القمندان أحمد بن فضل العبدلي.. جمع في شخصه ما لا يجتمع
الاثنين / 01 / ربيع الثاني / 1445 هـ الاثنين 16 أكتوبر 2023 02:15
بقلم: د. عبدالله المدني abu_taymour@
كيف لشخص أن يجمع ما بين العسكرية والشعر والأدب والتلحين والتأريخ والكتابة والزراعة؟ لكن هذا ما حصل في اليمن، في شخص أحمد فضل العبدلي اليافعي الملقب بالقمندان (رتبة القومندان العسكرية من أصلها الإنجليزي commander) سليل أسرة العبدلي التي حكمت سلطنة لحج لمدة تجاوزت مائتي عام.
كشاعر يعد القمندان من أشهر شعراء العامية في عموم اليمن ممن نالت قصائده شعبية واسعة ولاسيما في لحج والمناطق المحيطة بها. وكملحن يعتبر من مؤسسي ومطوري الغناء اللحجي الذي يعد أحد أنواع الغناء الرئيسية في اليمن إلى جانب الغناء الصنعاني والغناء الحضرمي، فقد طور الفنون الشعبية اللحجية مثل الرزخة والدحفة والدقندم والشرح والمركح والزفنة، ووضع لها ألحاناً جديدة على نفس الأرتام السائدة. وككاتب له العديد من المقالات التي نشرها في مقدمة ديوانه الشعري الموسوم «المصدر المفيد في غناء لحج الجديد» والصادر في عام 1938، متضمناً 90 قصيدة من أصل 95 قصيدة منسوبة إليه، ونشر مقالاته أيضاً في صحيفة «فتاة الجزيرة» العدنية. وكمؤرخ نجده قد أرخ للحج وعدن تحت الاستعمار البريطاني من خلال كتابه الموسوم «هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن». أما كعسكري فقد قاد جيش السلطنة اللحجية برتبة «قومندان» وهو في سن التاسعة عشرة، فأدخل عليه الكثير من الإصلاحات ومنها إنشاء فرقة الجيش الموسيقية في عام 1927 وتزويدها بالآلات النحاسية والمعلمين المختصين. إلى ذلك كانت لديه اهتمامات زراعية تكونت من نشأته في أسرة حاكمة كانت تملك أراضي زراعية شاسعة، فراح يقود عملية النهوض بالزراعة في لحج من خلال جلب نباتات وأشجار وشتلات غير مألوفة من الهند ومصر وشرق أفريقيا ووضع تقويماً منظماً لمواسم الزراعة وجني المحاصيل وطرق الري ورش المبيدات. كما دفعته اهتماماته الأدبية إلى المشاركة والمساهمة سنة 1925 في تأسيس نادي الأدب العربي في عدن، الذي ترأسه في فترة من الفترات ومصادقة الأديب اليمني العدني محمد علي لقمان المحامي. والغريب أن القومندان خاض كل هذه المجالات على الرغم من أنه لم يلتحق بأي جامعة أو معهد في الخارج، دعك من الداخل الذي لم يكن يحتضن في زمنه أي جامعة أو أكاديمية تعليمية.
في صباح يوم 15 شعبان من عام 1299 للهجرة الموافق للأول من يوليو 1882، أبصر النور «الأمير أحمد فضل بن علي بن محسن العبدلي» في القصر السلطاني الفخم بمدينة الحوطة عاصمة سلطنة لحج (البعض يزعم أن سنة ميلاده الحقيقية هي 1884 أو 1885) ابناً لوالده السلطان فضل بن علي محسن، الذي حكم لحج في فترتين: الأولى عندما خلف والده في الحكم سنة 1862 ثم تنازل في العام التالي لصالح عمه فضل بن محسن فضل، بسبب نزاع عائلي على السلطة، والثانية حينما حكم من عام 1874 إلى تاريخ وفاته سنة 1898 دون منازع، علماً بأن فترة حكمه الثانية شهدت تخليه عن منطقة الشيخ عثمان بيعاً لصالح الإنجليز الذين قاموا بضمها إلى عدن، وانضمام بلاد الصبيحة إلى لحج قبل أن تنفصل عنها لاحقاً، وحدوث توترات بين العبادلة وقبيلة العقارب.
