أخبار

العائدون من تحت الأنقاض.. حكايات لم تكتمل

منازل وساكنوها.. أثر بعد عين

الزميل حميدة على أنقاض دوار «أمرزكان» الذي لم يتبق منه إلا المسجد.

محمد حميدة (الحوز - الرباط) mo_hemeda@

كسا الحزن ملامح البشر الذين حملوا غبار أطلال منازلهم فوق ثيابهم، يتنقّلون بحركة بطيئة وخطوات متثاقلة، تنسكب من مآقيهم أحاديث تعجز الأقلام عن ترجمتها فى كلمات؛ صغار على ظهور أمهاتهم، وشباب يتكئون على عصيّهم، عشرات يهرولون في اتجاهات مختلفة، فيما يستظل البعض بأشجار صامتة، شاهدة بحزن على ما وقع هنا.

في اليوم الأول، أمضينا نحو 14 ساعة من العمل المتواصل، والتجول بين المناطق المنكوبة، وكان علينا العودة إلى مدينة مراكش مرة أخرى للاستعداد لليوم التالي، لكن ما حدث في طريق العودة كان متوقعاً.

نحو خمس ساعات في طريق العودة؛ بسبب الانهيارات التي وقعت في صخور الأطلس شاهقة الارتفاع، وتزاحم مئات السيارات من وإلى المناطق المنكوبة.

في طريق العودة، كنا نضطر للخروج من السيارة والجلوس ربما لنحو نصف ساعة من الوقت قبل أن نتحرك لنحو نصف كيلومتر ونعاود الوقوف مجدداً، خلال عملية تنظيمية تقوم بها قوات الدرك على طول نحو 70 كيلومتراً.

بين الخيام.. ومئذنة المسجد

في تمام الـ9:35 صباح 12 سبتمبر 2023، وصلنا إلى «دوار أمرزكان» التابع لجماعة إيغل، على بعد نحو 100كم من مدينة مراكش، في رحلة استغرقت نحو 3 ساعات بالسيارة، و45 دقيقة على دراجة نارية، إذ لم تستطع السيارات الوصول إلى هناك.لم يبقَ من عشرات المنازل سوى مئذنة المسجد الذي شيد من مواد بناء حديثة ساهمت في صموده دون المنازل المحيطة المشيدة من الحجارة والطين، وبعض الشجر والطير الذي حالفه الحظ ونجا.

بين عشرات الخيام، يجتمع أهل «الدوار»؛ غالبيتهم من النساء والأطفال الذين يدققون النظر في كل غريب بعيون أوجعها البكاء، وأجساد أرهقها المبيت في العراء، أو داخل خيام غير مجهزة، يتحدثون «الشلحة»، اللغة الأمازيغية.

وفق روايات أهالي المنطقة، فإن النسبة الأكبر من الضحايا الذين وصل عددهم إلى نحو 19 متوفىً حينها، هم من الأطفال .

تقول عائشة آيت (امرأة أربعينية) من «الدوار» إن الزلزال باغتهم وهم نيام، فغالبية السكان هنا ينهون نشاطهم اليومي مع أذان العشاء ويذهبون للنوم مباشرة. فقدت عائشة شقيقها ونجله تحت الأنقاض، كما فقدت معظم الأسر هنا بعض أفرادها، لكنهم استمروا من منتصف الليل حتى الصباح في محاولات الإنقاذ.

بعد فترة قليلة في «دوار أمرزكان» عدنا مرة أخرى لمنطقة «ثلاث نيعقوب» التي تستمر فيها عمليات الإنقاذ. في منتصف «الدوار» نزلنا من السيارة في ساحة مكتظة بعربات الشرطة والإسعاف ورجال الإنقاذ والبث التلفزيوني. إلى اليمين تنتصب العشرات من خيام الناجين غير متجانسة الألوان، لكنها مغلقة على من بداخلها، تفتح أبوابها الصغيرة إذا ما خرج طفل أو امرأة، بعضها يحمل اسم وزارة الصحة المغربية، وبعضها يحمل شعار وزارة الداخلية، وأخرى لا تحمل أي شعارات. إلى اليسار تجسّد جحيم الأرض، ليؤكد بشكل قاطع على أرقام الضحايا، عشرات المنازل انهارت وأُبيدت عن بكرة أبيها، اختلطت ملامح الأمكنة والشوارع، تلطخت الأرض بدماء مَن كانوا أحياء فوقها ذات يوم وباتوا مجرد أرقام ضحايا في النشرات الإخبارية، واستبدلت ابتساماتهم بمجرد أشلاء.

