كتاب ومقالات

المؤسسات المدنية الخوافة

علي بن محمد الرباعي

ليس من الحكمة إماتة الغايات بالوسائل، ولا تجميد الوسائل بمحاذير واحتمالات لا محل لها إلا في ذهن المُمِيت، والمُجمّد؛ ومصطلح دولة المؤسسات يدور في أوساط النخب منذ نشوء الدولة الوطنية، وكم سمعنا وقرأنا من مناشدات النخب العربية ومطالباتهم بتأسيس وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني.

لم تجنح الدول لإقامة المؤسسات المدنية عبثاً، ولا اضطراراً؛ فهي رافد كبير يعزز دور السُّلطات، ويحد من تغوّلها، ويستنهض خمولها، وهي ليست صورية، ولا شكلية، بل جوهرية، ولا يريدها المشرّع؛ خاوية أو شبحية؛ ينحصر كل دورها في التعقيب والتعليق على ما كُتِب، ظناً أن البقاء في سكون آلية للأمان من ردة فعل ساخطة أو ناقمة عند كل قرار تتخذه، كما أنه ليس المأمول أن تغدو مؤسسات مجتمعية مثيرة للإشكالات والصراعات.

وبما أن أي دولة معنية بتطوير مجتمعها المدني، وباذلة قصارى جهدها في سبيل تعزيز مصداقيتها؛ بما تمنح له من صلاحيات، لإيمانها أنها داعمة لمشروعها الوطني برافد حيوي يسهم فيه النُخب بدور شوري لا صوري، وإجراءات نافذة لا مُعلّقة؛ فالدولة في خضم الانشغال بالأولويات، والانهماك في اعتماد المشاريع والتحالفات تحتاج للطمأنة بأن مُغذياتها المجتمعية تعمل بطاقة وروح إيجابية، ترفع مستويات الوعي بقيمة الوطن، وتتيح فرص الإسهام في البناء بالفكرة والرأي و المرافعة إذا لزم الأمر.

وأتابع مثلاً باعتزاز دور المحاكم الإدارية (المظالم) سابقاً التي تنصف المواطن من أي مؤسسة متى توفرت الحيثيات القانونية والشرعية للإنصاف، ولم تغضب وزارة أو إدارة من المحاكم الإدارية التي تعيد الحق لمن هو له.

ربما كان دور مؤسسات المجتمع المدني في عالمنا العربي مُعلِماً وليس مُلزِماً؛ إلا أنه قام على نسق إداري ومصفوفات قانونية؛ وتضمن مشروع القرار مواد ولوائح تحدد مساره الفاعل، فيما تتولى الإدارة التفعيل والإشراف على تنفيذ الخطط والسياسات التي وضعها النظام.

ولعل أبرز أهداف الدولة من رفع شأن المجتمع المدني إرساء قيم المواطنة والارتقاء بمفهوم الانتماء، ونشر مفهوم الشراكة في صناعة القرار وفق الصلاحيات المتاحة، والتخصصات التي تمنع التداخل، وأعطت كل هيئة أو مؤسسة أو جمعية دورها الرقابي، والإعلامي، والثقافي والأدبي، والتحديثي، ويمكن بحسب الأنظمة الاشتراك في إجراءات التحقيق والمساءلة، في أي قضية تختص بالعضو المنتسب، وإبداء التحفظ، والمساءلة، والإسهام في حفظ الحقوق ومنع التجاوز على الحريات بحسب ما يتيحه نظام الدولة التي يندرج تحت مظلتها المجتمع المدني.

ولا أُبالغ إن قلتُ إن القبائل في مجتمع ما قبل الدولة كانت لها أعراف، وتستعين بالمتخصصين من المهنيين والحرفيين، لإدارة العُرف؛ فالمزارعون لهم مؤسسة مرجعية؛ تضبط زمن وكمية السقيا، والرعاة لهم مؤسسة لصيانة المراعي، والحِمى، وكذا التُجار، والصُّناع، فالمرجعيات للحرف والمهن تحضر عند الخلاف، أو النزاع لتحل الإشكالية بأقل كُلفة ما يريح شيخ القبيلة من عناء متابعة كل التفاصيل اليومية.

ولمؤسسات المجتمع المدني في الغرب بصمات توظّف أحياناً في الباطل، ما يزعزع الثقة في صدقها، كونها مسيّسة أو مؤدلجة، علماً بأن النخب في العالم العربي مؤهلون للاضطلاع بدور أخلاقي ومهني لخدمة المجتمع دون مساس بهيبة ومكانة الوطن.

ولا يمكن لأي دولة وطنية أن تعمل على إضعاف مؤسساتها أو ترضى عن مؤسسة وجودها كعدمها، فأي توجه مدني يصب في خانة رفد قوة الدولة وإعلاء شأن مأسستها وتحسين صورتها، فالواجب على المعنيين به والمنتسبين إليه أن يبذلوا قصارى الجهد في استثمار كافة البنود لإبراز الوجه المشرق لمؤسستهم ولدولتهم.

لا ريب أن الدولة تعرف جيداً تلك الجمعيات والهيئات ومن يقوم عليها، ولن تتذمر من أداء المؤسسة طالما كان في إطار صلاحياتها وغاياتها التي تأسست من أجلها، إلا أن بعض مجالس الادارات يقبلون بقصور أداء مؤسسات المجتمع المدني بذريعة (ما احنا ناقصين وجع دماغ).

كم لدينا من مؤسسة وجمعية وهيئة في الوطن العربي تضم كوادر على درجة عالية من التأهيل والمهارة، وصلاحياتها واسعة فلماذا تُضيّق؟ أو تُمات الصلاحيات؟ أو تتجمد الأنظمة؟ ولا تُفعّل تفعيلاً إيجابياً وموضوعياً دون استفزاز، أو إثارة لصناعة بروباغندا؟

من الملاحظ غياب الكثير من المتطلعين لمؤسسات المجتمع المدني عن زيارة المؤسسات والجمعيات والهيئات، وربما لا يتحدثون عنها؛ فلا يُشيدون بإيجابية (إلا قليلا) وإذا ما جاءت سيرتها صبوا عليها حميم النقد، وهذا منافٍ للعدل والموضوعية، ثم لماذا طالبتم بها طالما لن تُسهموا في ترسيخ دورها وتعميم نشاطها؟ ولماذا تتحول المشاعر لتسلّط ونقد جارح؟

وختاماً؛

هل فعلاً تعاني مؤسسات المجتمع المدني من فوبيا؟ وتخاف إغضاب أي مسؤول؟ إن كان ذلك كذلك؛ فالخائف لن يعمل، وإن عمل لا يُتقن، وحينها ستتشوّه صورة مؤسسات المجتمع، لا بسبب الحكومات، بل بسبب مجالس الإدارة التي تتطلع للرضا عنها ولو بالسلبية.