كتاب ومقالات

انتصارات في غزة بطعم الموت !

محمد الساعد

لم يقف الموت والجثث المدفونة في وسط دمار غزة حائلاً عن إعلان حماس انتصارها الوهمي، ولو بيدها لأقامت الحفلات لكن لا شوارع في غزة يمكن أن يقام عليها مأتم فضلاً عن احتفال، إنه انتصار على مقاس حسن نصر الله وبن لادن وطالبان، لا تراه إلا على القنوات الشعبوية، وفي شبكات التواصل الاجتماعي، وكأن الزمن لا يرحل، وكأن «أحمد سعيد» مذيع صوت العرب لا يزال حياً بيننا يشاهد معركة غزة ويصدح كل صباح بانتصارات لم تتحقق ولم يرها أحد.

ما حدث يحكي بدقة عقلية الشرق العربي الذي نعيش فيه، شرق لا يريد رؤية الحقائق، ويرى في الهزائم نكسة، وفي المذبحة انتصاراً، وفي احتلال العجم للعرب أخوة.

في حرب 1967، استطاع الصحفي المصري محمد حسنين هيكل إخراج الهزيمة من صورتها المفجعة في الضمير العربي، ويسميها «نكسة»، لتخف وطأة الألم ويختبئ الخاسر خلف معناها المخفف (إخْفاق، اِنْكِسار). ما فعله هيكل كان هدية من السماء للشعوب العربية التي كانت تنتظر أن تُرمى إسرائيل في البحر. هيكل لم يغرد وحيداً، فالعالم العربي قبلها منه وأحبها وروّجها، عالم في أغلبه يهيم حباً بالمزورين والمخادعين، وإلا لما رأينا من يتبع تعاليم الخميني، وسيد قطب، وحسن البنا، ولا فُجعنا بمن يقدس أسامة بن لادن، والظواهري، والزرقاوي، والبغدادي، إنها ظاهرة عربية بامتياز، وها هم اليوم يرمزون «أبو عبيدة»، وسيظهر غداً ألف «أبو عبيدة» آخر يعلنون الهزائم انتصاراً، ويتواطؤن على ترسيخ الوهم.

رحلة العرب مع تزوير الحقائق عديدة، ولعلنا نُذكّر ببعضها فقط.

في العام 1982 وقعت معركة «سهل البقاع» بين سلاح الجو الإسرائيلي والسوري، استطاعت خلالها إسرائيل تدمير سلاح الجو السوري كاملاً بعدد وصل إلى 90 طائرة، ليخرج الإعلام حينها معلناً الانتصار على إسرائيل؛ لأن النظام بقي ولم يخرج من مشهد الحكم، وهذا بحده عدّوه انتصاراً على قوى الغرب وربيبتها إسرائيل!

في حرب تموز 2006 التي أقحم فيها حزب الله لبنان في صراع دموي مع إسرائيل، وبالرغم من خروج نصر الله معلناً ندمه على فعلته، إلا أنه استطاع العودة من باب آخر أقنع فيه المغيبين في لبنان والعالم العربي بأنه حقق انتصاراً مهماً لصالح لبنان ومحور الممانعة، لينسى الناس ندمه، ويقبلوا منه انتصاره المزور.

في الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 10 سنوات وقُتل فيها مليونا عراقي، إضافة إلى مئات الآلاف من المفقودين والجرحى، ورغم فداحة الخسائر التنموية والبشرية على مستقبل إنسان العراق، حوَّل صدام الخسائر إلى قادسية جديدة، لكن من يجرؤ أن يقول لصدام إنك أوقعت بلادك وشعبك في حروب وويلات لم تكن ضرورية.

اليوم يخرج أبو عبيدة من غزة معلناً انتصاراً بطعم الموت، انتصاراً مغمّساً بدماء الأطفال والنساء، ملفوفاً بركام الأبنية المدمرة والشوارع المهجورة، حتى أن فضيلة إكرام الميتين والوداع الأخير لم تعد متاحة للشعب في غزة.

لقد كان انتصاراً على مقاس الأحزاب الإسلاموية التي ترغم الجميع بقراراتها في الحرب والسلم وعلى الجميع الدفاع عنها وقبولها والهتاف لها، وإلا فأنت المتصهين الكافر الخارج على ملة «حسن البنا»، أما الشعوب المغيبة فهي لا تريد أن تلوم من وضعت على عاتقه أمنياتها الرومانسية غير الواقعية، ولا يريدون أن يعترفوا بأن جزءاً من أمنياتهم كان خاطئاً وغير دقيق، ومن كانوا يلومون الانتكاسات العربية السابقة وقعوا في ما هو أفدح منها.

الدعاية عن انتصار الأموات تدعم إسرائيل التي تريد أن تعظم من فكرة الترويع القاتلة التي تبنتها لعقود طويلة، كما يدعم «أبو العبد إسماعيل هنية» لاستكمال المخطط المعد بدقة بين عواصم إقليمية ودولية لبعثرة أوراق المنطقة، ليتم في نهاية المطاف تسليم غزة إلى تركيا، ومن ثم إدارة تركية للقدس بدلاً من الأردنيين، ولتكون القدس صوتاً يزايد به «الإخوان» والإيرانيون وحزب الله والحوثيون على العالم الإسلامي، يحققون من خلالها مكاسبهم ومصالح دول التخوم الأعجمية على حساب الفضاء العربي.