الشيشة والشاي والثقافة !
الجمعة / 09 / صفر / 1445 هـ الجمعة 25 أغسطس 2023 00:12
محمد مفتي
في إحدى أمسيات نهاية الأسبوع، اجتمع عدد من الأصدقاء معاً في سهرة معتادة لتناول العشاء، اصطفت أمامهم أباريق الشاهي وصحون المكسرات، كان هؤلاء الأصدقاء يجتمعون لتبادل الأحاديث الممتعة بعيداً عن هموم ومشاغل الحياة، كان الحوار ودياً وممتعاً غير أنه كان متقطعاً لا يجمعه موضوع واحد، فقد كان خليطاً من موضوعات متداخلة، فكّر أحدهم أن يجذب انتباه الجميع ويوحِّد الحديث حول موضوع واحد فقط بحيث يقضون ليلتهم يتبادلون أطراف الحوار بشأنه قبل حلول موائد الطعام المنتظر.
طُرحت العديد من الموضوعات التي تشعبت شرقاً وغرباً حتى استقر الحوار حول الحرب الروسية الأوكرانية، وهو الموضوع الذي يشغل بال الجميع ويتعلق باحتمالية نشوب حرب عالمية ثالثة لا تُبقي ولا تذر، كان موضوع الحرب الروسية الأوكرانية منذ اندلاعها أحد أهم الموضوعات المطروحة للنقاش داخل غالبية التجمعات؛ سواء كانت عائلية أو لقاءات بين الأصدقاء، ولطالما استقطبت اهتمام الناس ودفعت غالبيتهم للشعور بالفضول البالغ لمعرفة آخر تطوراتها واستنتاج تأثيراتها المحتملة على بقية دول العالم.
وهنا سحب أحدهم (كان يتصدر المجلس) الوسادة التي كانت بجواره واتكأ عليها، وقد تبدت على ملامحه معالم الراحة والانسجام، جذب الشيشة إليه ثم بدأ يقلِّب في فنجان الشاي الذي ارتشف قليلاً منه، بدأت ترتسم على وجهه علامات التفكير العميقة، وبعدها قال للحضور بصوت مرتفع سأخبركم أنا بالأسباب الحقيقية وراء اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا؛ فالتغطية الإعلامية سطحية ولا تكشف الدوافع البعيدة والعميقة للأزمة التي لا يعرفها سوى المحللين والمتخصصين.
شدت هذه المقدمة انتباه الحاضرين، فاعتدل في جلسته مستهلاً حديثه بما أطلق عليه الجذور التاريخية للأزمة، غاص خلالها بعيداً مُنقِّباً عن أسباب ودوافع لا يعرفها الجميع، كما يقول، فعاد بالزمن لما قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية وما بعدهما، أنصت الجميع مشدوهين ولم يقاطعه أحد، فأخذه الحماس واستمر في الاستطراد إلى أن بدأ يخلط بين القضايا والموضوعات وبين بعضها البعض مدلياً بدلوه في كل شأن (حتى في أسرار القنبلة النووية!) طال الشرح وتشوشت الأفكار والمتحدث لم ينته من شرحه المُسهب وتحليلاته الخاصة بعد.
في ظل الصمت المسيطر على الحضور تبادل بعضهم النظرات المتسائلة؛ فالمتحدث -على حدِّ علمهم- لم يقرأ كتاباً واحداً في حياته ولم يُعرف عنه من الأساس حب القراءة أو الاطلاع، فأقصى ما يمكنه فعله هو متابعة عابرة لنشرات الأخبار الرسمية والاطلاع على عناوين الصحف سريعاً، فعلى أي أساس استند لتكوين رأي خبير لمناقشة قضية شغلت الرأي العام العالمي؟ وكيف استطاع ذكر كل هذا القدر من المعلومات غير الموثقة؛ التي لا ترقى لأن تكون أكثر من مجرد استنتاجات أغلبها محض خيال؟!