تربى القمندان وترعرع في كنف والده السلطان حتى وفاته، حينما كان صاحبنا في سن الرابعة عشرة، فآلت تربيته ورعايته إلى السلطان الجديد أحمد بن فضل بن محسن العبدلي (ابن عم والده)، الذي حكم من 1898 إلى 1914. تحدث القمندان في كتبه عن والده فقال، إنه كان يحب العلم والعلماء ويكثر من مجالستهم، بل كان يحضر إلى جامع الحوطة ويجلس كطالب علم في حلقات الدرس، وإنه بنى مدرسة للعلامة الشيخ أحمد بن علي السالمي في لحج. كما أخبرنا أن والده كان عادلاً طيب القلب إلى حد جعله موضع تندر خليفته وابن عمه السلطان أحمد. فعندما باع منطقة الشيخ عثمان على الحكومة البريطانية، حول قيمتها إلى خزينة السلطنة، ولم يوزعها على أفراد العائلة الحاكمة كما جرت العادة. أما السلطان أحمد فلم يكتفِ بكفالة القمندان ورعايته فحسب وإنما زوّجه أيضاً إحدى ابنتيه، وعندما توفيت زوّجه أختها، كما نصبه قائداً لجيش السلطنة في عام 1904 بسبب إجادته اللغة الانجليزية، وبالتالي سهولة تعامله مع القوات البريطانية الحليفة في عدن. لكن العثمانيين تمكنوا من هزيمة قواته خلال الحرب العالمية الأولى زمن حكم «علي بن أحمد بن علي محسن»، الذي لم يستمر سوى عام جراء احتلال العثمانيين للحج واضطرار سلاطينها وقادتها للنزوح إلى عدن. لكن القمندان عاد إلى منصبه العسكري في عهد السلطان التالي وهو أخوه «عبدالكريم فضل بن علي محسن»، الذي حكم من 1915 إلى 1947، أي بعد هزيمة الدولة العثمانية على أيدي الحلفاء، وعودة العبادلة من منفاهم في عدن إلى عاصمتهم الحوطة. وقتها تم تكليف القمندان بتشكيل جيش نظامي جديد لحفظ الأمن وحماية السلطنة من غارات القبائل المعادية وقطاع الطرق، فقام بجلب عدد من المدربين الإنجليز من عدن ونشط في الدعوة إلى التجنيد والانخراط في الجيش الجديد من خلال قصائده. والجدير بالذكر، أن القمندان تمنى أن يرزق بولد، لكن زوجته الأولى لم تنجب أطفالاً، فيما رزق من زوجته الثانية بابنتين هما فاطمة وخديجة، اللتان تعلمتا علوم القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة على يد معلمة من شمال اليمن تدعى «سعيدة». وأجادتا الغناء والعزف على العود والكمان.
تعلم القمندان القراءة والكتابة على يد مدرسين خصوصيين في قصر والده الشاسع، قبل أن يلحقه والده وقت بلوغه سن السابعة بمدرسة «دار العلم»، التي كان يذهب إليها صباحاً لحضور حصص القراءة والكتابة ومساء لحضور حصص التجويد وعلوم القرآن. إلى ذلك درس هو وأبناء عمومته قواعد اللغة العربية والفقه الإسلامي والحديث على يد مفتي لحج الشيخ أحمد بن علي السالمي، كما درس النحو والصرف والبلاغة والبيان والحساب والتاريخ والجغرافيا على أيدي مدرسين آخرين من مواطنيه. علاوة على ذلك تعلم اللغة الإنجليزية من خلال إرسالية أجنبية في حي التواهي بعدن ومدرسة خاصة في لحج.
أمّنت له ثروة أسرته الحاكمة حياة رغدة استغلها في شبابه في تعزيز ما تعلمه من خلال الاطلاع على كل جديد والإقبال على اقتناء وقراءة الكتب والمجلات العلمية والأدبية والاجتماعية والفنية وتلك المتعلقة بالزراعة باللغتين العربية والإنجليزية، الأمر الذي وسع مداركه وأيقظ لديه الأحاسيس الشاعرية والجمالية فراح يمارس كتابة الشعر والنثر معاً، خصوصاً بعد اطلاعه على كتب المنفلوطي وطه حسين ومقدمة ابن خلدون ودواوين المتنبي والشريف الرضي وشوقي وأبي نواس ورباعيات إلياس فرحات وغيرها.
