شيءٌ من الرجل النبيل... صالح العَزَّاز... في ذكرى وفاته
واحدٌ وعشرون عاماً على الرحيل... يا ابن ظلال النخيل!
الجمعة / 02 / جمادى الآخرة / 1445 هـ الجمعة 15 ديسمبر 2023 02:05
بقلم: تركي الدخيل TurkiAldakhil@
ماذا يمكن أن نقول في ذكرى يوم فراقه؟!
أما وقد دلفنا الذكرى الواحدة والعشرين للرحيل، فأخاطب فقيدنا الأثير، مُستَعِيْرَاً بيت القاضي التَنُوخِي، قائلاً:
كَأَنَّكَ مِنْ كُلِّ النُفُوْسِ مُرَكَّبٌ
فَأَنْتَ إِلَى كُلِّ النُفُوْسِ حَبِيْبُ
ومن عَرَفَ الراحل، صالح العَزَّاز، رحمه الله، أدرك أن البيت يُشبِهُ أَبَا الشيهانة، فلِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ من كُلِّ نفسٍ، أَحبَّ الجميع؛ المعارف، وغيرهم، المتفقين، والمختلفين، المؤيدين، والرافضين، المحبين، والمبغضين، والمحسنين... والمسيئين، ولا تظنها مبالغة إن قلنا إنه أحَبَّ المسيئين إليه!
استعصت عليه الإساءة، فَتَرَفَعَ عن رَدِ الإساءة بمثلها، والنفوس العَلِيَّة، تَشُمُ عن الإتيان بالدنايا، وتترفع عن ممارسة الخِسّة، وتَكبُرُ عن مسالك الصغائر.
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتِي العَزَائِمُ
وَتَأتِي عَلى قَدْرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها
وَتَصغُرُ في عَينِ العَظِيمِ العَظائِمُ
في يومٍ، يوافق الجمعة، الخامس عشر، من ديسمبر (كانون الأول)، قبل 21 عاماً، وفي 2002، رَحَلَ إلى جَِوَارِ رَبِّهِ، ابن ظلال النخيل، الإنسان... الإنسان، عن 43 عاماً، مُخَلِّفَاً عَقِبَهُ الطَيِّب: م. الشيهانة، وم. شهد، وم. الشهلاء، وم. عبدالله، وم. ليانا، وإرثاً عريضاً، من نَشرِ الحُبِّ بين الناس، حتى صار محبوباً من الآلاف؛ من يعرفه عن قرب، ومن يعرفه بوصفه شخصية عامة، ومن لم لا يعرف مِن صالح، إلا ما ألقى الله في نفسه من حُبِّهِ، و«الأَروَاحُ جُنودٌ مُجَنَّدَةٌ، فما تعارفَ منها ائتَلَفَ، وما تَنَاكَرَ مِنهَا اِختَلَفَ»، كما في الحديث.
صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها، بَعدَ أن داهمه قبل الوفاة بعام ونصف، ورمٌ في المُخ، وَسَطِ إجازة يقضيها، مع زوجته وأولاده، في الولايات المتحدة، حيثُ لا تُخطئ السعادة، من ضَحِكَاتِ الصِغَارِ البَرِيئَة، فرحة بالوالد الأثير، الذي يبادلونه الحُبَّ، لا بسبب الصدفة الجينية التي جعلتهم أبناء، وجعلته أباً، بل لما بذل الأب الصالح، من جُهدٍ، كي يضع فلذات كبده، في بيئة صالحة، وأجواء مانِحة، وبساتين فائحة، ما يُرَشِّح نبتته لأن تكون زكية، تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بإذن ربها.
وَإِن من أَدبته في الصبا كَالعودِ يَسقى الماء في غرسه
حَتى تَراهُ مورِقاً ناضِراً بَعد الَّذي قَد كانَ من يبسه
لقد كانت زوجة صالح ورفيقة دربه، وأم عياله، السيدة بدرية القبلان، جائزة ترضية لصالح، مقابل ما تعرض في حياته من عقبات وإشكالات. وقد رأيتُ من إخلاص هذه السيدة، حدبها على القيام بكل ما يحتاج صالح إبان العلاج في هيوستن، بكل تفانٍ، ودَأَبٍ، وإخلاصٍ، ومحبةٍ.
توفي صالح، وبِكرُهُ الشيهانة بنت 16 ربيعاً، وآخر عنقوده ليانا بنت ستِ سنين. وبعدَ وفاته سَخَّرت بدرية القبلان نفسها، كما كانت، لإتمام مشروعها وصالح، من خلال ذُريتهما، وأحسنت أيما إحسان بما فعلت، فقد أصبحت شهد والشهلاء وعبدالله وليانا مهندسين، ناجحين في مجالاتهم، وتوجت هذه النجاحات، بنجاحات الشيهانة، والتي جللها في 2 يونيو 2022 الأمر الملكي، «بتعيين الأستاذة / الشيهانة بنت صالح بن عبدالله العزاز نائباً للأمين العام لمجلس الوزراء بالمرتبة الممتازة».
سِرُ الذِكر الحَي... بعد 21 عاماً
لا أَشُكُ أن تساؤلاً لاحَ لبعض القراء الكرام: الرَجُلُ مُتوفى منذ عقدين وعام، فَكَيفَ يَبقَى ذِكْرُهُ -بعد هذا الزمن- حَيَّاً على الألسنِ، وفي حكايا الأصحاب، ووصايا الآباء، وأماني الأمهات، ودعوات الجَدَّات؟!
والحقُ أن من العجيبِ، أَن يَبقى العزاز في ذاكرة الناس، محبوباً، لامعاً، حاضِرَاً، أَلِقَاً، فهذه منزلةٌ لا تُبلَغُ صُدفةً، ولا تُنَالُ حَظَّاً، ولا تُدنِي قِطَافها لغير مستحقٍ، ولا تَرى بها جديرٌ، بغير جِدِّ، واجتهادٍ، وبَذلٍ، ودَأَبٍ، وإِصرارٍ، ولا تعتبر لها كُفُؤٌ، إلا العاملين بِشَغَفٍ، بلا كَلَلٍ، ولا مَلَلٍ، دون شِكايةٍ، ولا تأَفُفٍ. وما سبق من خصالٍ لا تُحازُ إلا بالأَصَالَةِ، ولا تجوزُ فيها الإِنَابَةُ، ولا يَصِحُ فيها التَوكِيلُ، كما قال الطُغرائي:
وإِنَّمَا رَجُلُ الدُّنيا ووَاحِدُهَا
مَن لَا يُعَوِّلُ في الدُّنيا عَلَى رَجُلِ
إن هذا الحب، الذي تَلمَسُهُ في صُنُوفِ النَّاس تجاه العزاز، هو قطاف زرع صالح، يوم أَيقَنَ بأبيات أحمد شوقي:
دَقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلة ٌ له:
إنَّ الحياة دقائقٌ وثواني
فارفع لنفسك بعدَ موتكَ ذكرها
فالذكرُ للإنسان عُمرٌ ثاني
رَفَع صالح ذِكرَهُ بعد موتِهِ، بالمحبة الجَارِفَة التي كان يمنحها للجميع، وبما طُبِعَت عليه حياتُهُ العملية. ومن يعرف العزاز، يجزِمُ بإِن الكَسَلَ، لم يُقِم في مرابعِهِ. إذ كان الرَجُلُ مِثَالاً للعَمَلِ، الدَؤُوبِ، الجَادِّ، بلا تَوَانٍ، ولا إِبطَاءٍ، ولا دَعَةٍ، أو سُكُونٍ، حَتَّى اشتكى زُمَلاؤه من جِدِيَتِهِ، عندما يُشَارِكُونَهُ مُهِمَةً، مُستَغرِبِينَ، كَيفَ يَكُون صالح آخِرهُم مَبِيْتَاً بليلٍ، وأَوَلهُم إِفَاقَةً مَعَ فَجْرٍ!
ويشرح علي العميم، في مقال بمجلة (المجلة)، نُشِرَ في 2001، ما كان عليه العزاز، قائلاً: «إنه مفطورٌ على التحدي، مجبولٌ على إرادةٍ فولاذية، لا يقوى عليها، إلا ذوو الإيمان، والعزم، من الرجال. فإِذا سُدَّ في وجهه طريقٌ، شَقَّ بعزمٍ وتصميمٍ طريقاً جديداً، يُحَقِّقُ فيه نجاحاتِ، تِلوَ نجاحات. فَلَدَيهِ قُدْرَةٌ مُبْهِرَةٌ، على التَجدِيدِ والانبِعَاثِ من جديد. فهو لا يستسلِمُ، ولا يَهُون، رُغمَ عُمقِ المَطَبَّاتِ، التي تَعَثَّرَ بِها، وعُمقِ الحُفَرِ التي سَقَطَ فيها. يُحِبُ الحياةَ، ويُدمِنُ العَملَ، ويَعشَقُ النَجَاحَ، ويَركُلُ الفَشَلَ، ويَلفُظُ الحُزنَ، ويُشَاكِسُ التَقطِيبَ والتَكشِيرَةَ. يَتَحَدَّى المجهولَ، بِتَفَاؤُلٍ لا يَنفَدُ مِدَادُهُ، ولا يَنضَبُ مَعِينُهُ الفَوَّار».
كيف كتب صالح نفسه؟!