يخجلون من الموتى ويكابرون أمام التعب

في جانب من المنازل المنهارة، يواصل عمال الإنقاذ البحث عن جثث الضحايا تحت الأنقاض، الجميع مستنزفون من ساعات العمل الطويلة، فسير عملهم يلزمهم بعدم الراحة قبل تسليم المهمة لفريق بديل حتى لا تتوقف عملية الإنقاذ ولو بضع دقائق. كما لو أن بعضهم يخجل من الموتى ويكابر أمام التعب، نقترب منهم وتسبق خطانا رائحة الموت التي تعبق في جو المكان لدرجة عجزنا عن احتمالها، ارتدينا الكمامات الطبية، واقتربنا أكثر لالتقاط الصور.عشرات العمال من القوات المغربية وثلاثة من الإسبان، وإلى جوارهم بعض أهالي «الدوار»، يبحثون عن الأماكن المناسبة للحفر وإخراج الموتى.

منازل بسيطة من حجارة وطين، وسقوف من أخشاب غطّيت بحشائش الأرض وطينها وجريد نخلها، كانت من قبل تؤوي عائلات وتجمع شتاتهم، بنيت المنازل من مواد الأرض، وإلى الأرض عادت.

في مشهد آخر من الصورة المأساوية، تحط مروحية مغربية، بعد أن أفسح لها رجال الشرطة مساحة كبيرة، وأحاط بها رجال الصحافة والإعلام لالتقاط الصور، بعد دقائق من هبوطها، تصل إلى الساحة ثلاث سيارات إسعاف، تحمل كل واحدة منها مصاباً، رجلان وامرأة لا يزالون محتفظين بوعيهم، لكن الكسور وزرقة الكدمات فوق الجلد كانت أبرز ما في ملامحهم. أدخلوهم الطائرة ثم أخرجوهم وأعادوا إدخالهم مرة ثانية، لم نفهم حينها سبب الإجراء، لكننا امتثلنا لطلب الابتعاد عن الطائرة التي كانت تثير الغبار من حولها وتتطلب إخلاءً تاماً لمجالها قبل الاقلاع.

بعد نحو ساعة من التقاط الصور، تجولنا بين المنازل المنهارة وفوق ركامها الذي يحمل من أثر سكانه دماءهم وملابسهم وأوانيهم وفُرش منازلهم، بالمختصر، غادر الحي العين وبقي الأثر.

هنا تحزن الحيوانات مع البشر !

ووفقاً لشهادة هند؛ استمر الأهالي في عمليات الإنقاذ لساعات طويلة مضنية ومتعبة، حجم الكارثة شتت الجهود وهدّ السواعد، كان الجميع منهمكين في البحث عن المفقودين ونقل المصابين إلى ساحة خالية آمنة، لم يسلم أحد من الموت، فمن لم يمت، مات عزيز عليه.

أمام المنزل وتحت ظل قطعة من الصاج، تتمدد قطة سوداء على الأرض في وضع النوم لكنها لا تنام، بدت باكية حزينة، أخبرتنا هند أنها قطة طفلها الصغير الذي رحل، وأنها لم تفارق المنزل منذ أن وقع الزلزال، اقتربنا منها فلم تعبأ بأقدامنا ولا بحالة الضجيج المنتشرة في المكان، لبثت ساكنة أمام مرور الآلات الثقيلة ورجال الإنقاذ وكل ما يخيف القطط، لم تتحرك من مكانها ولم تغير وضعيتها، كأم فقدت صغارها تحت الأنقاض، تجلس في انتظار خروجهم، هنا تحزن الحيوانات مع البشر أيضاً.

أكثر الضحايا هنا من «الدراري»؛ أي الأطفال، هكذا أخبرتنا هند بأن طفلها لم يكن الوحيد، بل فارق معظم أصدقائه في «الدوار» الحياة مثله، كأنها تبحث عن أسباب لتخفيف وجع ما حل بها.

