كتاب ومقالات

السعودية في فكر الإمام موسى الصدر

السيد محمد علي الحسيني

يشهد تاريخ المملكة العربية السعودية أنها كانت ولا تزال بموقعها الإسلامي وبعمقها العربي تمد جسور التواصل مع جميع أبناء الأمة الإسلامية، خصوصاً المميزين فيها من علماء وفقهاء ومفكرين وأصحاب رأي ووجهاء دون تمييز بين المذاهب والطوائف، كيف لا وهي مهبط الوحي والرسالة، لذلك كانت تتواصل باستمرار مع نخبة الأمة لبناء علاقات متينة معهم بما يخدم مصالح المجتمعات الإسلامية، على رأسها الإمام السيد موسى الصدر رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، هذا الإمام العالم المنفتح بفكره ونهجه والذي كان شخصية متفردة في رؤيتها وأفكارها المنطلقة إلى العالم العربي والإسلامي دون قيود، ولم تتأخر المملكة يوماً عن التواصل بالسيد الصدر نتيجة نشاطه ومكانته العلمية والفكرية التي حظي بها في لبنان والمنطقة كلها، بما يمثل من وسطية واعتدال عند الطائفة الشيعية.

شكلت المملكة العربية السعودية محطة مهمة في حياة السيد موسى الصدر، وكانت تجمعه علاقة قوية بملوكها وعلمائها، فتكررت زيارته لها، لأنه كان يعي تماماً مكانتها الروحية والتاريخية والإستراتيجية باعتبارها قبلة الإسلام ومنارة العلماء ومجمع المذاهب بكل تنوعها وأطيافها، وكان على بينة أن المملكة عملت على جمع كلمة الأمة الإسلامية وحرصت على وحدتها في ظل كل التحديات التي عصفت بها، وكان يرى في ملوك المملكة حماة للإسلام ويتحملون مسؤولياتهم في الدفاع عن هوية الأمة وعقيدتها بكل بسالة وحكمة، وأثنى في كل مرة على المملكة ودورها الكبير في تحقيق السلم في لبنان من خلال عملها الدؤوب ووساطتها الدبلوماسية لجمع الأفرقاء لحل الأزمات السياسية المتعاقبة والشائكة في لبنان خصوصاً الحرب الأهلية التي أحرقت الأخضر واليابس.

التقى السيد موسى الصدر بالملك فيصل بن عبدالعزيز (رحمه الله) في الرياض عام 1974، فنسج علاقات طيبة مع القيادة الرشيدة في السعودية سواء مع الملك فيصل (رحمه الله) ومن بعده مع أخيه الملك خالد (تغمده الله بواسع رحمته)، وكان كل مرة يزور فيها المملكة رسمياً يستقبل بحفاوة لا نظير لها كشخصية إسلامية معتدلة تدعو إلى الأخوة الإسلامية ونبذ التطرف وخطاب الكراهية والفتنة، كما دعي الإمام إلى إلقاء كلمة أمام الملك خالد والوفود الإسلامية في مكة المكرمة ولهذا دلالة على ثقة وعمق اهتمام السعودية بهذا العالم الشيعي المميز بفكره ونهجه، والثقة به، وكانت كلمته مؤثرة قال فيها: «أهمية اللقاء الذي جمع بين القادة والشعوب بين شتى الألوان والعناصر، لقاء حول خادم الحرمين الشريفين، ويا واصل المستقبل المشرق بماضي الأمة المجيد، هذا اللقاء الفريد نموذج عما يحصل حول الكعبة، ليس نابعاً فحسب من تطور الإنسان المعاصر، بل يعود إلى وضع المملكة بالذات فقد هيأ الله لحماية بيته رجلاً لا كالرجال وهبه القوة والهمة ورؤية الآفاق الواسعة حتى يكتب هو وأبناؤه الأبطال فصلاً آخر في تاريخ بيت الله الحرام، وإننا نشعر باطمئنان وارتياح إذ نجد خادم الحرمين الشريفين حامياً لقلب الإسلام والكعبة وسينجح بعناية الله.... إن موقف المملكة يا صاحب الجلالة من أحداث لبنان لما تحملته من خلق إرادة عربية موحدة..».

ظلت المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها داعمة لخط الاعتدال والوسطية ومنفتحة على جميع المذاهب الإسلامية مكرمة لأصحاب هذا الفكر ومد الجسور معهم، ومن هنا كانت وفية للسيد موسى الصدر فأقامت السفارة السعودية في بيروت عام 2017 حفلاً تكريمياً للإمام تحت عنوان: «الإمام موسى الصدر نهج واعتدال»، ضمن الملتقى الثقافي الثالث، دعت له مجموعةً من شخصيات المجتمع اللبناني بكل فئاته وأطيافه، احتفاء بدور الصدر وموقعه في المجتمع اللبناني وعلاقاته الإيجابية مع مختلف قواه، وكذلك مع الوسط العربي بشكل عام.

إن السعودية كانت تنظر إلى الإمام نظرة احترام وتقدير لما لعبه من دور في تجسير علاقة إيجابية بناءة مع الداخل اللبناني رغم كل تعقيداته السياسية والطائفية، بل نسج شبكة علاقات حسنة مع الجميع، كما تمكّن بانفتاحه وإيجابيته من الانفتاح والتفاعل مع المحيط العربي بكل أريحية ومودة، فكانت له كما قلنا علاقات وصلات ولقاءات مع كبار المسؤولين في السعودية على رأسهم الملك فيصل والملك خالد (رحمهما الله) وغيرهما من رجالات الدولة.

إن تكريم المملكة لشخصية السيد موسى الصدر يحمل في طياته رسائل إيجابية عميقة، وتؤكد على انفتاحها على جميع الأطياف، واهتمامها بتعزيز مشاريع الحوار ومبادرات اللقاء بين جميع الفرقاء، ودعمها لاتجاهات الاعتدال في المجتمعات العربية التي تعمل على نزع فتيل التوتر في مجتمعاتها، وتجتهد لإبراز الجوامع المشتركة وتأكيد التعددية والتنوع في محيطها وتكريس مبادئ الوحدة.

إن السعودية تسعى إلى تجديد الخطاب الديني المنسجم مع قيم الإسلام السمحة بإعادة التأكيد على أهمية الرموز الدينية المعتدلة التي تم تغييبها عن الساحة وما نتج عن ذلك من فراغ ملأته الألسن والأيدي والقنوات التي لا تعرف للحوار منهجاً وسبيلاً.

إن خطوة المملكة في تكريم عالم عظيم مثل السيد موسى الصدر هي خطوة رائدة تذكرنا بسيرة شخصية فذة نادرة في عالمنا العربي نحن أحوج ما نكون إليها لتوحيد الصفوف، ولمّ الشمل وتعزيز المشتركات، والعمل على تعزيز التواصل وتنمية العلاقات الإيجابية والوحدوية، ولهذا فإن مبادرة كهذه التي دشّنتها سفارة المملكة في بيروت تستحق الإشادة والدعم في حسن اختيار الشخصية المناسبة التي أجمعت عليها الأمة من أدناها إلى أقصاها.