أقام صالح العزاز، بالرياض، في فبراير 2001، معرض الصور الفوتوغرافية: (بلا حدود)، وحَقَقَ نجاهاً باهراً، وَقَدَّمَ الراحِلُ نفسه لجمهور المعرض، عبر سيرة ذاتية، مُخْتَلِفَةٍ، كما هُوَ، وهِيَ مَزِيجٌ بين تَفَرُدِهِ، وَتَأَلُقِهِ... إنها سيرةٌ تَجِدُهُ فيها خَارِجَاً عن المألوفِ، داخِلاً في المَعرُوفِ، مُلتَقِطَاً في السيرة، مثلما يفعل في صُوَرِهِ، كُلَّ جميلٍ، يَعِزُ على غَيرِ العَزّاز التقاطه، وإن كان في مرمى البصر، إلا أنه ليس في حدود البصيرة؛ مثلما قال المتنبي:
وَإِطراقُ طَرفِ العَينِ لَيسَ بِنافِعٍ
إِذا كانَ طَرفُ القَلبِ لَيسَ بِمُطرِقِ
(إنسانٌ)، هو عنوان السيرة التي ترجم بها صالح لنفسه، على طريقته، فقال: «لَم يَكُن ذلك الشَيءُ الذي حَدَثَ بين صلاة الظهر والعصر، حَدَثَاً مُهِمَّاً أو غَرِيبَاً، لِأَنَّ الوِلَادَات كانت تَـِتمُ بكثرة، في تِلكَ القرية النائية من العالم، فإِن لَمْ تَلِدْ إحدى النساء، فقد تَلِدُ أحد الأغنام أو النِيَاق. كـانت الوِلادَاتُ تَحدُثُ كُلَّ يوم تقريباً، فَيَكْبُرُ القَطِيعُ! ثَمَةَ امرأةٌ تَرَكَت الحَقلَ عَلَى وَجَلٍ مُتَجِهةً إلى الدَارِ، لَكِنَّ اللحظَةَ أَدْرَكَتهَا، فَسَقَطتُ أنا على الأرضِ عَارِيَاً، مِثـْلَ جُرمٍ فضائيٍّ صَغِيْرٍ وغَرِيبٍ. أَخَذَتنِيْ بينَ كَفَّيهَا، نَفَضَتْ عَنِّي بَقَايَا الرَمْلِ النَّاعِمِ، الذي كَانَ ثَوبِيَ الأَولَ، وسَيَكُونُ ثَوبِيَ الأخير. في عام ١٩٥٩، كانت والِدَتِي: نورة بنت علي الدهيمان، مُنغَمِسَةً بعَمَلِهَا اليَومِيِّ، خِلَالَ مَوسِمِ الحَصَادِ. رَبَطَتْ شَعرَهَا، دُونَ أَنْ يَخطُرَ في بَالِها، أَنَنِي سَأَكُون بين يديها خِلالَ لَحَظَاتٍ، وعندما حَدَثَ وكُنتُ، قَطَعَـتْ حَبـْلَ سُرَّتِي بِمِنجَلِ الحَصَادِ. كانَ أَبي بَعِيدَاً، في مدينة أُخرى، يَبحَثُ عن قُوتِ عِيَالِهِ. لذلك، لا أَحَدَ يَتَذَكَرُ اليَومَ الذي حَدَثَ فيهِ أَمرٌ عَادِيٌّ كَهَذَا، يَتَكَرَرُ كُلَّ يوم، ولا أَحَدَ يَذكُرُ حَتَّى شَهرَ مِيلادِي. لَكِّنَ والِدِي، قالَ لي: إنَّ أَجمَلَ خَبَرٍ تَلَقَّاهُ في حَيَاتِهِ، عندما قِيلَ له: إن مَولُودكَ الثاني، ولدٌ أبيضٌ، وطويلٌ، وجميلٌ. في عام 1979، ذهبتُ إلى نيويورك، لأول مَرَّةٍ، في مُغَامَرَةٍ لا تُنسَى، وفي مَطَارِ كِنِدِي، سألَتْنِي مُوَظَفَةُ الجَوَازَاتِ، امرَأَةٌ بَدِينَةٌ مُقَّطِبَةُ الحَاجِبَينِ: ما هو تاريخ مِيلادكَ؟ فَقُلتُ لها: 1959، فقالت: في أَيِّ يومٍ؟ في أَيِّ شَهرٍ؟ قُلتُ لها: لا أَعرِفُ! صَرَخَت، مُعلِنَةً للمَلأِ، أنَّ ثَمَةَ مَخلُوقٌ، غَريبٌ، وصل إلى نيويورك، لا يعرفُ تاريخَ ميلادِهِ! شَعَرْتُ أَنَّ كُلَّ مـن في المطار، في تِلكَ اللحظة، يُحَدِّقُ في هذا الكَائِنِ الغَرِيبِ، الذي لا يَعْرِفُ متى وُلِدَ. لَمْ يَكُنْ هذا الأمر يُشَكِّل أهمية بالنسبة لي، لَكِن عِندَمَا عِشْتُ في بريطانيا، في التسعينات، وعلى الرغم من أنه تم اختراع التاريخ المطلوب لهذا الحدث، لكن الأمر لَم يَعنِنِي، خاصة أنه تاريخٌ مُلَفَّــقٌ، إلا أنَّ الأسئلةَ بَدَأَت تَتفَاقَمُ، في المُنَاسَبَاتِ: مَا هُو عِيدُ مِيلادِكَ؟ بل وتَتَأَزَمُ، لِتَسْأَلَ: مِن أيِّ الأَبْرَاجِ أَنْتَ؟! كُنتُ أَختَرِعُ لِكُلِّ مُنَاسَبَةٍ حِكَايَةً، وكُنتُ أَروِي حِكَايَةَ جَدَّتِي، مُوضِي الشَّايِع، التي كانت تَلعَبُ دَورَ القَابِـلَةِ، وَوَلَّدَتْ جميعَ أَطفالِ ذَلكَِ المكان البعيد، وكانت تُؤَذِنُ في آَذَانِهِم لَحظَةَ يَخرُجُونَ إلى النُورِ، وَتَدُسُ في حُلُوقِهِم أَوَلَ جُرعَةٍ، من الحياةِ الجديدةَ، تَمرَةً مَغمُوسَةً بِالمَاءِ. كانت تَقُومُ بِكُلِ هذا، وهِيَ امرَأَةٌ كَفِيفِةٌ. لَكِّنَهَا بالنِسبَةِ لِي، كَانَت أَكثَرُ الأَحيَاءِ بَصِيرَةً في نَظَرِي، كَانَت تَرَى الأَشيَاءَ بِقَلبِهَا الكَبِيرِ. كُنتُ، ولا زِلـتُ، أَشعُرُ بِالحُزْنِ، لِأَنَّنِي لَم أَخرُجْ إِلى الحَيَاةِ عَلَى يَدَيهَا، وَلَم تُؤَذِّن بِأُذُنِي، وعندما تُوُفِّيَت، عَن عُمُرٍ يُنَاهِزُ الـ ١٢٠ سَنَةً، شَعَرتُ أَنَنِي في مَهَبِ الرِيحِ. كُلَّمَا بَاغَتَتنِيَ الأَسئِلَةُ عَن بُرجِي، كُنتُ أَختَارُ العَذرَاء مرةَ، أو بُرجَ الأَسَدِ مَرةَ أُخرَى، لَكِن لَم يُصَدِقُنِي أَحـدٌ. كانوا يَقُولُونَ لِي: أَنتَ مِن بُرجِ الحُوتِ، لأَنَّ صِفَةَ المُغَامَرَةِ مَوجُودَةٌ فِيكَ، وَالطِيبَةُ فِي مَلَامِحِكَ. كُنتُ أُعجَبُ بالأُولى، وأَكرَهُ الثانيةَ، لِأَنَّهَا عَلَامَةُ ضَعفٍ إِنسَانِيٍّ، في زَمَنٍ مُتَوَحِشٍ، وَلَو كَانَ لِلإِبِلِ الشَّارِدَةِ بُـرجٌ، لاختَرتُ أَن أَكُونَ مَعَهَا، لِكَي أَكُونَ مِثلَ: جَمَلٍ من الصَحراءِ لم يُلجَمِ».
صوره الفوتوغرافية... الشِعرٌ الصامتٌ
دراسة صالح في كلية الهندسة ثلاث سنواتٍ، أفادته، كما قال، في التصوير الفوتوغرافي. وكشف سبب تركه الدراسة، في حوار محمد نجيب سعد، قائلاً: «كانت طموحاتي وحلمي الحقيقي، بعد دراستي في المرحلة الثانوية، أن أكـون مخرجاً سينمائياً، ولكن عدم وجود من هو على قناعـة بفكرة الإخراج السينمائي، في بلد لا توجد فيه سينما، جعل طموحاتي نوعاً من العبث، وأدركت منذ تلك المرحلة أنني أُغَرِّدُ خـارج السرب، وفي السنة الثالثة في كلية الهندسة، وجدت في الصحافة مرتعاً يحقق جزءاً من أحلامي، أن أقول ما أريد، إلى حد ما، وهو ما كنت أبحث عنه في السينما، ولهذا تورطت في العمل الصـحـافي ثم التصوير». (الحياة)، 10/2/2001.
في الحوار السابق، يتحدث صالح عن ترك الصحافة إلى التصوير، قائلاً: «هذا الانتقال كان سببه أن في داخلي مصوراً، يبحث عن وسيلة الخروج، هذا المصور كان يبحث عن مخرجه مرة في كلية الهندسة، وثانية في الصحافة، ثم الإنتاج التلفزيوني. وأخيراً، وجدت أن التصوير الفوتوغرافي قد يكون وسيلة جيدة للتعبير. وسيلة لتقديم شعرٍ صامت». «إنني ولدتُ مُصوراً، من دون أن أدرك، وكان من الصعب أن أدرك ذلك في سن مــبكرة. أنا مصورٌ، وكاتبٌ في آن واحد، أكتب النص، وأنا متأكدٌ أنه سيترك أثراً عند الآخرين، وهذه مـوهبة أشكر الله عليـهـا، لأنه يعطي للإنسان قدراتٍ، ويترك له الامتحان في كيفية استخدام هذه القدرات. واعتقد انني استخدمتها إيجابياً في محاولة لإشاعة الجـمـال، في عالم مملوء بالقبح». (الحياة).
مقالات المرض العجيبة
اختار صالح في مقالات المرض العجيبة، والرائعة، أن يصف مرض السرطان الذي أصابه في المخ بـ«عش العنكبوت»، وكتبَ المقالات بقلمه المغموس بنهر العذوبة، بأسلوبه الفائق الرائق، السهل الممتنع، الذي يغرف فيه من بحرٍ بلا ساحل، وينحَدِرُ فيه من صَبَبٍ، فشاعت المقالات وذاعت، وسارت في الآفاق مسير الشمس في الأكوان، فلم يقرأها من لم يتفاعل معها، سواءً أكان يعرف صالحاً، أو لم يكن يعرفه، ما أعزوه لأسبابٍ، منها، ما لمسه الجميع من صِدقِ كاتِبِها، وحُسنِ عَرضِها، وصياغتها بحلاوةٍ وطَرَاوَةٍ، رُغم ما تحكيه من ألمٍ ومعاناةٍ، ما أنتجَ مشاركةَ القاريء للكاتبِ في ما يقاسيه من آلام، وهي مُشاركةُ لا يمنحها القاريء الكاتب بالمجان، فلا بُدَّ أن يبذل الكاتب من أجلها غاية الإتقان، في إيصال معاناته، بإجادة الوصف، وسلاسة الشرح، وانتقاء الألفاظ والعبارات، كأنه يُصوِرُ مشهداً بالفيديو، عبر سطور مقاله. وأعود للتذكير بقول العزاز: «أنا كاتبٌ، أَكتُبُ النَّصَ، وأنا مُتَأَكِدٌ أَنهُ سَيَترُكُ أَثَرَاً عِندَ الآَخَرِين»، وتأكيده أنها موهبةٌ منحها الله له.