لكن بعض الحضور كانوا يفتقرون للنظرة الثاقبة التي تمكنهم من الحكم على الأمور وانتابهم -بدلاً من ذلك- شعور قوي بالانبهار بالمعلومات الغزيرة التي سردت على مسامعهم، فهم أيضاً ليس لديهم الوقت أو الرغبة في قراءة الكتب لانشغالهم الدائم بأعمالهم وبمشاغل الحياة، كان انبهارهم منبعه شعورهم بأن المتحدث مثقف ثقافة عالية، وفي ظل حالة الإعجاب البالغة التي شعر بها البعض سأل أحد الحاضرين المتحدث بصفاء نية: من أين حصلت على كل هذا القدر من المعلومات؟ وما الأدلة على صحة ما ذكرت؟ توقف المتحدث عن الكلام قليلاً ونظر له نظرة طويلة، وقبل أن يضطر للإجابة أنقذته العناية الإلهية وحضرت موائد الطعام، فابتسم وهو يطالع الأطباق العامرة قائلاً: دعونا نتناول طعامنا أولاً ثم نكمل الحديث لاحقاً بعد العشاء.
بعد العشاء حاول المتحدث التملص من السائل اللحوح، غير أن الأخير كان مصراً على معرفة مصدر معلوماته، أعاد السؤال مراراً وتكراراً، وفي كل مرة كان يجد عذراً لعدم الرد على السؤال؛ فتارة يتلقى اتصالاً هاتفياً مهماً وتارة أخرى كان عليه هو أن يجري هذا الاتصال المهم، وفي النهاية عندما لم يجد حلاً لتجنب إلحاح السائل رفع صوته عالياً محيياً الجميع بابتسامة رسمية قائلاً: معذرة للجميع فعليَّ الرحيل الآن، ثم جمع أغراضه على عجل وغادر المكان مسرعاً دون أن تلتقي عيناه بعيني سائله الذي يبدو أنه فطن لحقيقة الأمر أخيراً.
ما سردته هنا هو مجرد نموذج لفئة المتعالمين من مدعي الثقافة ممن لم يقرؤوا كتاباً واحداً في حياتهم، ومع ذلك نجدهم في كل مناسبة وقد انبروا لسرد أيِّ -وكلِّ- حدثٍ وتحليله ونقده دون حتى أن يمتلكوا أبسط أدوات التحليل والنقد، فهم يبحثون عن النشوة والإرضاء النفسي الكاذب لكونهم مؤثرين في الآخرين، فهم ما إن يتكلموا حتى ينصت الجميع، ولا شك لدينا في أن هذه الفئة المدعية لن تتوقف عن الادعاء من تلقاء نفسها، غير أن الأمل معقود على هؤلاء القادرين على فضح أمثالهم، فترك الحبل على غاربه لكل من كان ليدلي برأيه فيما لا يفقه فيه شيئاً سيؤدي لبلبلة عظيمة وفوضى قد يتسع نطاقها لتؤذي بدلاً من أن تنفع.
طُرحت العديد من الموضوعات التي تشعبت شرقاً وغرباً حتى استقر الحوار حول الحرب الروسية الأوكرانية، وهو الموضوع الذي يشغل بال الجميع ويتعلق باحتمالية نشوب حرب عالمية ثالثة لا تُبقي ولا تذر، كان موضوع الحرب الروسية الأوكرانية منذ اندلاعها أحد أهم الموضوعات المطروحة للنقاش داخل غالبية التجمعات؛ سواء كانت عائلية أو لقاءات بين الأصدقاء، ولطالما استقطبت اهتمام الناس ودفعت غالبيتهم للشعور بالفضول البالغ لمعرفة آخر تطوراتها واستنتاج تأثيراتها المحتملة على بقية دول العالم.
وهنا سحب أحدهم (كان يتصدر المجلس) الوسادة التي كانت بجواره واتكأ عليها، وقد تبدت على ملامحه معالم الراحة والانسجام، جذب الشيشة إليه ثم بدأ يقلِّب في فنجان الشاي الذي ارتشف قليلاً منه، بدأت ترتسم على وجهه علامات التفكير العميقة، وبعدها قال للحضور بصوت مرتفع سأخبركم أنا بالأسباب الحقيقية وراء اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا؛ فالتغطية الإعلامية سطحية ولا تكشف الدوافع البعيدة والعميقة للأزمة التي لا يعرفها سوى المحللين والمتخصصين.
