ما حد مستريح حتى هبّ الريح
الجمعة / 14 / ربيع الأول / 1445 هـ الجمعة 29 سبتمبر 2023 00:12
علي بن محمد الرباعي
خرجت القرية بورعانها وكرعانها، للتحضير للخُرفة (جني التمر) من نخل وادي العقيق، وبقي (بطيح) مُكلّفاً بحراسة القرية، وقضاء لوازم البيوت، وبعد مغرب أوّل يوم من مغادرة الجماعة نحو البادية، قالت زوجة بطيح، أفزع يا رجال، أشوف أسفل الدار ضوء يتحرك، وزول أوادم يبدي ويطمي، فقال، ألحقيني! علّقت أمه، عندكم يا أهل الحدة، فدخل العُليّة، ودخلت وراه، وطلب منها تلبسه المقلد، وتحزمه بالمسبت، وتربط وسطه بالجنبية، وأخذ كشافه بيد، والمشعاب في الأخرى، واعتزى بابنته (بطحة) وهو نازل من الدرج، وبعدما تناصف الطريق، نخرت حمارة من تحت جناح جيرانه، فشرد، وتساقطت أسلحته في الطريق، وعاد وقلبه بينخلع، وأقسم إن اللي شافتهم حرمته جنّ، وقال، ما غير ليحي الباب، وردّي الرصد، عسى ما يبقى في القرية مخلوق، فارتدت أمه شرشفها على ثمها، وهي تضحك وتردد، ثقّلت على عمرك يا سبع الغداري، بالجنبيّة والفرد والمسبت والعقال العراقي، وين غدت أسلحتك اللي بغيت تتوي بها الغُرْب.
عاد المحضّرة، وكل منهم معه قِرى جمل، تمر هليل، ورطب، وعِدل وجواليق (اللي بثمنه واللي شُكادة) و(لِقِط) مصنوع من حليب الماعز، يداوون به المعلول بفركه فوق الفريقة، وأثناء حِضّارهم لقيوا (الشاعر الفحل) فعزموه، على زواج ولد العريفة، فندف صدره وقال، أبشروا بي، وما صرموا الخريف، حتى رزوا خيمة وسط الدار، وجهزوا كل ما يلزم من القدور والصحون والفناجيل والطيس، وعلى كل راعي ماعون أن يضع ماريّة لماعونه، عشان ما تنشب النشايب (حقي حقك) وقراهم أول يوم على لحم ثور، تفاولوا على كبدته والمعلّق، وجذّوا ثلاثة أرباعه للعشاء، وبقوا ورك للفال.
انقلط (هبّ الريح) من ثُغره في ركن الشقيق، على جدته في السِفل، ففزعت، وكادت تسقط القازة من يدها، وضعت كفها اليمنى على صدرها، مرددة (يا الله إن عقلي وداعتك، بسم الله على لحمي ودمي ودسمي) وما أمداها تسترد هدوءها حتى باغتها بسؤال، وش تفتشين له يا جدة في السافلة؟ فأجابته بضيقة، وش عليك مني تراقبني، انحا أمك فوق ترضعك إن كان ما بعد فطمتك، ردد الله وأكبر يا جدة، تدسين عني وأنا زبيب غُرزتك؟.
وعدته تقسم له من غلّتها، إذا روّح لها غنمها، من فوق المقبرة، وما صدّق على الله يسمع منها هذا الوعد الحالم، فانطلق فوجد الشاة المعسّر ولدت، فعاد يحمل رخلها بين ذراعيه، والشاة تلاحقه وتهذي، والغنم في ساقته، تفدته الجدة بحياتها، وهي تتابعه ينظّف الرخلة المولودة، فأخرجت من غرزتها قسبة ودستها في جيبه، فقال، لقيتها قِدْ وِلِدَتْ، علّقت الجدة، ما علّمتك وقلت لك خلها ترعى حول المقبرة، الرعي بالمعسّر من الحلال حولها ينفّس عنها.
أبلغ جدته أنه لمح الشاعر البدوي، داخل للقرية، وفي كفه خيزرانة، ويتمتم ويفتّل شنباته، قالت، وشبك نسيت إن اليوم زواج (فارعة) على ولد العريفة، سألها، ما بتروحين مع العروس، فقالت، إلّا لكن بعدما أرضّع بهمي، واحلب غنمي، وبعد صلاة العصر نلفي عليهم، فقال، دخيلك تسلمين لي على (فُرْعة)، وتقولين (هبّ الريح) بيأخذك ويسافر بك عند خاله في المدينة، قالت، حلْ عنها، ما حد قد ذكرهم بخير، وتباركوا بالنواصي والأقدام، فقال، من ركبتي ما آخذ إلا فُرعة.