أغاني مريم
أما تعلقه بالموسيقى والألحان فقد بدأ في طفولته من خلال الأغاني التي كانت تغنيها له مربيته البدوية «مريم»، التي كان يرتاح لسماعها كل ليلة قبل أن ينام والتي خففت عنه الكثير في صغره عندما أصيب بالجدري الذي تمكن من الشفاء منه بعد أن ترك على وجهه آثاراً خفيفة غير واضحة للعيان. وحينما كبر ترسخ حبه وإعجابه بالغناء الشعبي وما يصاحبه من رقص وموسيقى، فتدرب على الآلات الموسيقية وأجاد العزف على السكسفون والبجل والفنيون والأينو، وتمكن من القانون والقنبوس، وتلقى مبادئ وأصول الموسيقى على يد أربعة مدرسين من أصول حلبية كانوا قد نزحوا من تعز واستقروا في الحوطة (عبدالحميد رضا رياض، ورافع رضا رياض، وسعيد تقي الدين الأجاصي، وصدام الفياض). وحينما بدأت الآلات الوترية بالظهور في اليمن مثل العود الصنعاني وبدأ إقبال الموسيقيين على تعلم عزفه كان القمندان أحدهم. وعندما تولى قيادة الجيش قام بتأسيس فرقة موسيقية عسكرية وجلب لها مختلف الآلات النحاسية مع معلمين لتعليم العزف عليها، حيث بدأت الفرقة بالتدرُّب على عزف مقطوعات إنجليزية، وعلى ألحان تلك المقطوعات قام بتأليف وتلحين قصيدته المشهورة «أي بلبل غن لي وأشجني».
وهكذا برز كملحن دون أن يغني، خصوصاً مع دخول الفونوغراف إلى عدن الذي ساهم في انتشار ألحانه ووصولها إلى قلوب وأسماع العاشقين للطرب على الرغم من تسيد الأغاني الهندية والمصرية للمشهد في تلك الحقبة. ومما يجدر بنا ذكره في هذا السياق، أن أعمال القمندان الموسيقية تعرضت لبعض المعوقات، وذلك جراء قيام عدد من فقهاء عدن ولحج بإصدار فتاوى يحرمون فيها الغناء والموسيقى ويذمون أصحابه، ومنهم من خص أغاني القمندان بالتحريم. وقد دافع القمندان عن نفسه من خلال كتيب أصدره بعنوان «فصل الخطاب في إباحة العود والرباب»، ضمنه حججاً وبراهين واقتباسات لفقهاء مشهورين حول جواز الموسيقى والغناء.
فتاوى التحريم
على أن فتاوى التحريم هذه لم تنجح كثيراً في منع انتشار أعماله، إذ انتشرت الأغاني التي قام بتأليفها أو بتلحينها انتشاراً واسعاً في لحج وعدن وما جاورهما من مناطق في عقدي الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين. ومن أوائل الأغاني التي سجلت من ألحانه أو كلماته: «البدرية» و«تاج شمسان» و«همهم على الماطر حبيب نشوان»، حيث قامت بتسجيلها شركة أسطوانات «أوديون» الألمانية وشركة «بيضافون» اللبنانية المتعاونة مع الألمان وشركة «التاج العدني» المحلية. أما الأداء فكان لفنانَين من فرقة القمندان الموسيقية وهما: «فضل محمد جبيلي» و«مسعد بن أحمد حسين»، علماً بأن فرقته هذه قامت أيضاً بتسجيل النشيد الوطني للسلطنة العبدلية اللحجية (نشيد محبة الوطن) والسلام السلطاني (الدعاء السلطاني العبدلي) وكلاهما من كلمات وألحان القمندان. كما تبنى وشجع، من خلال فرقته ومن خلال مدرسة موسيقية أسسها في لحج على نفقته الخاصة، المواهب الفنية الشابة، فتخرج من تلك المدرسة عدد من الشعراء والملحنين أشهرهم الشاعر «عبدالله هادي سبيت» والشاعر «عبدالكريم عبدالله» والمغني والملحن «فضل محمد اللحجي».
