كتاب ومقالات

المملكة.. استشعار مبكر لأخطار الذكاء الاصطناعي

نجيب يماني

كعهد المملكة وريادتها في استشعار مساقط الخطر على البشرية، وسرعة الاستجابة لكل التنبيهات والمؤشرات التي من شأنها أن تقي العالم من التداعيات المحتملة لأي كارثة متوقعة من أي مصدر كان، جاءت استجابتها الفورية للمناذير والمحاذير المتعلقة بسوء استخدام الذكاء الاصطناعي، بإعلان مجلس الوزراء مؤخرًا عن إنشاء «المركز الدولي لأبحاث وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي» مقره مدينة الرياض، ويتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، بما يمكن اعتباره أسرع رد فعل دولي، وأبلغ استجابة لما ظل أصحاب الاختصاص في الذكاء الاصطناعي يلوحون به من أخطار ونذر مهددة، والتي بلغ صدى النذير مداه فيها مع تحذير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وهو يحث العلماء والخبراء إلى إعلان أنّ الذكاء الاصطناعي تهديد وجودي للبشرية، لا يقل عن الحرب النووية، وأن «هناك إمكانات هائلة في استخدام الذكاء الاصطناعي، لكن من الواضح أن هناك مشاكل خطيرة أيضًا، تتمثل في إمكانية إلغاء قرار البشر».

وليس في كلمة الأمين الأممي أي تهويل سينمائي، أو تخويف بلا مسوغات موضوعية؛ بل على العكس من ذلك جاء بنبرة أهدأ بكثير من حقيقة الخطر الداهم الذي ينتظر البشرية وربما يؤدي إلى انقراضها، الأمر الذي استشعره إيلون ماسك Elon Musk، صاحب الاختراعات المذهلة في مجال الذكاء الاصطناعي، وطالب على إثره بلجم هذا التطور الكارثي، الذي يكاد يخرج عن السيطرة، بإمكانية امتلاك الذكاء الاصطناعي لحرية اتخاذ القرارات، وعدم الانصياع للقرار البشري، بما يعني بداهة الوقوع تحت رحمته بما يملكه من إمكانيات تفوق بكثير جدًّا من صنعه.

وحتى لو بدا للبعض أن هذا ضرب من الشطط والخيال العلمي غير المنضبط، فإن المنجز من الذكاء الاصطناعي اليوم ما يهدد بالفعل حياة البشر، ويكاد يلغي وجودهم بالكلّية.. انظر إلى نموذج «chatgpt» وقدراته المذهلة في التقليد والمحاكاة وإجراء المحادثات والرد على الاستفسارات، وقدرته على إنشاء الشفرات وفك الأكواد البرمجية، وحل كافة المشاكل البرمجية، بل يذهب أكثر من ذلك بإنجاز الفروض الأكاديمية بكتابة البحوث، والنصوص الإبداعية بكل أنواعها وأنماطها، وعلى ذوق من يريد، وبالطريقة التي يرغب فيها، وبالأسلوب الذي يحبه، ويمضي أبعد بتأليف الأغاني من كلمات وموسيقى وتأديتها بالصوت الذي ترغب فيه، بما يعني باختصار «موت الموهبة»، وانتشار الفوضى، وعدم القدرة على السيطرة على أي شيء، أو الموثوقية في أي شيء..!

إن الخطر لا يقف عند هذا الحد، فالذكاء الاصطناعي في طريقه إلى إلغاء أكثر من 80% من الوظائف، حسب تقديرات كثير من الجهات المتصيّدة لخطر هذه التقنية، وليست أي وظائف هامشية، إنما هي وظائف جوهرية وأساسية كالأطباء في أعلى التخصصات، والممرضين، والمعلمين، والمذيعين، إلى آخر القائمة؛ بل إن الخطر يتهدد حتى مهندسي البرمجيات أنفسهم، حيث سيتولى المهمة عنهم «ربوت» شقي، ينجز في ثوانٍ معدودة ما يكد ويتعب فيه جيش من البرمجيين. فحين النظر إلى هذه التغيرات الدراماتيكية المهولة والمتوقعة، يبين لنا حجم الخطر الماحق، فليست القصة في وظائف ستلغى، ولكنها منظومة حياة مرتبطة ببعضها كقطع الدومينو ستنهدم وتنهار؛ فتلاشي وظيفة الطبيب مثلاً تعني انتهاء دور كليات الطب وحذفها من قائمة الجامعات، ويشمل هذا كليات التربية المخرّجة للمعلمين، وكليات الإعلام، ويعني بداهة إغلاق جامعات كاملة لعدم الحاجة إلى خريجيها.. أرأيتم أي فوضى سنقبل عليها قريبًا..؟!

على أن التهديد الوظيفي ليس هو الخطر الحقيقي الذي ينذرنا به الاستغلال السيئ للذكاء الاصطناعي، وإنما الخطر كل الخطر يتبطن في قدرته على الاختراق وإلغاء أي مظهر للخصوصية سواء على مستوى الأفراد والمجتمعات أو حتى الدول، وقدرته على التقمص والانتحال، وإشاعة الحيرة وعدم الموثوقية في أي شيء يطرح، أو يعرض، وهو ما يجعل من محاكمة أي فرد على تصرفاته أمرًا في غاية العسر، لعدم القدرة على التثبت من حقيقة اقترافه للفعل أو الموثوقية مما ينسب إليه من كلام حتى ولو كان ذلك بالصورة والصوت معًا، فلا شيء سيبدو حقيقًا غير قابل للشك على الإطلاق!

وأخطر الخطر عندما تكتمل للذكاء الاصطناعي أشراط امتلاك الإرادة الحرّة مع «الربوت الشعوري»، الذي يلوّح به المغامرون، وهذا يعني إخراج «العفريت» من قمقمه، وإعطاءه المساحة للسيطرة على الكوكب، بشكل كامل.. على نحو ما كنا نشاهد في أفلام الكرتون، وكنا نحسب ذلك ضربًا من الخيال الجامح، فإذا هو اليوم حقيقة ماثلة!

بإزاء كل هذه الأخطار وغيرها، فإن مبادرة المملكة بإنشاء مركز لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي يضعها في المسار الصحيح، ويعصم تجربتها الناجحة في مجال استخدام هذه التقنية الحديثة من الانحراف عن مسار الفوائد المرجوّة، كما يضع العالم أجمع أمام مسؤولياته في تدارك الخطر قبل وقوعه، والسعي نحو توجيه هذه التقنية واستغلالها بالقدر الذي يضيف جديدًا نوعيًا في مسيرة التنمية، ويسهّل عسيرًا لم يكن ممكنًا إنجازه من قبل.