تعشّت القرية والضيوف، على المقسوم من لحم الثور، وصاح الفقيه، دُقوا الزير، إن كان لنا سنة ننتظر العرضة وأنتم تتمطعون في القُماش، وبدأ الشاعر يلالي قبل بدء القصيدة، ولمح زولاً فوق البيت المجاور لميدان العرضة، فضيّع المحراف، وصار يردد، ايوه يا لا لا لاه، ايوه الله الله: وش يقول ياخي، ثم التحقها، وقال، (طلبت الله تبدّى يا سلامي على جدّ وخال) صاحوا العرّاضة، وخال، ورزت العرضة صفوفها، وفي كل ركن علقوا اتريك، والشاعر يبدع ويرد على نفسه، وأبو سعد يحصي الأبيات، محراف، محرافين، ويشرح المعاني، لين قال الشاعر (القالة اللي قرنها بالسما متعالي، جاها البطل بالليل وأرخى قرونها) فقال أبو سعد للعريفة، نصيحة هُدّ العرضة، فقام مهللاً ومكبراً، فتفرق الجميع.
خصّ العريفة، الفقيه، والمؤذّن، والتاجر، بعزيمة للسمرة، وقال، بنطلع (الطيرمة) نتقهوى ونسمع قصايد من الشاعر، وكان الفقيه يتمعرف، فبدع على لحن السامر (عسى شاعر البدوان ما يلحقه مكروب، ولو يلحقه مكروب ما عنه نشادي) فانتبه الشاعر للمعنى وردّ (فقيه الحضر سمنه على ملّته مكبوب، بغى يشتوي له فرفره واحرق الوادي) فضحكوا وقال العريفة، ها نعمة تسدك يا فقيه خذها وارقد عليها.
مدّ الله مع (هبّ الريح) وسافر للعمل في مدينة رزقها وفير، وعاد بالكساوي والعطاوي، وخطب (فُرعة) وعقد عليها، وانتقلها معه، والكُلّ يهنّي له، ويمنّي نفسه بحظّ مثل حظّ هبّ الريح، وقضى سنين في المُدن، ثم عاد للقرية، ومعه كرسي، يضعه في فيّة جدار بيته، وينصب ظهره وتبدي سنونه من الوجع، والناس يحسبونه يتبسّم، وكل ما أحد مرّ عليه، يقول، ما حد مستريح مثل هبّ الريح.
زاره العريفة وفي خاطره يتخبّر عن سرّ راحته، وانتصاب قامته، فأقسم للعريفة، ما يقدر يبزّ شِبر من فوق كُرسيّه، ليقوم يسلّم عليه، فسأله، عسى ما خلاف، فهشلها يبكي، ويتعوّل على العريفة، قائلاً، تخشّب ظهري يا كبيرنا، فنشده، من أيش، فقال، هذي المخلوقة، لا تحلل ولا تحرّم، حشّفتني ونشّفتني، وشيّلتني حمل ثقيل، ونخرت صُلبي نخر الدبرة للعود، وما أرتاح إلا إذا سندت ظهري، ونصبت قامتي، عشان يخف ألم الناصور، فقام العريفة وغادر من عنده وهو يرفع صوته، أُثر ما فيه مستريح حتى هبّ الريح.
عاد المحضّرة، وكل منهم معه قِرى جمل، تمر هليل، ورطب، وعِدل وجواليق (اللي بثمنه واللي شُكادة) و(لِقِط) مصنوع من حليب الماعز، يداوون به المعلول بفركه فوق الفريقة، وأثناء حِضّارهم لقيوا (الشاعر الفحل) فعزموه، على زواج ولد العريفة، فندف صدره وقال، أبشروا بي، وما صرموا الخريف، حتى رزوا خيمة وسط الدار، وجهزوا كل ما يلزم من القدور والصحون والفناجيل والطيس، وعلى كل راعي ماعون أن يضع ماريّة لماعونه، عشان ما تنشب النشايب (حقي حقك) وقراهم أول يوم على لحم ثور، تفاولوا على كبدته والمعلّق، وجذّوا ثلاثة أرباعه للعشاء، وبقوا ورك للفال.
انقلط (هبّ الريح) من ثُغره في ركن الشقيق، على جدته في السِفل، ففزعت، وكادت تسقط القازة من يدها، وضعت كفها اليمنى على صدرها، مرددة (يا الله إن عقلي وداعتك، بسم الله على لحمي ودمي ودسمي) وما أمداها تسترد هدوءها حتى باغتها بسؤال، وش تفتشين له يا جدة في السافلة؟ فأجابته بضيقة، وش عليك مني تراقبني، انحا أمك فوق ترضعك إن كان ما بعد فطمتك، ردد الله وأكبر يا جدة، تدسين عني وأنا زبيب غُرزتك؟.
