كتاب ومقالات

كبار السن.. سجون العزلة وزنازين الاعتزال

عبداللطيف الضويحي

أحزن حتى البكاء وأتألم حتى التأنيب، عندما يمُدّ لي عجوز طاعن بالسن بطاقة صرافه الآلي ويضع في يدي رقمها السري، طالباً مني أن أسحب له مبلغاً من المال، حيث يخونه البصر والأبجدية الرقمية.

ككل الكنوز التي بين أيدينا ولم نعرف قيمتها إلا بعد فوات الأوان، يعيش كبارنا بيننا أزمة مُركَّبة معنا أو بسببنا: فهم يعيشون عزلة اجتماعية نتيجة لزهدنا بهم اجتماعيا وغفلتنا عنهم بقصد أو بدون قصد من ناحية، وهم يكابدون بيننا غربة رقميّة متوحّشة متسارعة ومتفاقمة. فكل ابتكار أو تقنية جديدة تُقصي كبارنا مسافة أبعد وتحكم عزلتهم أعمق.

وعلى النقيض من ثورة الشباب وحماسهم واندفاعهم وتدفق حيويتهم، يؤثر كبار السن الهدوء والتروي والصبر والأناة والحكمة والتأمل والاقتصاد بالقول والتعبير والمشاركات إلا مع من يرتاحون له ويبادلهم الفهم والاحترام. لهذا ليس من المبالغة أن هناك مفاتيح لا بد من استخدامها عند التعامل مع الكبار. وهذا ما يجعلنا دائماً نتطلع للتكامل والمواءمة بين من يملكون الحكمة والتجربة والخبرة، مع من يملكون أدوات نقل ونشر وتوزيع وتعميم وتعليم تلك التجارب والحكمة والخبرة. وكبارنا يملكون الأولى ويملك شبابنا الثانية، ومن هنا لا بد من تضافر الجهود مع الأسرة والمؤسسة الرسمية في نسج وبناء وتعزيز كل الأدوات والوسائل في سبيل تفكيك العزلة والغربة التي تكبل كبارنا وتحرم مجتمعاتنا من استيعاب تجاربهم ومعارفهم وترك بصماتهم على المحتوى المجتمعي والتاريخي والثقافي والهوية الوطنية ككل. فالرعاية والاهتمام بكبارنا ليس براً بهم فحسب، بل هو حاجة ماسة لشبابنا الذين يستميتون في البحث عن محتوى ذي قيمة فلا يستطيعون مما يضطرهم لتقديم محتوى هابط وتافه في كثير من الأحيان.

نحن ننزلق لغربة متسارعة نتيجة لما تقوم به الرقمنة من مسح متسارع لذاكرتنا الوطنية التي لا يزال كبارنا يمتلكون الكثير من مفاتيحها، علينا أن نتدارك ونقف أمام ظاهرة خطيرة قبل فوات الأوان. علينا وقف الهدر والزهد بتجاربهم ومعرفتهم وخبراتهم نتيجة لجهلنا بالمفاتيح التي لا تتطلب أكثر من احترامنا ورعايتنا وتفاعلنا مع هذه القيمة الإنسانية من كبارنا الذين حثنا ديننا على البر والرأفة بهم.

صحيح أن ليس كل متقاعد مضطراً للعمل، مثلما أن ليس كل متقاعد عاجزاً عن العمل، وليس كل متقاعد يزهد بالعمل. علينا أن نعترف بشيء من الندم بأن هدرنا للوقت جعلنا نتمادى بهدر طاقاتنا البشرية، وفي مقدمة طاقاتنا البشرية المهدرة خبرات المتقاعدين والمتقاعدات، ناهيك عن الفاقد التاريخي للذاكرة الوطنية الجمعية الذي نمارسه من خلال هدرنا لأهم محتوى من محتويات أرشيفنا الوطني الجمعي المتمثل بالمتقاعدين.

كبار السن وأغلبهم من المتقاعدين هم خبرات فردية رأسية بحاجة إلى تحويلها مؤسسياً من خبرات رأسية إلى خبرات أفقية كي يتم توسيع دائرة الاستفادة منهم وبشكل مستديم ومنتظم وبطريقة تعود على أصحاب تلك الخبرات بمردود مادي ومعنوي يتساوى مع القيمة الحقيقية لهؤلاء وخبراتهم..

كبارنا بحاجة لتشريعات وسن قوانين تحفظ لهم الحقوق ممن يتطاول عليهم أو يسخر منهم عندما يرتادون المقاهي أو الكافيهات أو الأسواق، كما أنهم بحاجة ماسة لتشريع يكفل لهم الغطاء الصحي في كافة المستشفيات دون مواربة أو تردد. كما أن كبارنا بحاجة لتشريعات وأنظمة تكفل لهم الإعفاء من الكثير من الإجراءات الإدارية البيروقراطية والرسوم والضرائب والتكاليف الباهظة لمستلزماتهم الصحية والمعيشية الحياتية.

أتوقع وأتمنى أن تقوم جمعية حماية الملكية الفكرية بحماية الكثير من ابتكارات ومنجزات كبارنا بأثر رجعي، كما أتوقع وأتمنى أن تتعاون جمعية المؤرخين في سبيل وضع آليات للاستفادة من الذاكرة التاريخية لدى كبار السن بشكل مؤسساتي.

أخيراً، المتقاعدون وكبار السن أرقام كبيرة ومتزايدة في مجتمعاتنا، فلا يجوز أن تتم قراءتُها كمياً فحسب، إنما هي أرقام جديرة بالقراءة النوعية، لما تمثله هذه الفئة الغالية من وزن نفسي واجتماعي واقتصادي إذا ما تم تحويل معاناتهم الرأسية إلى فرصة ذهبية أفقية.