»، ولي العهد الأمين، محمد الخير يوم أعلنها داوية وصريحة، وهو يعيد للمملكة نضارة وجهها السمح، وجوهر خطابها المعتدل، ولسان خطابها المُختطف، بقوله المجوهر: «السعودية لم تكن كذلك قبل عام 1979.. السعودية والمنطقة كلها انتشر فيها مشروع الصحوة بعد عام 79م لأسباب كثيرة ليس المجال اليوم لذكرها.. فنحن لم نكن كذلك. نحن فقط نعود إلى ما كنا عليه.

الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم، وعلى جميع الأديان، وعلى جميع التقاليد والشعوب».

وأقرن ذلك أيضاً بسامق قول سموّه الذي أعاد لنا الحياة وأزال ما ران على قلوبنا من سخام الصحوة وسوادها بقوله «نريد أن نعيش حياة طبيعية حياة تترجم ديننا السمح وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة ونتعايش مع العالم ونساهم في تنمية وطننا والعالم.

فهذا أمر أعتقد أنه اتخذت خطوات في الفترة الماضية واضحة، وأعتقد أننا سوف نقضي على بقايا التطرف في القريب العاجل».

نعم؛ هذا المؤتمر هو ترجمة فعلية لهذه الرؤية التي بشّر بها ولي العهد الأمين، ودالة ذلك، أولاً في مكان انعقاده بمكة المكرمة، التي انطلق منها صوت الحق الأبلج مبشّراً بفجر خلاص البشرية كلها من ربقة الظلم، وفشو التطرف، وسيادة الجهل والانقسام والتشظي والتيه والضلال، باسطاً رحمته على الإنسانية، معيداً إليها أمنها المفقود، وأمانها المبدد، فإن الغاية أن تعيد مكة المكرمة ذات الدور النبيل، في ظل قيادة تنشد الخير للإنسانية جمعاء وتقضي على بقايا خطاب التشدد والتنطع والكذب والنفاق وزيف لسانهم الذي كان يردد (خلا لك الجو فبيضي واصفري).

ثاني الدلالات يكمن في عنوان المؤتمر «تواصل وتكامل»، فليستا بكلمتين أرسلتا هكذا التماساً لرنين الجَرْس والإيقاع فيهما، ولكنهما عميقتا الدلالة بالنظر إليهما في مرآة حديث ولي العهد الآنف، فالتواصل «يعني انفتاح نوافذ الحوار بالحسنى بين التيارات والمذاهب الدينية المختلفة، والاتفاق مبدأً على حتمية الاختلاف، وكونه في مجمله «رحمة» طالما وعينا تفاوت النظر، وتباين القدرة على التفسير والفهم، ليبقى «التواصل» جسر مودة يشج بين الأفكار، وباسط رحة يسع الجميع دون إقصاء أو تجريح.

وأما شرط العنوان الآخر «تكامل» فتستبطن فيما تسبطن السعي نحو التماس القواسم المشتركة في طوايا الخطابات الإسلامية العديدة، وتخليصها من قتات التطرف، وأشواك الأحكام المُفسقة والمكفرة، في تقبل الأخذ والرد، والرأي والرأي الآخر، وبها مساحة من الاختلاف وتباين التقدير، ما يمكن أن يكون منطلق ثراء لمدونة الفقه الإسلامي، إن صدقت النيات، وبرئت الصدور من غوائل الموجدة على بعضها، وسلمت من مظنة احتكار الصواب ورمي المخالفين بالجهل والمروق عن الدين في سياق يؤسس بشكل فعلي وعملي لمفهوم «الوسطية والاعتدال»، بما تضمنه من محاور تحتشد في ثناياها بالكثير من المعاني التي من شأنها أن توثق العرى والروابط، وتقديم نموذج للتعاون بين أبناء الأمة الإسلامية، وتعيد الخطاب الإسلامي المختطف لمن سخّره لخدمة أجندته السياسية، وأقحمه في أتون معاركه «الدون كيشوتية».

وفي هذا تكمن الدلالة الثالثة للمؤتمر، فالمشاركون فيه يمثلون (85) دولة، وهم من العلماء الأجلاء، والراسخين في المعرفة، والمتنفذين بالموقع والسلطة في ما يتصل بالشؤون الدينية والإفتاء والمشيخات والجمعيات الإسلامية في بلدانهم، بما يمنح مخرجات المؤتمر بعداً عملياً يعصمها من برودة التوصيات التي تظل حبراً مسطوراً في ورق راكد في الأضابير، فالراجح أن تؤسس توصيات هذا المؤتمر لخطاب وسطي يرسخ مبدأ الاعتدال، ويشيع التسامح والسلام بصورة ملموسة على أرض الواقع، ومعاشة في تفاصيل حياة النّاس اليوم تحقيقاً لقول الحق عز وجل (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس).

إن نهوض المملكة العربية السعودية، وقيادتها الحكيمة بهذه المهمة العظيمة، يأتي منسجماً كل الانسجام مع «رؤية 2030»، ورؤيتها العملية للم الشمل العربي والإسلامي، والعمل على وحدة الصف والتلاحم، وإلجام صوت التكفير والتبديع والغلو والتنطع والتحريم بغير حق بشكل يتجاوز الخطابات العاطفية والآمال الكسيحة، وهي جديرة بذلك استناداً لماضٍ تليد، وحاضر مشرق ورؤية مستقبلية تحمل الخير والمحبة والعيش في آمن وسلام.

وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.