وعدته تقسم له من غلّتها، إذا روّح لها غنمها، من فوق المقبرة، وما صدّق على الله يسمع منها هذا الوعد الحالم، فانطلق فوجد الشاة المعسّر ولدت، فعاد يحمل رخلها بين ذراعيه، والشاة تلاحقه وتهذي، والغنم في ساقته، تفدته الجدة بحياتها، وهي تتابعه ينظّف الرخلة المولودة، فأخرجت من غرزتها قسبة ودستها في جيبه، فقال، لقيتها قِدْ وِلِدَتْ، علّقت الجدة، ما علّمتك وقلت لك خلها ترعى حول المقبرة، الرعي بالمعسّر من الحلال حولها ينفّس عنها.
أبلغ جدته أنه لمح الشاعر البدوي، داخل للقرية، وفي كفه خيزرانة، ويتمتم ويفتّل شنباته، قالت، وشبك نسيت إن اليوم زواج (فارعة) على ولد العريفة، سألها، ما بتروحين مع العروس، فقالت، إلّا لكن بعدما أرضّع بهمي، واحلب غنمي، وبعد صلاة العصر نلفي عليهم، فقال، دخيلك تسلمين لي على (فُرْعة)، وتقولين (هبّ الريح) بيأخذك ويسافر بك عند خاله في المدينة، قالت، حلْ عنها، ما حد قد ذكرهم بخير، وتباركوا بالنواصي والأقدام، فقال، من ركبتي ما آخذ إلا فُرعة.
تعشّت القرية والضيوف، على المقسوم من لحم الثور، وصاح الفقيه، دُقوا الزير، إن كان لنا سنة ننتظر العرضة وأنتم تتمطعون في القُماش، وبدأ الشاعر يلالي قبل بدء القصيدة، ولمح زولاً فوق البيت المجاور لميدان العرضة، فضيّع المحراف، وصار يردد، ايوه يا لا لا لاه، ايوه الله الله: وش يقول ياخي، ثم التحقها، وقال، (طلبت الله تبدّى يا سلامي على جدّ وخال) صاحوا العرّاضة، وخال، ورزت العرضة صفوفها، وفي كل ركن علقوا اتريك، والشاعر يبدع ويرد على نفسه، وأبو سعد يحصي الأبيات، محراف، محرافين، ويشرح المعاني، لين قال الشاعر (القالة اللي قرنها بالسما متعالي، جاها البطل بالليل وأرخى قرونها) فقال أبو سعد للعريفة، نصيحة هُدّ العرضة، فقام مهللاً ومكبراً، فتفرق الجميع.
خصّ العريفة، الفقيه، والمؤذّن، والتاجر، بعزيمة للسمرة، وقال، بنطلع (الطيرمة) نتقهوى ونسمع قصايد من الشاعر، وكان الفقيه يتمعرف، فبدع على لحن السامر (عسى شاعر البدوان ما يلحقه مكروب، ولو يلحقه مكروب ما عنه نشادي) فانتبه الشاعر للمعنى وردّ (فقيه الحضر سمنه على ملّته مكبوب، بغى يشتوي له فرفره واحرق الوادي) فضحكوا وقال العريفة، ها نعمة تسدك يا فقيه خذها وارقد عليها.
مدّ الله مع (هبّ الريح) وسافر للعمل في مدينة رزقها وفير، وعاد بالكساوي والعطاوي، وخطب (فُرعة) وعقد عليها، وانتقلها معه، والكُلّ يهنّي له، ويمنّي نفسه بحظّ مثل حظّ هبّ الريح، وقضى سنين في المُدن، ثم عاد للقرية، ومعه كرسي، يضعه في فيّة جدار بيته، وينصب ظهره وتبدي سنونه من الوجع، والناس يحسبونه يتبسّم، وكل ما أحد مرّ عليه، يقول، ما حد مستريح مثل هبّ الريح.
زاره العريفة وفي خاطره يتخبّر عن سرّ راحته، وانتصاب قامته، فأقسم للعريفة، ما يقدر يبزّ شِبر من فوق كُرسيّه، ليقوم يسلّم عليه، فسأله، عسى ما خلاف، فهشلها يبكي، ويتعوّل على العريفة، قائلاً، تخشّب ظهري يا كبيرنا، فنشده، من أيش، فقال، هذي المخلوقة، لا تحلل ولا تحرّم، حشّفتني ونشّفتني، وشيّلتني حمل ثقيل، ونخرت صُلبي نخر الدبرة للعود، وما أرتاح إلا إذا سندت ظهري، ونصبت قامتي، عشان يخف ألم الناصور، فقام العريفة وغادر من عنده وهو يرفع صوته، أُثر ما فيه مستريح حتى هبّ الريح.