«سلك الكهرباء في لحج»
أتى الرحالة الأمريكي من أصل لبناني أمين الريحاني على ذكر القمندان في كتابه الأثير «ملوك العرب»، بعد زيارته لليمن أوائل العشرية الثانية من القرن العشرين، فوصفه بقوله إنه ذو فكر ثاقب واطلاع واسع وثقافة غزيرة، وإنه ليس علماً من أعلام اليمن فحسب، وإنما هو علم من أعلام الجزيرة العربية، واصفاً إياه بشاعر لحج وفيلسوفها وبـ«سلك الكهرباء في لحج». وفي موضع آخر، كتب عنه النص التالي «الأمير أحمد في الأربعين في عمره، جميل الصورة، له جبهة عالية تدل على ذكاء ورجاحة عقل، ويتكلم الإنكليزية بطلاقة، وله ذوق سليم وتصرفات شائقة، ويقضي أوقاته في العلم والتقوى، وله أملاك خاصة توازي أملاك أخيه السلطان، وهو يشرف بنفسه على زراعة أراضيه ويتحمس في إدخال أحدث طرق الري، ويجلب أحدث الآلات الزراعية والأسمدة والأنواع الجديدة من المحاصيل. وهو يشبه السيد الإنكليزي المزارع صاحب الأملاك في القرن الثامن عشر».
«بستان الحسيني»
كما كتب عنه مواطنه السياسي والإداري والمؤلف «عمر عبدالله الجاوي»، الذي وصفه بـ«أحد أمراء لحج الذين اختاروا الفن ومضوا في طريقه دون التفات إلى قوة السلطة وجبروتها. فبفضله أصبح بستان الحسيني ملجأ للجمال والطرب والشعر، ولذا كثرت في أغانيه كلمة (الحسيني) وكلمة (الهاشمي قال) بسبب انتسابه لبني هاشم المعروفين بالأشراف»، علماً بأن «بستان الحسيني» هذا هو بستان القمندان الخاص الذي اعتنى بنفسه لجهة تشجيره وزراعة الغريب من النباتات والأشجار والفواكه والورود فيه، حتى غدا مكاناً شاعرياً جميلاً، وقد زاره العديد من الشخصيات المرموقة، كما زاره فريق من مجلة العربي الكويتية لإعداد استطلاع عنه نشر في عدد المجلة رقم 48. وقد بقي البستان ضمن ملكية العائلة السلطانية حتى أوائل 1968، حينما قامت حكومة جنوب اليمن الماركسية بتأميمه، لكنه عاد إلى ملكية ورثة القمندان عندما تحققت الوحدة اليمنية عام 1990. وكما قال الأستاذ جاوي، كثرت إشارة القمندان في قصائده المغناة إلى هذا البستان وإلى «الهاشمي» وإلى أشياء تمت للطبيعة والفلاحين أو أماكن زارها ومنها أغاني: «سر الهوى في الحسيني»، و«عسى ساعة هني بين عدن وبمبي»، و«دان يا طير كف النياح»، «دان يا مرحبا بالهاشمي»، و«غزلان في الوادي» و«مليح يا زين»، و«دار الذي تهواه»، و«بالقرب من بستان الحسيني» و«على محاذاة وادي تبن»، و«يا حيد ردفان»، و«حالي وا عنب رازقي»، وغيرها.
في السنتين الأخيرتين من حياته أصيب القمندان بالاكتئاب وتوالت عليه الأمراض النفسية والجسمانية التي فشل الأطباء في علاجها، وانتهت معاناته بوفاته في مطلع شهر أغسطس سنة 1943 بمستشفى في حي التواهي بعدن، فتم دفنه بمسجد الدولة في الحوطة، بحضور ساسة وقادة عسكريين ورموز الفكر والثقافة والصحافة في اليمن، وكان ممن نعوه رئيس وزراء مصر وقتذاك مصطفى النحاس باشا.