ومن أسباب قبول مقالات المرض، ما كان العزاز يستبطنه عند كتابة هذه المقالات، من هدفٍ يسعى إليه، وهو أن يُشرك القارئ في خلاصته من تجربة المرض، للتفكر في نعمة الصحة، وما تركه الألم عنده من فلسفة حياتية، حرص على إيصالها للقاريء. تأمله إذ يقول في أحد المقالات: «أستطيع الآن فقط القول: إن تجربة المرض، أقسى وأهم من تجربة الحياة، لأن المرض يكاد يبيد كل شيء، لكنه في الوقت نفسه، يحتوي على كل شيء. وما العمر، والزمن، إلا وهمٌ وغفلة، كما يقول أفلاطون. يتجلى وصف هذه العبارة الأفلاطونية المشحونة جداً، في تلك اللحظة الكهربائية، كأنها البرق يلمع في الظلام. تلك الفاصلة الزمنية، التي تكشف لأحدنا دون مقدمات، عن الوقوع في مصيدة المرض، كأنه الكابوس يجثم على صدرك، وأنت نائم تسبح في بحر الأحلام. فما بالك إذا كان هذا الكابوس من النوع الخطير الذي تقشعر له الأبدان عن بعد، فكيف هي الحال إذا كان يعشش في رأسك مثل العنكبوت. (ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير). لم تكن لحظة عابرة ولا أناسٌ عابرون في كلام عابر ـ عندما جاء الرجل الغريب، وأنا مُلقى على السرير ومحبوس داخل الألم وبلا ذاكرة، والى جواري زوجتي تحاول أن تحرسني بالصلوات والدعاء من سطوة الكابوس، والجن، ووحشة اللحظة، والمكان. ألقى الرجل الغريب قنبلته الانشطارية وذاب في الزحام. في تلك اللحظة الكهربائية، أدركت لأول مرة معنى قولنا: (لحظة صعبة)، أُجَرِّبُها الآن، تلك التي كُنَّا نكتبها أو نتحدث عنها، مثل لحظة سقوط طائرة كُنتَ تسترخي داخلها مع قهوتك وأحلامك الجميلة ثم تهوي بك. مثل صوت انفجار قنبلة غادرة في حديقة تضج بالأطفال والعصافير في الحي الهادئ، وقد كُنتُ مُنطَلِقاً رَاكِضَاً أُسَابِقُ الرِيحَ مثل آلة الناي القديمة، مُقبِلاً على الحياة، غير مُتَرَدِدٍ فيها وغير آَبِهٍ بالأشياءِ الصغيرة، أَقفِزُ كل الحَوَاجِزِ، بلا خَوفٍ ولا وَجَلٍ، شِعَارِي في الحياة: (الحب أقوى من الكراهية). وإذا باللحظة الصعبة تقطع الطريق، وإذا به يمسك بخناقي، يشدني إلى الوراء يغدر بي كأنه الغول، يأخذني باتجاه لا أعرفه، يُودِعُنِي حَبسَ الأَلَمِ، القديم في التجربة التي لا تُطَاقُ، مع المجهول، والغامض، والكابوس، والجِنِّ. فما ينقِذُكَ يا ابنَ ظِلالِ النَّخِيلِ بأَحلامِكَ المُجَدوَلَةِ من كُنُوزِ الشَّمسِ وَسَعَفِ النَّخِيلِ، وهَل لَكَ مِن طَوقِ نَجَاةٍ، غَيرَ أَن تَقرَعَ أَبوَابَ السَمَاءِ، وأَنتَ في مَهَبِّ الرِيحِ. أنا ابن الصحرَاءِ، وأحلامي مُبَعثَرَةٌ، وأَهلِي مِن بَنِي آَكِلِ المَرَارِ، وَلِي وَطَنٌ فَسِيحٌ، مَنسُوجٍ من أَشِعَةِ الشَّمسِ، أُحِبُّهُ ويُحِبُنِي، وفي عِلاقَةٍ نَادِرَةٍ مَع هَذَا الحُبِّ، كَانَت الرُبُعُ الخَالِي، والدَهْنَاءُ، وَرِمَالُ النَفُوْدِ، وجِبَالُ السُوْدَةِ، مِثْلَ غُرَفِ النَّومِ في البَيْتِ الكَبِيْرِ، أَزْرَعُ فيها أَحْلَامِيَ كَيفَ أَشَاءُ، وكُنتُ كُلَّمَا لَمَحْتُ خَيمَةً في مَهَبِّ الرِيحِ، ومن حَولِهَا رَجُلٌ كَأَنَّهُ ومَا حَولَهُ مِن غَنَمٍ وَإِبِلٍ، ذَرَّةً في العَرَاءِ الفَسِيْحِ، كَأَنَّهُ رِيشَةٌ في فَمِ الرِيحِ، في لُجَّةِ كَونٍ لا حُدُودَ لَهُ، تُحِيطُهُ الرَّهْبَةُ، كُنتُ أَمَامَ هَذَا المَشهَد أَتَسَاءَلُ في دَاخِلِي وخَارِجِي، كَيفَ لِمِثلِ هَذَا أَن يَنَامَ وَيَحْلُمَ وَيَصحُوَ؟ مِن أَينَ لَهُ الأَمَلُ؟ مِن أَينَ لَهُ الحَيَاةُ، في مَشهَدٍ لا يَصلُحُ إِلَّا لِصُورَةِ العَطَشِ، وسَطوَةِ عَوَامِلِ التَّعرِيَةِ عَلَى مَلَامِحِ الحَيَاةِ. ويَكُونُ هَذَا التَسَاؤُلُ مَشرُوعَاً ومَنطِقِيَّاً أَمَامَ ذَلِكَ المَشهَدِ، حَيثُ الفَضَاءُ بِلَا حُدُودٍ والسَّمَاءُ أَبعَدُ مِن قُدرَتِنَا عَلَى التَّخَيُلِ، والرِيَاحُ تَعوِي كَأَنَّهَا الذِئَابُ الجَائِعَةُ. وفي كُلِّ مَرَّةٍ يَكُونُ الجَوَابُ، إنَّهُ اليَقِيْنُ الذِيْ يُضِيءُ الظَلَامَ، ويُقَرِّبُ السَّمَاءَ، ويُرْسِلُ الرِّيَاحَ. الذِي خَلَقَ الإِبِلَ سَوفَ يَرعَاهَا وَيَرعَاهُ مَعَهَا. هَا أَنْتَ إِذَاً يَا اَبْنَ ظِلَالِ النَّخِيْلِ في المَشْهَدِ نَفسه مَرَّةَ أُخرَى، في العَرَاءِ وَحِيدَاً، في صَحرَاءٍ لَا تَعْرِفُهَا وَلَا تَعرِفُكَ».
أي صورة بديعة هذه التي نقلنا العزاز معه فيها، من مباغتة الألم ومخاتلته له، على حينِ غِرَّة، عبر فلسفة المرض والحياة، مروراً بإحساس الغائب عن الوعي، عائداً بنا إلى عشقه الأزلي، لوطنه، وللنخيل، وللصحراء، التي يعرفها كما يعرف نفسه، أو أشد قليلاً، حتى لكأنك تتجرع معه وَجَعَ الأَلم، مستخلصاً من التجربة، ما خلص إليه صاحبها.
ثُمَّ، ألا تُرَاهُ، كيفَ أقنَعَنا بقيمة اليقين، دُونَ أَن ندري أن هناك من أقنعنا؟!
هذا منهجٌ فريدٌ، وأسلوبٌ رائعٌ، في بَثِّ الوعي، بمحبةٍ المُتقِن، وطَرِيقَةِ الأستاذ الذي لا يلتفتُ لأُستاذِيته أحد! لذلك يَبلُغُ دَرسُهُ بعُذوبة، وسلاسة، ويُسر.
قضيته الأولى: الحُبُّ... الحُبُّ!
في أبريل 2002، قبل وفاته ببضعة أشهر، وتأكيداً لشِعاره في الحياة (الحب أقوى من الكراهية)، نشر العزاز مقالاً في جريدة (الجزيرة)، قال فيه: «قصة المرض هذه، مُجَرَّد معركة صغيرة، تحدث على هامش الحياة. أريد أن أخرج منها وأنساها. أريد أن أحيلها على الأرشيف والذكريات. الحبُ أكبرُ من كُلِّ الأَلَمِ، وأَجملُ مَا فِي الحَيَاة(...) في وحشة القلب والليل، تنتابني المرارة، لأن مشهد الموت والذبح في أمة محمد، ولمعة الذل والحزن في عيون الأطفال والأمهات أكبر حقيقة ذل ساطعة.. فتصبح يا سيدي قصتي مثل أمتي ساذجة.. لكنني على الرغم من كل هذا الزعاف سأعلن الحب مرة وثانية وثالثة، سأقرع أبواب السماء وأصرخ في وجه أمتي، قائلاً: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي. يتضاءل الخوف ويكبر الأمل، بل إنه يذوب ويختفي أمام عاصفة حب من هذا الطراز، أكادُ أنهضُ من مكاني، أكاد أَركض، أُغني، في هذه اللحظة النادرة... شعور رائع وجميل، أن تقترب من حافّة الموت وكأنك ذاهب إلى موعد تحبه... متفائلٌ جداً، ولا أُرِيدُ أَن أَموت. كل هذا الحب، كل هذه الشموس، نريد أن نعيش، ونطرد الكابوس. في مكان لا يُسمع فيه الأذان (يقصد هيوستن حيث كتب المقال).. تختلف الأوهام والأحلام.. في وحشة الليل والذاكرة يصبح للرشاقة -مثلا- معنى وصورة اللحد الصغير وحجم الضوء والهواء فيه. عندما تصحو مما يتاح لك من فرصة، تذهب يدك إلى جبينك تتحسس هذا الغطاء، ما إذا كان تراباً أم جِداراً للقبر الصغير.. كما تشرق كل يوم على تلال النفود، يُشرِقُ الأمل في الحب ويتلاشى الألم، مثلما يتنفس الصبح في وجه الليل القديم.. أنهَضُ واقفاً وجالِسَاً وأتأملُ في تجربة الحب القديم، أُسَمِّيهِ إعلان الحب، وهناك ألف إعلان في الطريق».
تَأَمَّل، كيف اعتبرَ تجربة المرض أمراً عارضاً، وأن القصة هي دروس معركة المرض، ومنها موضوع الرسالة، في نشر الحب. وتشبيهه جهاز الفحص باللَّحد في القبر، وتفقده الموت كلما أفاق، ثم تفاؤله، إذ يُشرق الأمل بالحب ويتلاشى الألم.
