كتاب ومقالات

«دبسا» في جبهة أخي ولا «مشعاب» بقفاتي

علي بن محمد الرباعي

انهمك (أبو ذيبة) في تنجيم الركيب؛ غطى النجل نصف قصب السنابل، والنجل عدو المزارعين شأن القحط، وما طلع من واديه إلا قُرب المغرب، وعَرَقُه يتصبصب من دغادغه وجبهته وكفانه، احتفشت (ذيبة) أكمامها عن ذرعانها، وشلّت طشت غسيل، وكبته من فوق الجناح، في طرف المسراب؛ صاح أبوها؛ هذي نفعتك ياذيبة؛ أغديتيني شُرعة من راسي إلى ساسي، فألقت الطشت جانباً؛ ونزلت حامشة، تلف ثوبه في كفها، وتعصره وهو يردد؛ فداك فداك؛ وطلب منها تطلع تدوّر له على هتفور يقضي به فرض ربي مع الجماعة في المسيد، ناولته الثوب الملوّن، فافتك المشبك من المبلول، وحط ولبس، وذيبة تلف رأسها في جهة معاكسة، سألته ساخرة؛ ما بتتوضى يابه؟ فطالع فيها متبسماً؛ قال بعد ما روشتيني أزيد أتوضأ، فصعدت بالثوب وهي تضحك، وأبوها يردد اضحكي يا عمياء القلب.

ركزت أربعة أعواد في رماد الملة، ونشرت ثوب والدها على ما بقي من دفء جمرات القرض، وأسهمت تتابع دخاناً متصاعداً فيه من عبق روح وجسد أبيها؛ واستفقدت أمها؛ فخرجت تتلمح لها، وإذا بها مقبلة من قدام بيت (الخياط الأعمى) وطاستها النحاسية، فوق رأسها، انتظرتها حتى وصلت أعلى الدرجة، فلمحت فيها، بعين الريبة؛ ونشدتها؛ وين كنتِ من عصرا؟ أجابتها؛ كنت أعشّي ضعيف الله، (عميان) ما حد يلتهمه، ولا يلمح له، فاستفسرت البنت؛ ويش لأمها عند بوها؛ يوم تلمحين له وتعشينه؛ فقالت؛ أمي وأمه أخوات من الرضاعة، وأضافت: تراه قرا لك البخت، قالت: كيف يقرأ البخت وهو ما يشوف؟ فعبّرت بامتعاض حركي بفكيها.

بات (أبو ذيبة) في ليل أسود من لون الباذنجان؛ انشحب صوته من كثر المهاداة والمناداة، ونشف ريقه؛ كانت (ذيبة) ترقب والدها، وكلها قلق أن تكون هي السبب، فشرحت لأمها ما وقع منها، قالت: لا، لا الطشت ما يرزاه لو فوقه كماه؛ لكن الركيب اللي كان ينجّم فيه النجل، مقسوم بين أهله وبين الجنّ بسم الله علينا، وتلقينه قد زهق في نصيب الجنّ فعجموه، قالت لها: وش البُصر، فقالت؛ خذي الطاسة، امليها ماء، وافلحي بها عند الخياط الأعمى، خليه يقرأ عليها، وما صدق الخياط أنها دخلت عليه، فقام يتخبط ويتدهشر؛ وهي متعافية، رثمته بكوعها على خشمه، لا ون الأعمى؛ يزفر، وصبت ماي الطاسة فوقه، وهو يردد اعقبي يا الكلبة، قالت: تخسى يا البرطم المشتور، وصفقت بالباب؛ وعوّدت على أمها، أبلغتها بتجاوز عميان، فهوّنت الموضوع، وعلّقت؛ الله يأخذ عقلك إن كان صادقة، الكفيف ضعيف، وما يخيّط لي إلا هو وما قد خذ ريال، وتناولت طاسة الرعبة، وانطلقت ما فوق رأسها إلا شيلتها، وما ردّت الرأس إلا نُص الليل، ولقيت الشايب يهلل ويكبّر ويروّي لذيبة رويّة (الناقة المشوّلة) اللي كل ما حملت سقط ذراها.