بقي أن نعرف، أن القمندان هو المؤلف والملحن الأصلي لأحد أشهر الأغنيات الخليجية وأكثرها انتشاراً خارج حدود الخليج وهي أغنية «يا منيتي.. يا سلا خاطري» التي أداها المطرب الكويتي عبدالمحسن المهنا ثم تبعه آخرون.
كشاعر يعد القمندان من أشهر شعراء العامية في عموم اليمن ممن نالت قصائده شعبية واسعة ولاسيما في لحج والمناطق المحيطة بها. وكملحن يعتبر من مؤسسي ومطوري الغناء اللحجي الذي يعد أحد أنواع الغناء الرئيسية في اليمن إلى جانب الغناء الصنعاني والغناء الحضرمي، فقد طور الفنون الشعبية اللحجية مثل الرزخة والدحفة والدقندم والشرح والمركح والزفنة، ووضع لها ألحاناً جديدة على نفس الأرتام السائدة. وككاتب له العديد من المقالات التي نشرها في مقدمة ديوانه الشعري الموسوم «المصدر المفيد في غناء لحج الجديد» والصادر في عام 1938، متضمناً 90 قصيدة من أصل 95 قصيدة منسوبة إليه، ونشر مقالاته أيضاً في صحيفة «فتاة الجزيرة» العدنية. وكمؤرخ نجده قد أرخ للحج وعدن تحت الاستعمار البريطاني من خلال كتابه الموسوم «هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن». أما كعسكري فقد قاد جيش السلطنة اللحجية برتبة «قومندان» وهو في سن التاسعة عشرة، فأدخل عليه الكثير من الإصلاحات ومنها إنشاء فرقة الجيش الموسيقية في عام 1927 وتزويدها بالآلات النحاسية والمعلمين المختصين. إلى ذلك كانت لديه اهتمامات زراعية تكونت من نشأته في أسرة حاكمة كانت تملك أراضي زراعية شاسعة، فراح يقود عملية النهوض بالزراعة في لحج من خلال جلب نباتات وأشجار وشتلات غير مألوفة من الهند ومصر وشرق أفريقيا ووضع تقويماً منظماً لمواسم الزراعة وجني المحاصيل وطرق الري ورش المبيدات. كما دفعته اهتماماته الأدبية إلى المشاركة والمساهمة سنة 1925 في تأسيس نادي الأدب العربي في عدن، الذي ترأسه في فترة من الفترات ومصادقة الأديب اليمني العدني محمد علي لقمان المحامي. والغريب أن القومندان خاض كل هذه المجالات على الرغم من أنه لم يلتحق بأي جامعة أو معهد في الخارج، دعك من الداخل الذي لم يكن يحتضن في زمنه أي جامعة أو أكاديمية تعليمية.
في صباح يوم 15 شعبان من عام 1299 للهجرة الموافق للأول من يوليو 1882، أبصر النور «الأمير أحمد فضل بن علي بن محسن العبدلي» في القصر السلطاني الفخم بمدينة الحوطة عاصمة سلطنة لحج (البعض يزعم أن سنة ميلاده الحقيقية هي 1884 أو 1885) ابناً لوالده السلطان فضل بن علي محسن، الذي حكم لحج في فترتين: الأولى عندما خلف والده في الحكم سنة 1862 ثم تنازل في العام التالي لصالح عمه فضل بن محسن فضل، بسبب نزاع عائلي على السلطة، والثانية حينما حكم من عام 1874 إلى تاريخ وفاته سنة 1898 دون منازع، علماً بأن فترة حكمه الثانية شهدت تخليه عن منطقة الشيخ عثمان بيعاً لصالح الإنجليز الذين قاموا بضمها إلى عدن، وانضمام بلاد الصبيحة إلى لحج قبل أن تنفصل عنها لاحقاً، وحدوث توترات بين العبادلة وقبيلة العقارب.