ثم كيف قال إنه ينهضُ واقفاً وينهضُ جالساً، فالنهوض عندهُ بالتفكير، لا بحركة الجسد، مُعتَبِرَاً فكرته في إعلان الحب نُهُوضاً، بَاثَّاً هذا الإعلان، مُعلِنَاً أنَّ في الطريق ألف إعلان وإعلان، فقد استَلهَمَ الرجُل من التجربة، ألَّا يَقضِيَ يوماً لا يُمارِسُ فيه الإيجابية والعطاء، ومحاولة نقل الجمال لأهله ومحبيه وقُرَّاءِه، ولو كَانَ المَرضُ يزِيدُ من وطأَتِه عليه، والمَوتُ يُطِلُ عليهِ بِرَأسِهِ. هذا مع التأكيد، أن صالحاً، طِوالَ عُمُرِهِ، لَم يَقِف مِنَ الحَيَاةِ مَوقِفَ المُتَفَرِجِ، فتَنَبَه لذلك، فضلاً، سيدي القارئ!
المريض الصحافي يجري حواراً مع طبيبه!
قبل وفاة العزاز، بستة أشهر، قَدّم لنا حواراً أجراه صالح مع طبيبه، حول مرض السرطان، وما وصل إليه العلم من أبحاث بحثاً عن العلاج. يا لهذه الحماسة والهِمَّة المتألقة، إذ لا يكتفي صالح، في مرض موته، بمجرد كتابة المقالات المؤثرة عن المرض، بل ها هو يقوم بدور الصحافي، ويجري حواراً صحافياً، باحترافية عالية ومهنية راقية، في موضوع مهم وحيوي. بمثل هذه الهِمَّة، يواجِهُ المتميزون عقبات الحياة، ومصاعب الدنيا، مقبلين غير مدبرين. أَحسبُ سلوك صالح في هذا الجانب، تطبيق عملي لقول صاحبه، بَشَّار:
قَاسِ الهُمُومَ تَنَلْ بِها نُجُحَا
والليلَ إِنَّ وَرَاءَهُ صُبُحا
نُشِرَ الحوار في (الشرق الأوسط)، 19 مايو 2002، وكتب صالح في المقدمة: «لا تزال معركة الطب مع مرض السرطان، إحدى المعارك الحيوية، مثل معركة أمريكا مع الإرهاب. تنام وتصحو على المفاجآت والتوقعات، لكن حسابات الأطباء والعلماء في هذا الجانب، تبدو بكل تأكيد أكثر إنسانية وأخلاقية. وأنا هذه المرّة، أجمع الصفتين؛ المريض والصحافي، أي أنني في عين العاصفة بشكل حقيقي، يثير انتباهي كل ما له علاقة بهذه المعركة الطويلة والمستمرة منذ أكثر من ثلاثين عاماً. قالَ لِي مَرَّةً في حديث مشترك، البروفيسور فيليب سالم: «إذا قَدَّرنَا رحلة الطب مع هذا المرض بعشر نقاط، نكون الآن بالنقطة السادسة!، لكن هذا لا يعني أن ما تبقى سوف يحتاج إلى الوقت أو الجهد نفسه».. قال لي: «أنا متفائل جداً». ولأنني عشت وما زلت أعيش هذه المعركة وهذه التجربة، وقد استفدت من الطب الحديث، وأشعر أنني في المرحلة الأخيرة من رحلة الشفاء، ومن باب الشكر لله سبحانه وتعالى والاعتراف بفضله وكرمه، رأيت أن أقَدِّم من هذه التجربة ما يمكن أن يُساهم في إشاعة الأمل والمعرفة، لمساعدة الذين يتعرضون لهذا الألم. ولهذا الغرض أنوي إجراء سلسلة حوارات، حول هذا الموضوع، مع الطبيب البروفيسور سالم، الذي أشرف على علاجي ولا يزال، وهو الذي يُعَدُّ علامة مضيئة في هذا المجال، إذ يترأس برنامج الأبحاث السرطانية، في مستشفى سانت لوقا في هيوستن، وبروفيسور في طب السرطان في جامعة تكساس، بل سأفعل أكثر من ذلك، كلما كان ذلك ممكناً... طلبت من طبيبي، أن يعطيني إجازة قصيرة مثل استراحة المحارب، من رحلة «الكيموثيربي» اليومية، لكنني طلبت منه جرعة بديلة، وهي أن نجري هذا الحوار، لعله يؤسس لسلسلة الحوارات التي ستشمل الجوانب العلمية والفلسفية والنفسية لهذا المرض».
كتاباتٌ لم تنشر
يقول صالح في بعض ما كتب أثناء مرضه، ولم يُنشر:
المرضُ سجنٌ حقيرٌ وصغيرٌ، لكن اليأس هو السَجَّان، الذي يُحكِم إغلاق الأبواب والنوافذ. اليأسُ هو السجن الذي يتلذذ بالألم والفظاعات. بالتفاؤل واليقين والأمل، لا السِجنُ باقٍ ولا السّجَّان.
الألم ضروري للإنسان، لكي يصل إلى درب الحكمة... الألم يحرركم من قشوركم... خبرة الألم تمنحك التواضع، تقرّبك من المحرومين والبسطاء.
من الألم تُشرق الروح أكثر طُهراً، والنفس أكثر صفاءً، وأكثر حباً.
بين جُرعات الألم تُشرق شمس اليقين، فتتعرف على معنى الخوف والرجاء.
يتلألأ الإنسان بالألم.
الألم إبحارٌ في الذات والوجود، بطريقة لم تُجَرَّب من قبل. مثل الذهاب إلى خط النهاية والعودة من هناك.
عِشق الصحراء!
لا يبدو صعباً الوقوف على هيام صالح بالصحراء، وعشقه لها، ولا يمكن أن يتمنى أحد أن يدفن في الصحراء، إلا وقد صدق في إعلان عشقه لها.
لا بُدَّ من التنبيه، إلى أن العزاز، أقام معرضين فوتوغرافيين، أولهما عام 1996، وأقامه في الفضاء المفتوح في صحراء الدهناء، في جُرأةٍ نادِرة، يقول العزاز عنها في حوار أجراه معه، محمد الشهري: «سبق لي أن أقمتُ ما أُسَمِّيه مُغامرةً، أكثر منهُ تجربةً أو معرضاً، وكانت تجربة جيدةً، لأنها تركت انطباعاً جيداً في نفوس الذين حضروا، إذ تعود الناس أن يذهبوا لمشاهدة الفن في أجنحة الفنادق الفخمة والفاخرة، على اعتبار أن الفَنَّ من كماليات الترف والرفاهية. كانت تلك المغامرة، محاولةً لإشاعة حالة التذوق الفني في الأوساط المفتوحة. استمر المعرض من السادسة صباحاً إلى السادسة مساءً. كان الارتباط بضوء الشمس، جزءً من الجو العام الذي أردته للمعرض. أصبح لَدَيَ حالةٌ من الوَلَعِ بالصحراءِ(...) صِرتُ أَشعُرُ بمسؤولية أخلاقية تجاه علاقة الناس بالصحراء». «هناك مسؤولية أخلاقية للفن عموماً، إن الفن في تقديري وسيلة فاعلة جداً لتهذيب أخلاقيات الناس. اعتقد أن الثقافة البصرية، وسيلة مهمة جداً، للسيطرة على اتجاهات الرأي العام والذوق العام، وبالتالي، فأنا على قناعة، بالأهمية الإيجابية للفن التشكيلي، والتصوير الفوتوغرافي، والفن السينمائي المرئي. ولولا قناعتي أن هذا العمل الذي أُقَدِمُهُ يتركُ أثراً إيجابياً في نفوس الناس، لما استمريت فيه». (الرياض)، 8 فبراير 2001.
في معرض (بلا حدود)، قال صالح: «أنا لا أُحِبُ المدن كثيراً، لأنها تصادر حريتي، ولا تمنحني ذلك التباين بين الضوء والظل الذي تمنحني إياه الصحراء: خيمتي الأولى والأخيرة. لذلك فقد قررتُ أن أجعل صورَ المدينة محاطة بصور الصحراء: أمها الحنونة. واعتقد أنني بهذا المعرض سوف أقترب من الصحراء أكثر، بل سألتصق بها، لأنني كلما ذهبت إليها تمنيتُ لو أنني عشت هناك، أرعى الإبل، وأقرأ أشعار المتنبي، وأحفظ قصائد عنترة. سوف أعود إلى الصحراء، ولكن بطرقي الخاصة. سوف تدخل الصحراء لتضيء بيوتكم وغرف نومكم وجلوسكم، وتنقذكم من وحشة الأسمنت والمدن المزدحمة. تخيلوا أنفسكم أيها البدو بدون صحراء مفتوحة!».
لقد كان من شغف العزاز بالصحراء، أنه كان يُفَكِّرُ جدياً، أن يقصُر أعماله الفوتوغرافية على الصحراء، فقال في مقابلة، أجراها معه، محمد السلامة: «أنا ابن الصحراء، تربطني علاقة خاصة بها، وأعتقد أن تجربتي مع التصوير الفوتوغرافي، سوف تنتهي عند موضوع الصحراء، بمعنى أنه ربما بعد المعرض (بلا حدود)، سأكونُ رجلاً صحراوياً، في أعمالي، وتفكيري، ستكون أعمالي المقبلة، وربما إلى الأبد، محورها الرئيسي: الصحراء». (الاقتصادية)، 7 فبراير 2001.
وفي بيان العزاز لرسالته، يقول في المقابلة نفسها: «إنني لا أقيم المعرض لمجرد العرض فقط، بل لإيصال رسالة تبشيرية، في موضوع الجمال، وأن أحاول، وبكل تواضع أو غرور، أن أرفع مستوى تذوق الجمال البصري عند الناس».
• ومن كتابات صالح التي لم تُنشَر، عن الصحراء، ما يلي: «تؤلمني فكرة العودة إلى المملكة داخل صندوق مُبَرَّد ومُغلق. أريد أن أُدفنَ حيث أُقبض، ولا أريد أن أدفن إلا حيث وُلِدت. هناك بالفلاة مع شوارد الإبل، حيث حرية الصحراء بلا صدى«.»إنني لا أحب أسطورة الموت بالمنفى، تلك التي اخترعها أدباء المشرق، لكنني في الوقت نفسه، أكره تلك المقابر، ذات الأسوار العالية جداً، كأنها السجون، أو حدائق الحيوانات المفترسة، تخفي خوفاً مريعاً لدى الأحياء، تجاه الأموات، ربما لأنهم لا يريدون أن يتذكروا مصيرهم الحتمي في زحمة الحياة أبداً. وإن كان لا بد، فإنني أتمنى أن يكون قبري على قمة أحد التلال النائية، في قلب الصحراء البعيدة، مع شوارد الإبل، حيث مشهد الصحراء الرائع الذي طالما تأملته، دون أن أشبع منه، أو إلى جوار جدتي الرائعة في قريتي. تلك المقبرة النائمة في ظلال النخيل، والتي تشعر كأنها جزء من حياة تلك القرية، حيث كان الأحياء والأموات في بيت واحد، يتبادلون تحية الصباح، ويكتفي الأحياء، وحدهم، بتناول قهوتهم، وللأموات الرائحة. ما أروع أن أكون مع جدتي فقط. اشتقت إليها كثيراً». «يتحدثون في الكثير من الأدبيات الحديثة عن سأم الصحراء! وهم لا يدرون أنهم يأتون إلى الصحراء، حاملين ذلك السأم في أعماقهم، مثل ما يحملون من مخلفات عوادم السيارات، وبقايا سجائر سهرة البارحة. أما الصحراء، فلا تعرف السأم، بل هي العلاج الحقيقي للسأم».