انتهرها فين كنتِ يا العايبة، فقالت: كنت أسوي لك طاسة الرعبة أربّ الله الحمى تفك عنك، وانفلتت عليه؛ وشبك تنافخ، ما كنك إلا كنت تحوق نثله، ما هلا، منكعر وتنادي الموتان، فقال: الله يجعلك لحوقتهم، وطلب من ذيبة تنقل فراشه من الشقيق، وتاهبه ورا الزافر. وأضاف: أمك تيه كما الغرب المخروق ما يصل القُفّ وفيه نُشفه، كنها ما قد شافت هيله في حياتها، اقترب منها؛ فقالت: فيك صنّه كما صنّة التيس القارح.

أقبل عليه أخوه صبح اليوم التالي؛ يعسّه، ومعه ثلاث حبات خوخ فدري؛ لاحظ مشيته ما هي العادة؛ فسأله: وشبك تكلع، فقال: طحست، ولكن جت عوافي، فقال: الجمل يكرع من أذنه، قال أنا جمل أكرع؛ وأنت مشدود كراعينك معرقبة، فأشعل أبو ذيبة سيجارته، ووضع كفه على جبهته، وهي عدّت من جنبهم، ولا سلّمت.

وقعدت تسوّي القهوة.

وبدأ يذكّر أخوه بقصة زواجه منها فقال، تراك عصيت أبوك، وخذتها غصباً عنه، وعشان كذيه، نقمتك في حياتك، لا أنت عايش كما من عاش، ولا انته خالي رأس، فقال: كان وسمعني وش عبيت من قصايد؟ فشلّ بالصوت (يقول بوعساف بسّتنا مريضه، ما صلّت حتى الفريضه، وخلّت الفيران تأكل من تعبنا، ما معها حرة وغبنا، تترقب البس الكبير إن كان عوّد، ومن يوم ماوا البس الأجعد يا آخ ماوت) أقبلت عليهم بالقهوة، وما انتبه الجيران، إلا على صراخ الأخوين؛ وشتايم (صلختينا الله يصلخك يا عِرق الدناسة).

ودّع أخوه، وقال: بُت رباطها، فردّ عليه: ما ودي أتهمها وهي بريّة، فقال: بيبان كل شيء بيبان، ما يخفى على الله خافية وإن طال المدى، وجاء يوم تالي ليطمئن عليه، فنفرت فيه من ساعة ما بدا عليها، وقالت: أنت ما معك بيت تستكنّ فيه، خل قصايدك تنفعك، أخوك كما اللُّكة في حنكي، ألجغه متى ما هزني الشوق، واتفله متى ما طابت نفسي، وترى يا (صيبان) كُلاً عيبه في جيبه، والله سترك يا شاة بذيلك.

تيقن أن أخوه في الداخل، وسمع الحُتار، ولا بزّ شبر من مكانه، وترقبه لين خرج من المسيد بعد المغرب، وقال: اعلمني، تسمعها تتخزى فوقي وما تشكمها، فقال: ما اقدر، علّق (صيبان) سحرتك يا المسحور الله لا يردك لا أنت ولا هي.

حاول (صيبان) في ولده (مصوّب) يزوّجه من خارج القبيلة، فقال: واللي يفقع عرقوب إبليس ما آخذ إلا ذيبه بنت عمي، بغى فيه، لمح له، صرح له، ما فاد، فقال: ورّع لي لين أنشد فقيه الجبال عن نجمك ونجمها، فقال (مصوّب)، بتتلهوى عليّه، قال: دور وأنا أعطيك العلم اللي يجمد على الشارب، حاول يعمل فرقاء بينهم، ما نجح، فقالت أمه: خله يأخذها، فأقسم بالله وبالطلاق، ما تحلّ عليه يكون تحل على أبوه في قبره، وأضاف: دبسا في جبهة أخي ولا مشعاب في قفاي.