تربى القمندان وترعرع في كنف والده السلطان حتى وفاته، حينما كان صاحبنا في سن الرابعة عشرة، فآلت تربيته ورعايته إلى السلطان الجديد أحمد بن فضل بن محسن العبدلي (ابن عم والده)، الذي حكم من 1898 إلى 1914. تحدث القمندان في كتبه عن والده فقال، إنه كان يحب العلم والعلماء ويكثر من مجالستهم، بل كان يحضر إلى جامع الحوطة ويجلس كطالب علم في حلقات الدرس، وإنه بنى مدرسة للعلامة الشيخ أحمد بن علي السالمي في لحج. كما أخبرنا أن والده كان عادلاً طيب القلب إلى حد جعله موضع تندر خليفته وابن عمه السلطان أحمد. فعندما باع منطقة الشيخ عثمان على الحكومة البريطانية، حول قيمتها إلى خزينة السلطنة، ولم يوزعها على أفراد العائلة الحاكمة كما جرت العادة. أما السلطان أحمد فلم يكتفِ بكفالة القمندان ورعايته فحسب وإنما زوّجه أيضاً إحدى ابنتيه، وعندما توفيت زوّجه أختها، كما نصبه قائداً لجيش السلطنة في عام 1904 بسبب إجادته اللغة الانجليزية، وبالتالي سهولة تعامله مع القوات البريطانية الحليفة في عدن. لكن العثمانيين تمكنوا من هزيمة قواته خلال الحرب العالمية الأولى زمن حكم «علي بن أحمد بن علي محسن»، الذي لم يستمر سوى عام جراء احتلال العثمانيين للحج واضطرار سلاطينها وقادتها للنزوح إلى عدن. لكن القمندان عاد إلى منصبه العسكري في عهد السلطان التالي وهو أخوه «عبدالكريم فضل بن علي محسن»، الذي حكم من 1915 إلى 1947، أي بعد هزيمة الدولة العثمانية على أيدي الحلفاء، وعودة العبادلة من منفاهم في عدن إلى عاصمتهم الحوطة. وقتها تم تكليف القمندان بتشكيل جيش نظامي جديد لحفظ الأمن وحماية السلطنة من غارات القبائل المعادية وقطاع الطرق، فقام بجلب عدد من المدربين الإنجليز من عدن ونشط في الدعوة إلى التجنيد والانخراط في الجيش الجديد من خلال قصائده. والجدير بالذكر، أن القمندان تمنى أن يرزق بولد، لكن زوجته الأولى لم تنجب أطفالاً، فيما رزق من زوجته الثانية بابنتين هما فاطمة وخديجة، اللتان تعلمتا علوم القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة على يد معلمة من شمال اليمن تدعى «سعيدة». وأجادتا الغناء والعزف على العود والكمان.
تعلم القمندان القراءة والكتابة على يد مدرسين خصوصيين في قصر والده الشاسع، قبل أن يلحقه والده وقت بلوغه سن السابعة بمدرسة «دار العلم»، التي كان يذهب إليها صباحاً لحضور حصص القراءة والكتابة ومساء لحضور حصص التجويد وعلوم القرآن. إلى ذلك درس هو وأبناء عمومته قواعد اللغة العربية والفقه الإسلامي والحديث على يد مفتي لحج الشيخ أحمد بن علي السالمي، كما درس النحو والصرف والبلاغة والبيان والحساب والتاريخ والجغرافيا على أيدي مدرسين آخرين من مواطنيه. علاوة على ذلك تعلم اللغة الإنجليزية من خلال إرسالية أجنبية في حي التواهي بعدن ومدرسة خاصة في لحج.
أمّنت له ثروة أسرته الحاكمة حياة رغدة استغلها في شبابه في تعزيز ما تعلمه من خلال الاطلاع على كل جديد والإقبال على اقتناء وقراءة الكتب والمجلات العلمية والأدبية والاجتماعية والفنية وتلك المتعلقة بالزراعة باللغتين العربية والإنجليزية، الأمر الذي وسع مداركه وأيقظ لديه الأحاسيس الشاعرية والجمالية فراح يمارس كتابة الشعر والنثر معاً، خصوصاً بعد اطلاعه على كتب المنفلوطي وطه حسين ومقدمة ابن خلدون ودواوين المتنبي والشريف الرضي وشوقي وأبي نواس ورباعيات إلياس فرحات وغيرها.