الرحيل المُر
كان صالح، رحمه الله، على أُهبة الاستعداد للرحيل، وحينَ زُرتُه في هيوستن، إِبَّانَ العلاج، سأَلتُه: هل أنت مستعدٌ للخيار الأسوأ؟! فقال: «رَاضٍ عَمَّا تَرَكتُ من بَصَمَاتٍ في حياتي. ولَستُ جَزِعَاً من المَوتِ، فقد يَكُونُ دَوْرِيَ انتهى، في عَزفِ مَقطَعٍ مِنْ السِيمفُونِيَّةِ».
ولَإِن كان فِراقُ الأهل، ورفيقةُ الدربٍ، وفلذاتُ الأَكبَادِ، صعبٌ وعسيرٌ وموحشٌ، يتجرّعه المرءُ ولا يكاد يُسِيغُه، إلا أن العزاء في ما هُوَ بِحُسن ظَنِّه بالله، مُوقِنٌ بِهِ، رَفَعَ الله دَرَجَاته.
رحلَ، العزاز، ولَمَّا يَعُبُ من الدنيا، ما يكفي، ولم تشرب الدنيا من عذبه ما يروي. في الثالثة والأربعين من عمره، انسحب الرجل الجميل من المسرح، لا مُؤذناً بانتهاء العَرضِ، بل مُعلِنَاً انتهاء دوره في الأداء، ولا عَزاء لمن أعجبهم حضوره المسرحي، وتجويده حَدَّ الإتقان، في زيادة دوره قليلاً، أو إعادة جُمَلٍ من حَظِّه في السيناريو.
إيهٍ أبا الشيهانة، وقد مَرّ على وداعك واحدٌ وعشرون عاماً، اسمح لي أن أُخبرك، بما أَظُنُّكَ تستحقه، ظَنَّا ليس من الإثم في شيء... لا نَفتَأُ نُعِيدُ مقطع عزفك القصير، مبهورين بما قَدَمتَ، مُتَعَلِمِينَ مِنكَ، رحمك الله، في غيابك، مثلما تعلمنا في حياتك؛ أَنَّ الأَثَرَ الطَيِّبَ، لا يُقَاسُ بِطُوْلِ الدورِ، بل بإتقانِ الإجراء، وفصاحةِ الإلقاء.
أما وقد دلفنا الذكرى الواحدة والعشرين للرحيل، فأخاطب فقيدنا الأثير، مُستَعِيْرَاً بيت القاضي التَنُوخِي، قائلاً:
كَأَنَّكَ مِنْ كُلِّ النُفُوْسِ مُرَكَّبٌ
فَأَنْتَ إِلَى كُلِّ النُفُوْسِ حَبِيْبُ
ومن عَرَفَ الراحل، صالح العَزَّاز، رحمه الله، أدرك أن البيت يُشبِهُ أَبَا الشيهانة، فلِأَنَّهُ مُرَكَّبٌ من كُلِّ نفسٍ، أَحبَّ الجميع؛ المعارف، وغيرهم، المتفقين، والمختلفين، المؤيدين، والرافضين، المحبين، والمبغضين، والمحسنين... والمسيئين، ولا تظنها مبالغة إن قلنا إنه أحَبَّ المسيئين إليه!
استعصت عليه الإساءة، فَتَرَفَعَ عن رَدِ الإساءة بمثلها، والنفوس العَلِيَّة، تَشُمُ عن الإتيان بالدنايا، وتترفع عن ممارسة الخِسّة، وتَكبُرُ عن مسالك الصغائر.
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتِي العَزَائِمُ
وَتَأتِي عَلى قَدْرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها
وَتَصغُرُ في عَينِ العَظِيمِ العَظائِمُ
في يومٍ، يوافق الجمعة، الخامس عشر، من ديسمبر (كانون الأول)، قبل 21 عاماً، وفي 2002، رَحَلَ إلى جَِوَارِ رَبِّهِ، ابن ظلال النخيل، الإنسان... الإنسان، عن 43 عاماً، مُخَلِّفَاً عَقِبَهُ الطَيِّب: م. الشيهانة، وم. شهد، وم. الشهلاء، وم. عبدالله، وم. ليانا، وإرثاً عريضاً، من نَشرِ الحُبِّ بين الناس، حتى صار محبوباً من الآلاف؛ من يعرفه عن قرب، ومن يعرفه بوصفه شخصية عامة، ومن لم لا يعرف مِن صالح، إلا ما ألقى الله في نفسه من حُبِّهِ، و«الأَروَاحُ جُنودٌ مُجَنَّدَةٌ، فما تعارفَ منها ائتَلَفَ، وما تَنَاكَرَ مِنهَا اِختَلَفَ»، كما في الحديث.
صعدت روحه الطاهرة إلى بارئها، بَعدَ أن داهمه قبل الوفاة بعام ونصف، ورمٌ في المُخ، وَسَطِ إجازة يقضيها، مع زوجته وأولاده، في الولايات المتحدة، حيثُ لا تُخطئ السعادة، من ضَحِكَاتِ الصِغَارِ البَرِيئَة، فرحة بالوالد الأثير، الذي يبادلونه الحُبَّ، لا بسبب الصدفة الجينية التي جعلتهم أبناء، وجعلته أباً، بل لما بذل الأب الصالح، من جُهدٍ، كي يضع فلذات كبده، في بيئة صالحة، وأجواء مانِحة، وبساتين فائحة، ما يُرَشِّح نبتته لأن تكون زكية، تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بإذن ربها.
وَإِن من أَدبته في الصبا كَالعودِ يَسقى الماء في غرسه
حَتى تَراهُ مورِقاً ناضِراً بَعد الَّذي قَد كانَ من يبسه
لقد كانت زوجة صالح ورفيقة دربه، وأم عياله، السيدة بدرية القبلان، جائزة ترضية لصالح، مقابل ما تعرض في حياته من عقبات وإشكالات. وقد رأيتُ من إخلاص هذه السيدة، حدبها على القيام بكل ما يحتاج صالح إبان العلاج في هيوستن، بكل تفانٍ، ودَأَبٍ، وإخلاصٍ، ومحبةٍ.
توفي صالح، وبِكرُهُ الشيهانة بنت 16 ربيعاً، وآخر عنقوده ليانا بنت ستِ سنين. وبعدَ وفاته سَخَّرت بدرية القبلان نفسها، كما كانت، لإتمام مشروعها وصالح، من خلال ذُريتهما، وأحسنت أيما إحسان بما فعلت، فقد أصبحت شهد والشهلاء وعبدالله وليانا مهندسين، ناجحين في مجالاتهم، وتوجت هذه النجاحات، بنجاحات الشيهانة، والتي جللها في 2 يونيو 2022 الأمر الملكي، «بتعيين الأستاذة / الشيهانة بنت صالح بن عبدالله العزاز نائباً للأمين العام لمجلس الوزراء بالمرتبة الممتازة».
سِرُ الذِكر الحَي... بعد 21 عاماً
لا أَشُكُ أن تساؤلاً لاحَ لبعض القراء الكرام: الرَجُلُ مُتوفى منذ عقدين وعام، فَكَيفَ يَبقَى ذِكْرُهُ -بعد هذا الزمن- حَيَّاً على الألسنِ، وفي حكايا الأصحاب، ووصايا الآباء، وأماني الأمهات، ودعوات الجَدَّات؟!
والحقُ أن من العجيبِ، أَن يَبقى العزاز في ذاكرة الناس، محبوباً، لامعاً، حاضِرَاً، أَلِقَاً، فهذه منزلةٌ لا تُبلَغُ صُدفةً، ولا تُنَالُ حَظَّاً، ولا تُدنِي قِطَافها لغير مستحقٍ، ولا تَرى بها جديرٌ، بغير جِدِّ، واجتهادٍ، وبَذلٍ، ودَأَبٍ، وإِصرارٍ، ولا تعتبر لها كُفُؤٌ، إلا العاملين بِشَغَفٍ، بلا كَلَلٍ، ولا مَلَلٍ، دون شِكايةٍ، ولا تأَفُفٍ. وما سبق من خصالٍ لا تُحازُ إلا بالأَصَالَةِ، ولا تجوزُ فيها الإِنَابَةُ، ولا يَصِحُ فيها التَوكِيلُ، كما قال الطُغرائي:
وإِنَّمَا رَجُلُ الدُّنيا ووَاحِدُهَا
مَن لَا يُعَوِّلُ في الدُّنيا عَلَى رَجُلِ
إن هذا الحب، الذي تَلمَسُهُ في صُنُوفِ النَّاس تجاه العزاز، هو قطاف زرع صالح، يوم أَيقَنَ بأبيات أحمد شوقي:
دَقَّاتُ قلبِ المرءِ قائلة ٌ له:
إنَّ الحياة دقائقٌ وثواني
فارفع لنفسك بعدَ موتكَ ذكرها
فالذكرُ للإنسان عُمرٌ ثاني
رَفَع صالح ذِكرَهُ بعد موتِهِ، بالمحبة الجَارِفَة التي كان يمنحها للجميع، وبما طُبِعَت عليه حياتُهُ العملية. ومن يعرف العزاز، يجزِمُ بإِن الكَسَلَ، لم يُقِم في مرابعِهِ. إذ كان الرَجُلُ مِثَالاً للعَمَلِ، الدَؤُوبِ، الجَادِّ، بلا تَوَانٍ، ولا إِبطَاءٍ، ولا دَعَةٍ، أو سُكُونٍ، حَتَّى اشتكى زُمَلاؤه من جِدِيَتِهِ، عندما يُشَارِكُونَهُ مُهِمَةً، مُستَغرِبِينَ، كَيفَ يَكُون صالح آخِرهُم مَبِيْتَاً بليلٍ، وأَوَلهُم إِفَاقَةً مَعَ فَجْرٍ!