شدت هذه المقدمة انتباه الحاضرين، فاعتدل في جلسته مستهلاً حديثه بما أطلق عليه الجذور التاريخية للأزمة، غاص خلالها بعيداً مُنقِّباً عن أسباب ودوافع لا يعرفها الجميع، كما يقول، فعاد بالزمن لما قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية وما بعدهما، أنصت الجميع مشدوهين ولم يقاطعه أحد، فأخذه الحماس واستمر في الاستطراد إلى أن بدأ يخلط بين القضايا والموضوعات وبين بعضها البعض مدلياً بدلوه في كل شأن (حتى في أسرار القنبلة النووية!) طال الشرح وتشوشت الأفكار والمتحدث لم ينته من شرحه المُسهب وتحليلاته الخاصة بعد.
في ظل الصمت المسيطر على الحضور تبادل بعضهم النظرات المتسائلة؛ فالمتحدث -على حدِّ علمهم- لم يقرأ كتاباً واحداً في حياته ولم يُعرف عنه من الأساس حب القراءة أو الاطلاع، فأقصى ما يمكنه فعله هو متابعة عابرة لنشرات الأخبار الرسمية والاطلاع على عناوين الصحف سريعاً، فعلى أي أساس استند لتكوين رأي خبير لمناقشة قضية شغلت الرأي العام العالمي؟ وكيف استطاع ذكر كل هذا القدر من المعلومات غير الموثقة؛ التي لا ترقى لأن تكون أكثر من مجرد استنتاجات أغلبها محض خيال؟!
لكن بعض الحضور كانوا يفتقرون للنظرة الثاقبة التي تمكنهم من الحكم على الأمور وانتابهم -بدلاً من ذلك- شعور قوي بالانبهار بالمعلومات الغزيرة التي سردت على مسامعهم، فهم أيضاً ليس لديهم الوقت أو الرغبة في قراءة الكتب لانشغالهم الدائم بأعمالهم وبمشاغل الحياة، كان انبهارهم منبعه شعورهم بأن المتحدث مثقف ثقافة عالية، وفي ظل حالة الإعجاب البالغة التي شعر بها البعض سأل أحد الحاضرين المتحدث بصفاء نية: من أين حصلت على كل هذا القدر من المعلومات؟ وما الأدلة على صحة ما ذكرت؟ توقف المتحدث عن الكلام قليلاً ونظر له نظرة طويلة، وقبل أن يضطر للإجابة أنقذته العناية الإلهية وحضرت موائد الطعام، فابتسم وهو يطالع الأطباق العامرة قائلاً: دعونا نتناول طعامنا أولاً ثم نكمل الحديث لاحقاً بعد العشاء.
بعد العشاء حاول المتحدث التملص من السائل اللحوح، غير أن الأخير كان مصراً على معرفة مصدر معلوماته، أعاد السؤال مراراً وتكراراً، وفي كل مرة كان يجد عذراً لعدم الرد على السؤال؛ فتارة يتلقى اتصالاً هاتفياً مهماً وتارة أخرى كان عليه هو أن يجري هذا الاتصال المهم، وفي النهاية عندما لم يجد حلاً لتجنب إلحاح السائل رفع صوته عالياً محيياً الجميع بابتسامة رسمية قائلاً: معذرة للجميع فعليَّ الرحيل الآن، ثم جمع أغراضه على عجل وغادر المكان مسرعاً دون أن تلتقي عيناه بعيني سائله الذي يبدو أنه فطن لحقيقة الأمر أخيراً.
ما سردته هنا هو مجرد نموذج لفئة المتعالمين من مدعي الثقافة ممن لم يقرؤوا كتاباً واحداً في حياتهم، ومع ذلك نجدهم في كل مناسبة وقد انبروا لسرد أيِّ -وكلِّ- حدثٍ وتحليله ونقده دون حتى أن يمتلكوا أبسط أدوات التحليل والنقد، فهم يبحثون عن النشوة والإرضاء النفسي الكاذب لكونهم مؤثرين في الآخرين، فهم ما إن يتكلموا حتى ينصت الجميع، ولا شك لدينا في أن هذه الفئة المدعية لن تتوقف عن الادعاء من تلقاء نفسها، غير أن الأمل معقود على هؤلاء القادرين على فضح أمثالهم، فترك الحبل على غاربه لكل من كان ليدلي برأيه فيما لا يفقه فيه شيئاً سيؤدي لبلبلة عظيمة وفوضى قد يتسع نطاقها لتؤذي بدلاً من أن تنفع.