أغاني مريم
أما تعلقه بالموسيقى والألحان فقد بدأ في طفولته من خلال الأغاني التي كانت تغنيها له مربيته البدوية «مريم»، التي كان يرتاح لسماعها كل ليلة قبل أن ينام والتي خففت عنه الكثير في صغره عندما أصيب بالجدري الذي تمكن من الشفاء منه بعد أن ترك على وجهه آثاراً خفيفة غير واضحة للعيان. وحينما كبر ترسخ حبه وإعجابه بالغناء الشعبي وما يصاحبه من رقص وموسيقى، فتدرب على الآلات الموسيقية وأجاد العزف على السكسفون والبجل والفنيون والأينو، وتمكن من القانون والقنبوس، وتلقى مبادئ وأصول الموسيقى على يد أربعة مدرسين من أصول حلبية كانوا قد نزحوا من تعز واستقروا في الحوطة (عبدالحميد رضا رياض، ورافع رضا رياض، وسعيد تقي الدين الأجاصي، وصدام الفياض). وحينما بدأت الآلات الوترية بالظهور في اليمن مثل العود الصنعاني وبدأ إقبال الموسيقيين على تعلم عزفه كان القمندان أحدهم. وعندما تولى قيادة الجيش قام بتأسيس فرقة موسيقية عسكرية وجلب لها مختلف الآلات النحاسية مع معلمين لتعليم العزف عليها، حيث بدأت الفرقة بالتدرُّب على عزف مقطوعات إنجليزية، وعلى ألحان تلك المقطوعات قام بتأليف وتلحين قصيدته المشهورة «أي بلبل غن لي وأشجني».
وهكذا برز كملحن دون أن يغني، خصوصاً مع دخول الفونوغراف إلى عدن الذي ساهم في انتشار ألحانه ووصولها إلى قلوب وأسماع العاشقين للطرب على الرغم من تسيد الأغاني الهندية والمصرية للمشهد في تلك الحقبة. ومما يجدر بنا ذكره في هذا السياق، أن أعمال القمندان الموسيقية تعرضت لبعض المعوقات، وذلك جراء قيام عدد من فقهاء عدن ولحج بإصدار فتاوى يحرمون فيها الغناء والموسيقى ويذمون أصحابه، ومنهم من خص أغاني القمندان بالتحريم. وقد دافع القمندان عن نفسه من خلال كتيب أصدره بعنوان «فصل الخطاب في إباحة العود والرباب»، ضمنه حججاً وبراهين واقتباسات لفقهاء مشهورين حول جواز الموسيقى والغناء.
فتاوى التحريم
على أن فتاوى التحريم هذه لم تنجح كثيراً في منع انتشار أعماله، إذ انتشرت الأغاني التي قام بتأليفها أو بتلحينها انتشاراً واسعاً في لحج وعدن وما جاورهما من مناطق في عقدي الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين. ومن أوائل الأغاني التي سجلت من ألحانه أو كلماته: «البدرية» و«تاج شمسان» و«همهم على الماطر حبيب نشوان»، حيث قامت بتسجيلها شركة أسطوانات «أوديون» الألمانية وشركة «بيضافون» اللبنانية المتعاونة مع الألمان وشركة «التاج العدني» المحلية. أما الأداء فكان لفنانَين من فرقة القمندان الموسيقية وهما: «فضل محمد جبيلي» و«مسعد بن أحمد حسين»، علماً بأن فرقته هذه قامت أيضاً بتسجيل النشيد الوطني للسلطنة العبدلية اللحجية (نشيد محبة الوطن) والسلام السلطاني (الدعاء السلطاني العبدلي) وكلاهما من كلمات وألحان القمندان. كما تبنى وشجع، من خلال فرقته ومن خلال مدرسة موسيقية أسسها في لحج على نفقته الخاصة، المواهب الفنية الشابة، فتخرج من تلك المدرسة عدد من الشعراء والملحنين أشهرهم الشاعر «عبدالله هادي سبيت» والشاعر «عبدالكريم عبدالله» والمغني والملحن «فضل محمد اللحجي».