ويشرح علي العميم، في مقال بمجلة (المجلة)، نُشِرَ في 2001، ما كان عليه العزاز، قائلاً: «إنه مفطورٌ على التحدي، مجبولٌ على إرادةٍ فولاذية، لا يقوى عليها، إلا ذوو الإيمان، والعزم، من الرجال. فإِذا سُدَّ في وجهه طريقٌ، شَقَّ بعزمٍ وتصميمٍ طريقاً جديداً، يُحَقِّقُ فيه نجاحاتِ، تِلوَ نجاحات. فَلَدَيهِ قُدْرَةٌ مُبْهِرَةٌ، على التَجدِيدِ والانبِعَاثِ من جديد. فهو لا يستسلِمُ، ولا يَهُون، رُغمَ عُمقِ المَطَبَّاتِ، التي تَعَثَّرَ بِها، وعُمقِ الحُفَرِ التي سَقَطَ فيها. يُحِبُ الحياةَ، ويُدمِنُ العَملَ، ويَعشَقُ النَجَاحَ، ويَركُلُ الفَشَلَ، ويَلفُظُ الحُزنَ، ويُشَاكِسُ التَقطِيبَ والتَكشِيرَةَ. يَتَحَدَّى المجهولَ، بِتَفَاؤُلٍ لا يَنفَدُ مِدَادُهُ، ولا يَنضَبُ مَعِينُهُ الفَوَّار».
كيف كتب صالح نفسه؟!
أقام صالح العزاز، بالرياض، في فبراير 2001، معرض الصور الفوتوغرافية: (بلا حدود)، وحَقَقَ نجاهاً باهراً، وَقَدَّمَ الراحِلُ نفسه لجمهور المعرض، عبر سيرة ذاتية، مُخْتَلِفَةٍ، كما هُوَ، وهِيَ مَزِيجٌ بين تَفَرُدِهِ، وَتَأَلُقِهِ... إنها سيرةٌ تَجِدُهُ فيها خَارِجَاً عن المألوفِ، داخِلاً في المَعرُوفِ، مُلتَقِطَاً في السيرة، مثلما يفعل في صُوَرِهِ، كُلَّ جميلٍ، يَعِزُ على غَيرِ العَزّاز التقاطه، وإن كان في مرمى البصر، إلا أنه ليس في حدود البصيرة؛ مثلما قال المتنبي:
وَإِطراقُ طَرفِ العَينِ لَيسَ بِنافِعٍ
إِذا كانَ طَرفُ القَلبِ لَيسَ بِمُطرِقِ
(إنسانٌ)، هو عنوان السيرة التي ترجم بها صالح لنفسه، على طريقته، فقال: «لَم يَكُن ذلك الشَيءُ الذي حَدَثَ بين صلاة الظهر والعصر، حَدَثَاً مُهِمَّاً أو غَرِيبَاً، لِأَنَّ الوِلَادَات كانت تَـِتمُ بكثرة، في تِلكَ القرية النائية من العالم، فإِن لَمْ تَلِدْ إحدى النساء، فقد تَلِدُ أحد الأغنام أو النِيَاق. كـانت الوِلادَاتُ تَحدُثُ كُلَّ يوم تقريباً، فَيَكْبُرُ القَطِيعُ! ثَمَةَ امرأةٌ تَرَكَت الحَقلَ عَلَى وَجَلٍ مُتَجِهةً إلى الدَارِ، لَكِنَّ اللحظَةَ أَدْرَكَتهَا، فَسَقَطتُ أنا على الأرضِ عَارِيَاً، مِثـْلَ جُرمٍ فضائيٍّ صَغِيْرٍ وغَرِيبٍ. أَخَذَتنِيْ بينَ كَفَّيهَا، نَفَضَتْ عَنِّي بَقَايَا الرَمْلِ النَّاعِمِ، الذي كَانَ ثَوبِيَ الأَولَ، وسَيَكُونُ ثَوبِيَ الأخير. في عام ١٩٥٩، كانت والِدَتِي: نورة بنت علي الدهيمان، مُنغَمِسَةً بعَمَلِهَا اليَومِيِّ، خِلَالَ مَوسِمِ الحَصَادِ. رَبَطَتْ شَعرَهَا، دُونَ أَنْ يَخطُرَ في بَالِها، أَنَنِي سَأَكُون بين يديها خِلالَ لَحَظَاتٍ، وعندما حَدَثَ وكُنتُ، قَطَعَـتْ حَبـْلَ سُرَّتِي بِمِنجَلِ الحَصَادِ. كانَ أَبي بَعِيدَاً، في مدينة أُخرى، يَبحَثُ عن قُوتِ عِيَالِهِ. لذلك، لا أَحَدَ يَتَذَكَرُ اليَومَ الذي حَدَثَ فيهِ أَمرٌ عَادِيٌّ كَهَذَا، يَتَكَرَرُ كُلَّ يوم، ولا أَحَدَ يَذكُرُ حَتَّى شَهرَ مِيلادِي. لَكِّنَ والِدِي، قالَ لي: إنَّ أَجمَلَ خَبَرٍ تَلَقَّاهُ في حَيَاتِهِ، عندما قِيلَ له: إن مَولُودكَ الثاني، ولدٌ أبيضٌ، وطويلٌ، وجميلٌ. في عام 1979، ذهبتُ إلى نيويورك، لأول مَرَّةٍ، في مُغَامَرَةٍ لا تُنسَى، وفي مَطَارِ كِنِدِي، سألَتْنِي مُوَظَفَةُ الجَوَازَاتِ، امرَأَةٌ بَدِينَةٌ مُقَّطِبَةُ الحَاجِبَينِ: ما هو تاريخ مِيلادكَ؟ فَقُلتُ لها: 1959، فقالت: في أَيِّ يومٍ؟ في أَيِّ شَهرٍ؟ قُلتُ لها: لا أَعرِفُ! صَرَخَت، مُعلِنَةً للمَلأِ، أنَّ ثَمَةَ مَخلُوقٌ، غَريبٌ، وصل إلى نيويورك، لا يعرفُ تاريخَ ميلادِهِ! شَعَرْتُ أَنَّ كُلَّ مـن في المطار، في تِلكَ اللحظة، يُحَدِّقُ في هذا الكَائِنِ الغَرِيبِ، الذي لا يَعْرِفُ متى وُلِدَ. لَمْ يَكُنْ هذا الأمر يُشَكِّل أهمية بالنسبة لي، لَكِن عِندَمَا عِشْتُ في بريطانيا، في التسعينات، وعلى الرغم من أنه تم اختراع التاريخ المطلوب لهذا الحدث، لكن الأمر لَم يَعنِنِي، خاصة أنه تاريخٌ مُلَفَّــقٌ، إلا أنَّ الأسئلةَ بَدَأَت تَتفَاقَمُ، في المُنَاسَبَاتِ: مَا هُو عِيدُ مِيلادِكَ؟ بل وتَتَأَزَمُ، لِتَسْأَلَ: مِن أيِّ الأَبْرَاجِ أَنْتَ؟! كُنتُ أَختَرِعُ لِكُلِّ مُنَاسَبَةٍ حِكَايَةً، وكُنتُ أَروِي حِكَايَةَ جَدَّتِي، مُوضِي الشَّايِع، التي كانت تَلعَبُ دَورَ القَابِـلَةِ، وَوَلَّدَتْ جميعَ أَطفالِ ذَلكَِ المكان البعيد، وكانت تُؤَذِنُ في آَذَانِهِم لَحظَةَ يَخرُجُونَ إلى النُورِ، وَتَدُسُ في حُلُوقِهِم أَوَلَ جُرعَةٍ، من الحياةِ الجديدةَ، تَمرَةً مَغمُوسَةً بِالمَاءِ. كانت تَقُومُ بِكُلِ هذا، وهِيَ امرَأَةٌ كَفِيفِةٌ. لَكِّنَهَا بالنِسبَةِ لِي، كَانَت أَكثَرُ الأَحيَاءِ بَصِيرَةً في نَظَرِي، كَانَت تَرَى الأَشيَاءَ بِقَلبِهَا الكَبِيرِ. كُنتُ، ولا زِلـتُ، أَشعُرُ بِالحُزْنِ، لِأَنَّنِي لَم أَخرُجْ إِلى الحَيَاةِ عَلَى يَدَيهَا، وَلَم تُؤَذِّن بِأُذُنِي، وعندما تُوُفِّيَت، عَن عُمُرٍ يُنَاهِزُ الـ ١٢٠ سَنَةً، شَعَرتُ أَنَنِي في مَهَبِ الرِيحِ. كُلَّمَا بَاغَتَتنِيَ الأَسئِلَةُ عَن بُرجِي، كُنتُ أَختَارُ العَذرَاء مرةَ، أو بُرجَ الأَسَدِ مَرةَ أُخرَى، لَكِن لَم يُصَدِقُنِي أَحـدٌ. كانوا يَقُولُونَ لِي: أَنتَ مِن بُرجِ الحُوتِ، لأَنَّ صِفَةَ المُغَامَرَةِ مَوجُودَةٌ فِيكَ، وَالطِيبَةُ فِي مَلَامِحِكَ. كُنتُ أُعجَبُ بالأُولى، وأَكرَهُ الثانيةَ، لِأَنَّهَا عَلَامَةُ ضَعفٍ إِنسَانِيٍّ، في زَمَنٍ مُتَوَحِشٍ، وَلَو كَانَ لِلإِبِلِ الشَّارِدَةِ بُـرجٌ، لاختَرتُ أَن أَكُونَ مَعَهَا، لِكَي أَكُونَ مِثلَ: جَمَلٍ من الصَحراءِ لم يُلجَمِ».
صوره الفوتوغرافية... الشِعرٌ الصامتٌ
دراسة صالح في كلية الهندسة ثلاث سنواتٍ، أفادته، كما قال، في التصوير الفوتوغرافي. وكشف سبب تركه الدراسة، في حوار محمد نجيب سعد، قائلاً: «كانت طموحاتي وحلمي الحقيقي، بعد دراستي في المرحلة الثانوية، أن أكـون مخرجاً سينمائياً، ولكن عدم وجود من هو على قناعـة بفكرة الإخراج السينمائي، في بلد لا توجد فيه سينما، جعل طموحاتي نوعاً من العبث، وأدركت منذ تلك المرحلة أنني أُغَرِّدُ خـارج السرب، وفي السنة الثالثة في كلية الهندسة، وجدت في الصحافة مرتعاً يحقق جزءاً من أحلامي، أن أقول ما أريد، إلى حد ما، وهو ما كنت أبحث عنه في السينما، ولهذا تورطت في العمل الصـحـافي ثم التصوير». (الحياة)، 10/2/2001.