بين ركام المنازل بقايا أدوات منزلية وأجهزة وفُرش، وصور كانت معلقة ذات يوم على جدران المنازل، لكن رائحة الأطفال كانت الأبرز، رائحة الموت دائماً أبرز؛ كتبهم وأحذيتهم، ملابسهم وبعض كلماتهم على الورق، هذا كل ما تبقى من ذكرى الأطفال الذين فارقوا الحياة وتركوا بعض تفاصيلهم شاهدة عليهم، كأنها تقول «كنا هنا»..

يصادفنا كتاب لأحدهم ظل على حاله مفتوحاً بين الركام، كانت الصفحة المفتوحة كرسالة للمارين من هنا تحمل عبارة «جسم شفاف، جسم شبه شفاف، جسم معتم»، كأنها تصف حال المكان بعدما عاث فيه الموت وأطاح بأحيائه.

في انتظار خروج الضحايا

بين حطام أحد المنازل كانت تجلس هند معطالله (امرأة ثلاثينية) من منطقة «ثلاث نيعقوب» إقليم الحوز-مراكش، يكاد الحزن على وجهها ينطق، ترتدي عباءة بيضاء مشجرة بورود كحلية اللون، وغطاء رأس تتداخل فيه الألوان، إلى جوارها شقيقتها، كانتا ساكنتين كأنهما تنتظران خروج عزيز لهما من تحت الركام.تحدثنا إلى هند فأخبرتنا أنها تجلس في المكان الذي فارق فيه ولدها ووالدتها الحياة، ولم تستطع إنقاذهما، نفقد الكلام أمام مصابها ونكتفي بالإنصات. تستعيد المشهد الأخير قبل وقوع الزلزال بصوت مرتجف «ليتني مت قبل أن أرى كل هذا الجحيم».. نطقت بهذه العبارة وصمتت لأكثر من دقيقة شاردة من هول الصدمة، كان الشرود وسيلتها لاستعادة قوتها ومواصلة سرد ما حدث. واصلت كلامها: «كنا انتهينا للتو من تناول العشاء، كنا جميعاً نضحك ويلهو الأطفال حولنا، فجأة كل شيء بدأ يتحرك من مكانه، أدركنا بعد لحظات أنه الزلزال، وسارعنا بالهروب إلى الشارع»... لم يتمكن أحد من بلوغ الباب والنجاة بنفسه، انهار المنزل في لحظات فوق رؤوس الجميع.. إلا أن هند كتبت لها النجاة دون عائلتها. تابعت حديثها «كنت قريبة من الباب فسقط فوقي، فيما سقط الحائط بالكامل على والدتي، اختفى طفلي (3 أعوام) تحت سقف المنزل، ودفن النصف الأسفل من شقيقتي تحت الركام».

بعد نحو نصف ساعة استفاقت وكان جسدها مغطى بباب المنزل وركام خفيف تمكنت من إزاحته، لكن الظلام الذي حلّ بالمنطقة إثر انقطاع الكهرباء زاد الوضع سوءاً وتعقيداً. لم تعرف هند كيف تتصرف وإلى أين تتجه، يدوي صراخ النساء بالمنطقة، الأصوات فقط هي ما يميز الأماكن التي لا تزال تحمل إشارات الحياة، صوت شقيقتها على بعد أمتار منها تناديها «أنقذيني أنقذيني يا هند أستحلفك بالله».

وصلت هند إلى شقيقتها، وقلبها ممزق بين أمها وأبيها، هما تحت أنقاض المنزل لكنها لا تسمع لهما أي صوت ولا ترى أي أثر للحياة، إلا أثر شقيقتها؛ التي لأكثر من نصف ساعة حاولت هند باستماتة إخراجها من تحت الركام، كان إخراجها بمثابة الأمل الذي تستند عليه طمعاً في أن تساعدها في رفع الأنقاض من فوق والدتهما وولدها، كان الأمل يحركها رغم التعب والإصابات لتنقذ بقية العائلة رغم خيط النور الضعيف في احتمال نجاة البقية، لكن شقيقتها لم تستطع التحرك لما تسبب به الحطام من كسور في ساقيها، وظلت على حالها حتى نقلها الأهالي خارج المنزل المنهار.