«سلك الكهرباء في لحج»
أتى الرحالة الأمريكي من أصل لبناني أمين الريحاني على ذكر القمندان في كتابه الأثير «ملوك العرب»، بعد زيارته لليمن أوائل العشرية الثانية من القرن العشرين، فوصفه بقوله إنه ذو فكر ثاقب واطلاع واسع وثقافة غزيرة، وإنه ليس علماً من أعلام اليمن فحسب، وإنما هو علم من أعلام الجزيرة العربية، واصفاً إياه بشاعر لحج وفيلسوفها وبـ«سلك الكهرباء في لحج». وفي موضع آخر، كتب عنه النص التالي «الأمير أحمد في الأربعين في عمره، جميل الصورة، له جبهة عالية تدل على ذكاء ورجاحة عقل، ويتكلم الإنكليزية بطلاقة، وله ذوق سليم وتصرفات شائقة، ويقضي أوقاته في العلم والتقوى، وله أملاك خاصة توازي أملاك أخيه السلطان، وهو يشرف بنفسه على زراعة أراضيه ويتحمس في إدخال أحدث طرق الري، ويجلب أحدث الآلات الزراعية والأسمدة والأنواع الجديدة من المحاصيل. وهو يشبه السيد الإنكليزي المزارع صاحب الأملاك في القرن الثامن عشر».
«بستان الحسيني»
كما كتب عنه مواطنه السياسي والإداري والمؤلف «عمر عبدالله الجاوي»، الذي وصفه بـ«أحد أمراء لحج الذين اختاروا الفن ومضوا في طريقه دون التفات إلى قوة السلطة وجبروتها. فبفضله أصبح بستان الحسيني ملجأ للجمال والطرب والشعر، ولذا كثرت في أغانيه كلمة (الحسيني) وكلمة (الهاشمي قال) بسبب انتسابه لبني هاشم المعروفين بالأشراف»، علماً بأن «بستان الحسيني» هذا هو بستان القمندان الخاص الذي اعتنى بنفسه لجهة تشجيره وزراعة الغريب من النباتات والأشجار والفواكه والورود فيه، حتى غدا مكاناً شاعرياً جميلاً، وقد زاره العديد من الشخصيات المرموقة، كما زاره فريق من مجلة العربي الكويتية لإعداد استطلاع عنه نشر في عدد المجلة رقم 48. وقد بقي البستان ضمن ملكية العائلة السلطانية حتى أوائل 1968، حينما قامت حكومة جنوب اليمن الماركسية بتأميمه، لكنه عاد إلى ملكية ورثة القمندان عندما تحققت الوحدة اليمنية عام 1990. وكما قال الأستاذ جاوي، كثرت إشارة القمندان في قصائده المغناة إلى هذا البستان وإلى «الهاشمي» وإلى أشياء تمت للطبيعة والفلاحين أو أماكن زارها ومنها أغاني: «سر الهوى في الحسيني»، و«عسى ساعة هني بين عدن وبمبي»، و«دان يا طير كف النياح»، «دان يا مرحبا بالهاشمي»، و«غزلان في الوادي» و«مليح يا زين»، و«دار الذي تهواه»، و«بالقرب من بستان الحسيني» و«على محاذاة وادي تبن»، و«يا حيد ردفان»، و«حالي وا عنب رازقي»، وغيرها.
في السنتين الأخيرتين من حياته أصيب القمندان بالاكتئاب وتوالت عليه الأمراض النفسية والجسمانية التي فشل الأطباء في علاجها، وانتهت معاناته بوفاته في مطلع شهر أغسطس سنة 1943 بمستشفى في حي التواهي بعدن، فتم دفنه بمسجد الدولة في الحوطة، بحضور ساسة وقادة عسكريين ورموز الفكر والثقافة والصحافة في اليمن، وكان ممن نعوه رئيس وزراء مصر وقتذاك مصطفى النحاس باشا.
بقي أن نعرف، أن القمندان هو المؤلف والملحن الأصلي لأحد أشهر الأغنيات الخليجية وأكثرها انتشاراً خارج حدود الخليج وهي أغنية «يا منيتي.. يا سلا خاطري» التي أداها المطرب الكويتي عبدالمحسن المهنا ثم تبعه آخرون.