في الحوار السابق، يتحدث صالح عن ترك الصحافة إلى التصوير، قائلاً: «هذا الانتقال كان سببه أن في داخلي مصوراً، يبحث عن وسيلة الخروج، هذا المصور كان يبحث عن مخرجه مرة في كلية الهندسة، وثانية في الصحافة، ثم الإنتاج التلفزيوني. وأخيراً، وجدت أن التصوير الفوتوغرافي قد يكون وسيلة جيدة للتعبير. وسيلة لتقديم شعرٍ صامت». «إنني ولدتُ مُصوراً، من دون أن أدرك، وكان من الصعب أن أدرك ذلك في سن مــبكرة. أنا مصورٌ، وكاتبٌ في آن واحد، أكتب النص، وأنا متأكدٌ أنه سيترك أثراً عند الآخرين، وهذه مـوهبة أشكر الله عليـهـا، لأنه يعطي للإنسان قدراتٍ، ويترك له الامتحان في كيفية استخدام هذه القدرات. واعتقد انني استخدمتها إيجابياً في محاولة لإشاعة الجـمـال، في عالم مملوء بالقبح». (الحياة).
مقالات المرض العجيبة
اختار صالح في مقالات المرض العجيبة، والرائعة، أن يصف مرض السرطان الذي أصابه في المخ بـ«عش العنكبوت»، وكتبَ المقالات بقلمه المغموس بنهر العذوبة، بأسلوبه الفائق الرائق، السهل الممتنع، الذي يغرف فيه من بحرٍ بلا ساحل، وينحَدِرُ فيه من صَبَبٍ، فشاعت المقالات وذاعت، وسارت في الآفاق مسير الشمس في الأكوان، فلم يقرأها من لم يتفاعل معها، سواءً أكان يعرف صالحاً، أو لم يكن يعرفه، ما أعزوه لأسبابٍ، منها، ما لمسه الجميع من صِدقِ كاتِبِها، وحُسنِ عَرضِها، وصياغتها بحلاوةٍ وطَرَاوَةٍ، رُغم ما تحكيه من ألمٍ ومعاناةٍ، ما أنتجَ مشاركةَ القاريء للكاتبِ في ما يقاسيه من آلام، وهي مُشاركةُ لا يمنحها القاريء الكاتب بالمجان، فلا بُدَّ أن يبذل الكاتب من أجلها غاية الإتقان، في إيصال معاناته، بإجادة الوصف، وسلاسة الشرح، وانتقاء الألفاظ والعبارات، كأنه يُصوِرُ مشهداً بالفيديو، عبر سطور مقاله. وأعود للتذكير بقول العزاز: «أنا كاتبٌ، أَكتُبُ النَّصَ، وأنا مُتَأَكِدٌ أَنهُ سَيَترُكُ أَثَرَاً عِندَ الآَخَرِين»، وتأكيده أنها موهبةٌ منحها الله له.
ومن أسباب قبول مقالات المرض، ما كان العزاز يستبطنه عند كتابة هذه المقالات، من هدفٍ يسعى إليه، وهو أن يُشرك القارئ في خلاصته من تجربة المرض، للتفكر في نعمة الصحة، وما تركه الألم عنده من فلسفة حياتية، حرص على إيصالها للقاريء. تأمله إذ يقول في أحد المقالات: «أستطيع الآن فقط القول: إن تجربة المرض، أقسى وأهم من تجربة الحياة، لأن المرض يكاد يبيد كل شيء، لكنه في الوقت نفسه، يحتوي على كل شيء. وما العمر، والزمن، إلا وهمٌ وغفلة، كما يقول أفلاطون. يتجلى وصف هذه العبارة الأفلاطونية المشحونة جداً، في تلك اللحظة الكهربائية، كأنها البرق يلمع في الظلام. تلك الفاصلة الزمنية، التي تكشف لأحدنا دون مقدمات، عن الوقوع في مصيدة المرض، كأنه الكابوس يجثم على صدرك، وأنت نائم تسبح في بحر الأحلام. فما بالك إذا كان هذا الكابوس من النوع الخطير الذي تقشعر له الأبدان عن بعد، فكيف هي الحال إذا كان يعشش في رأسك مثل العنكبوت. (ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير). لم تكن لحظة عابرة ولا أناسٌ عابرون في كلام عابر ـ عندما جاء الرجل الغريب، وأنا مُلقى على السرير ومحبوس داخل الألم وبلا ذاكرة، والى جواري زوجتي تحاول أن تحرسني بالصلوات والدعاء من سطوة الكابوس، والجن، ووحشة اللحظة، والمكان. ألقى الرجل الغريب قنبلته الانشطارية وذاب في الزحام. في تلك اللحظة الكهربائية، أدركت لأول مرة معنى قولنا: (لحظة صعبة)، أُجَرِّبُها الآن، تلك التي كُنَّا نكتبها أو نتحدث عنها، مثل لحظة سقوط طائرة كُنتَ تسترخي داخلها مع قهوتك وأحلامك الجميلة ثم تهوي بك. مثل صوت انفجار قنبلة غادرة في حديقة تضج بالأطفال والعصافير في الحي الهادئ، وقد كُنتُ مُنطَلِقاً رَاكِضَاً أُسَابِقُ الرِيحَ مثل آلة الناي القديمة، مُقبِلاً على الحياة، غير مُتَرَدِدٍ فيها وغير آَبِهٍ بالأشياءِ الصغيرة، أَقفِزُ كل الحَوَاجِزِ، بلا خَوفٍ ولا وَجَلٍ، شِعَارِي في الحياة: (الحب أقوى من الكراهية). وإذا باللحظة الصعبة تقطع الطريق، وإذا به يمسك بخناقي، يشدني إلى الوراء يغدر بي كأنه الغول، يأخذني باتجاه لا أعرفه، يُودِعُنِي حَبسَ الأَلَمِ، القديم في التجربة التي لا تُطَاقُ، مع المجهول، والغامض، والكابوس، والجِنِّ. فما ينقِذُكَ يا ابنَ ظِلالِ النَّخِيلِ بأَحلامِكَ المُجَدوَلَةِ من كُنُوزِ الشَّمسِ وَسَعَفِ النَّخِيلِ، وهَل لَكَ مِن طَوقِ نَجَاةٍ، غَيرَ أَن تَقرَعَ أَبوَابَ السَمَاءِ، وأَنتَ في مَهَبِّ الرِيحِ. أنا ابن الصحرَاءِ، وأحلامي مُبَعثَرَةٌ، وأَهلِي مِن بَنِي آَكِلِ المَرَارِ، وَلِي وَطَنٌ فَسِيحٌ، مَنسُوجٍ من أَشِعَةِ الشَّمسِ، أُحِبُّهُ ويُحِبُنِي، وفي عِلاقَةٍ نَادِرَةٍ مَع هَذَا الحُبِّ، كَانَت الرُبُعُ الخَالِي، والدَهْنَاءُ، وَرِمَالُ النَفُوْدِ، وجِبَالُ السُوْدَةِ، مِثْلَ غُرَفِ النَّومِ في البَيْتِ الكَبِيْرِ، أَزْرَعُ فيها أَحْلَامِيَ كَيفَ أَشَاءُ، وكُنتُ كُلَّمَا لَمَحْتُ خَيمَةً في مَهَبِّ الرِيحِ، ومن حَولِهَا رَجُلٌ كَأَنَّهُ ومَا حَولَهُ مِن غَنَمٍ وَإِبِلٍ، ذَرَّةً في العَرَاءِ الفَسِيْحِ، كَأَنَّهُ رِيشَةٌ في فَمِ الرِيحِ، في لُجَّةِ كَونٍ لا حُدُودَ لَهُ، تُحِيطُهُ الرَّهْبَةُ، كُنتُ أَمَامَ هَذَا المَشهَد أَتَسَاءَلُ في دَاخِلِي وخَارِجِي، كَيفَ لِمِثلِ هَذَا أَن يَنَامَ وَيَحْلُمَ وَيَصحُوَ؟ مِن أَينَ لَهُ الأَمَلُ؟ مِن أَينَ لَهُ الحَيَاةُ، في مَشهَدٍ لا يَصلُحُ إِلَّا لِصُورَةِ العَطَشِ، وسَطوَةِ عَوَامِلِ التَّعرِيَةِ عَلَى مَلَامِحِ الحَيَاةِ. ويَكُونُ هَذَا التَسَاؤُلُ مَشرُوعَاً ومَنطِقِيَّاً أَمَامَ ذَلِكَ المَشهَدِ، حَيثُ الفَضَاءُ بِلَا حُدُودٍ والسَّمَاءُ أَبعَدُ مِن قُدرَتِنَا عَلَى التَّخَيُلِ، والرِيَاحُ تَعوِي كَأَنَّهَا الذِئَابُ الجَائِعَةُ. وفي كُلِّ مَرَّةٍ يَكُونُ الجَوَابُ، إنَّهُ اليَقِيْنُ الذِيْ يُضِيءُ الظَلَامَ، ويُقَرِّبُ السَّمَاءَ، ويُرْسِلُ الرِّيَاحَ. الذِي خَلَقَ الإِبِلَ سَوفَ يَرعَاهَا وَيَرعَاهُ مَعَهَا. هَا أَنْتَ إِذَاً يَا اَبْنَ ظِلَالِ النَّخِيْلِ في المَشْهَدِ نَفسه مَرَّةَ أُخرَى، في العَرَاءِ وَحِيدَاً، في صَحرَاءٍ لَا تَعْرِفُهَا وَلَا تَعرِفُكَ».
أي صورة بديعة هذه التي نقلنا العزاز معه فيها، من مباغتة الألم ومخاتلته له، على حينِ غِرَّة، عبر فلسفة المرض والحياة، مروراً بإحساس الغائب عن الوعي، عائداً بنا إلى عشقه الأزلي، لوطنه، وللنخيل، وللصحراء، التي يعرفها كما يعرف نفسه، أو أشد قليلاً، حتى لكأنك تتجرع معه وَجَعَ الأَلم، مستخلصاً من التجربة، ما خلص إليه صاحبها.
ثُمَّ، ألا تُرَاهُ، كيفَ أقنَعَنا بقيمة اليقين، دُونَ أَن ندري أن هناك من أقنعنا؟!
هذا منهجٌ فريدٌ، وأسلوبٌ رائعٌ، في بَثِّ الوعي، بمحبةٍ المُتقِن، وطَرِيقَةِ الأستاذ الذي لا يلتفتُ لأُستاذِيته أحد! لذلك يَبلُغُ دَرسُهُ بعُذوبة، وسلاسة، ويُسر.
قضيته الأولى: الحُبُّ... الحُبُّ!
في أبريل 2002، قبل وفاته ببضعة أشهر، وتأكيداً لشِعاره في الحياة (الحب أقوى من الكراهية)، نشر العزاز مقالاً في جريدة (الجزيرة)، قال فيه: «قصة المرض هذه، مُجَرَّد معركة صغيرة، تحدث على هامش الحياة. أريد أن أخرج منها وأنساها. أريد أن أحيلها على الأرشيف والذكريات. الحبُ أكبرُ من كُلِّ الأَلَمِ، وأَجملُ مَا فِي الحَيَاة(...) في وحشة القلب والليل، تنتابني المرارة، لأن مشهد الموت والذبح في أمة محمد، ولمعة الذل والحزن في عيون الأطفال والأمهات أكبر حقيقة ذل ساطعة.. فتصبح يا سيدي قصتي مثل أمتي ساذجة.. لكنني على الرغم من كل هذا الزعاف سأعلن الحب مرة وثانية وثالثة، سأقرع أبواب السماء وأصرخ في وجه أمتي، قائلاً: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي. يتضاءل الخوف ويكبر الأمل، بل إنه يذوب ويختفي أمام عاصفة حب من هذا الطراز، أكادُ أنهضُ من مكاني، أكاد أَركض، أُغني، في هذه اللحظة النادرة... شعور رائع وجميل، أن تقترب من حافّة الموت وكأنك ذاهب إلى موعد تحبه... متفائلٌ جداً، ولا أُرِيدُ أَن أَموت. كل هذا الحب، كل هذه الشموس، نريد أن نعيش، ونطرد الكابوس. في مكان لا يُسمع فيه الأذان (يقصد هيوستن حيث كتب المقال).. تختلف الأوهام والأحلام.. في وحشة الليل والذاكرة يصبح للرشاقة -مثلا- معنى وصورة اللحد الصغير وحجم الضوء والهواء فيه. عندما تصحو مما يتاح لك من فرصة، تذهب يدك إلى جبينك تتحسس هذا الغطاء، ما إذا كان تراباً أم جِداراً للقبر الصغير.. كما تشرق كل يوم على تلال النفود، يُشرِقُ الأمل في الحب ويتلاشى الألم، مثلما يتنفس الصبح في وجه الليل القديم.. أنهَضُ واقفاً وجالِسَاً وأتأملُ في تجربة الحب القديم، أُسَمِّيهِ إعلان الحب، وهناك ألف إعلان في الطريق».
تَأَمَّل، كيف اعتبرَ تجربة المرض أمراً عارضاً، وأن القصة هي دروس معركة المرض، ومنها موضوع الرسالة، في نشر الحب. وتشبيهه جهاز الفحص باللَّحد في القبر، وتفقده الموت كلما أفاق، ثم تفاؤله، إذ يُشرق الأمل بالحب ويتلاشى الألم.
ثم كيف قال إنه ينهضُ واقفاً وينهضُ جالساً، فالنهوض عندهُ بالتفكير، لا بحركة الجسد، مُعتَبِرَاً فكرته في إعلان الحب نُهُوضاً، بَاثَّاً هذا الإعلان، مُعلِنَاً أنَّ في الطريق ألف إعلان وإعلان، فقد استَلهَمَ الرجُل من التجربة، ألَّا يَقضِيَ يوماً لا يُمارِسُ فيه الإيجابية والعطاء، ومحاولة نقل الجمال لأهله ومحبيه وقُرَّاءِه، ولو كَانَ المَرضُ يزِيدُ من وطأَتِه عليه، والمَوتُ يُطِلُ عليهِ بِرَأسِهِ. هذا مع التأكيد، أن صالحاً، طِوالَ عُمُرِهِ، لَم يَقِف مِنَ الحَيَاةِ مَوقِفَ المُتَفَرِجِ، فتَنَبَه لذلك، فضلاً، سيدي القارئ!
المريض الصحافي يجري حواراً مع طبيبه!
قبل وفاة العزاز، بستة أشهر، قَدّم لنا حواراً أجراه صالح مع طبيبه، حول مرض السرطان، وما وصل إليه العلم من أبحاث بحثاً عن العلاج. يا لهذه الحماسة والهِمَّة المتألقة، إذ لا يكتفي صالح، في مرض موته، بمجرد كتابة المقالات المؤثرة عن المرض، بل ها هو يقوم بدور الصحافي، ويجري حواراً صحافياً، باحترافية عالية ومهنية راقية، في موضوع مهم وحيوي. بمثل هذه الهِمَّة، يواجِهُ المتميزون عقبات الحياة، ومصاعب الدنيا، مقبلين غير مدبرين. أَحسبُ سلوك صالح في هذا الجانب، تطبيق عملي لقول صاحبه، بَشَّار:
قَاسِ الهُمُومَ تَنَلْ بِها نُجُحَا
والليلَ إِنَّ وَرَاءَهُ صُبُحا
نُشِرَ الحوار في (الشرق الأوسط)، 19 مايو 2002، وكتب صالح في المقدمة: «لا تزال معركة الطب مع مرض السرطان، إحدى المعارك الحيوية، مثل معركة أمريكا مع الإرهاب. تنام وتصحو على المفاجآت والتوقعات، لكن حسابات الأطباء والعلماء في هذا الجانب، تبدو بكل تأكيد أكثر إنسانية وأخلاقية. وأنا هذه المرّة، أجمع الصفتين؛ المريض والصحافي، أي أنني في عين العاصفة بشكل حقيقي، يثير انتباهي كل ما له علاقة بهذه المعركة الطويلة والمستمرة منذ أكثر من ثلاثين عاماً. قالَ لِي مَرَّةً في حديث مشترك، البروفيسور فيليب سالم: «إذا قَدَّرنَا رحلة الطب مع هذا المرض بعشر نقاط، نكون الآن بالنقطة السادسة!، لكن هذا لا يعني أن ما تبقى سوف يحتاج إلى الوقت أو الجهد نفسه».. قال لي: «أنا متفائل جداً». ولأنني عشت وما زلت أعيش هذه المعركة وهذه التجربة، وقد استفدت من الطب الحديث، وأشعر أنني في المرحلة الأخيرة من رحلة الشفاء، ومن باب الشكر لله سبحانه وتعالى والاعتراف بفضله وكرمه، رأيت أن أقَدِّم من هذه التجربة ما يمكن أن يُساهم في إشاعة الأمل والمعرفة، لمساعدة الذين يتعرضون لهذا الألم. ولهذا الغرض أنوي إجراء سلسلة حوارات، حول هذا الموضوع، مع الطبيب البروفيسور سالم، الذي أشرف على علاجي ولا يزال، وهو الذي يُعَدُّ علامة مضيئة في هذا المجال، إذ يترأس برنامج الأبحاث السرطانية، في مستشفى سانت لوقا في هيوستن، وبروفيسور في طب السرطان في جامعة تكساس، بل سأفعل أكثر من ذلك، كلما كان ذلك ممكناً... طلبت من طبيبي، أن يعطيني إجازة قصيرة مثل استراحة المحارب، من رحلة «الكيموثيربي» اليومية، لكنني طلبت منه جرعة بديلة، وهي أن نجري هذا الحوار، لعله يؤسس لسلسلة الحوارات التي ستشمل الجوانب العلمية والفلسفية والنفسية لهذا المرض».
كتاباتٌ لم تنشر
يقول صالح في بعض ما كتب أثناء مرضه، ولم يُنشر:
المرضُ سجنٌ حقيرٌ وصغيرٌ، لكن اليأس هو السَجَّان، الذي يُحكِم إغلاق الأبواب والنوافذ. اليأسُ هو السجن الذي يتلذذ بالألم والفظاعات. بالتفاؤل واليقين والأمل، لا السِجنُ باقٍ ولا السّجَّان.
الألم ضروري للإنسان، لكي يصل إلى درب الحكمة... الألم يحرركم من قشوركم... خبرة الألم تمنحك التواضع، تقرّبك من المحرومين والبسطاء.
من الألم تُشرق الروح أكثر طُهراً، والنفس أكثر صفاءً، وأكثر حباً.
بين جُرعات الألم تُشرق شمس اليقين، فتتعرف على معنى الخوف والرجاء.
يتلألأ الإنسان بالألم.
الألم إبحارٌ في الذات والوجود، بطريقة لم تُجَرَّب من قبل. مثل الذهاب إلى خط النهاية والعودة من هناك.
عِشق الصحراء!
لا يبدو صعباً الوقوف على هيام صالح بالصحراء، وعشقه لها، ولا يمكن أن يتمنى أحد أن يدفن في الصحراء، إلا وقد صدق في إعلان عشقه لها.
لا بُدَّ من التنبيه، إلى أن العزاز، أقام معرضين فوتوغرافيين، أولهما عام 1996، وأقامه في الفضاء المفتوح في صحراء الدهناء، في جُرأةٍ نادِرة، يقول العزاز عنها في حوار أجراه معه، محمد الشهري: «سبق لي أن أقمتُ ما أُسَمِّيه مُغامرةً، أكثر منهُ تجربةً أو معرضاً، وكانت تجربة جيدةً، لأنها تركت انطباعاً جيداً في نفوس الذين حضروا، إذ تعود الناس أن يذهبوا لمشاهدة الفن في أجنحة الفنادق الفخمة والفاخرة، على اعتبار أن الفَنَّ من كماليات الترف والرفاهية. كانت تلك المغامرة، محاولةً لإشاعة حالة التذوق الفني في الأوساط المفتوحة. استمر المعرض من السادسة صباحاً إلى السادسة مساءً. كان الارتباط بضوء الشمس، جزءً من الجو العام الذي أردته للمعرض. أصبح لَدَيَ حالةٌ من الوَلَعِ بالصحراءِ(...) صِرتُ أَشعُرُ بمسؤولية أخلاقية تجاه علاقة الناس بالصحراء». «هناك مسؤولية أخلاقية للفن عموماً، إن الفن في تقديري وسيلة فاعلة جداً لتهذيب أخلاقيات الناس. اعتقد أن الثقافة البصرية، وسيلة مهمة جداً، للسيطرة على اتجاهات الرأي العام والذوق العام، وبالتالي، فأنا على قناعة، بالأهمية الإيجابية للفن التشكيلي، والتصوير الفوتوغرافي، والفن السينمائي المرئي. ولولا قناعتي أن هذا العمل الذي أُقَدِمُهُ يتركُ أثراً إيجابياً في نفوس الناس، لما استمريت فيه». (الرياض)، 8 فبراير 2001.
في معرض (بلا حدود)، قال صالح: «أنا لا أُحِبُ المدن كثيراً، لأنها تصادر حريتي، ولا تمنحني ذلك التباين بين الضوء والظل الذي تمنحني إياه الصحراء: خيمتي الأولى والأخيرة. لذلك فقد قررتُ أن أجعل صورَ المدينة محاطة بصور الصحراء: أمها الحنونة. واعتقد أنني بهذا المعرض سوف أقترب من الصحراء أكثر، بل سألتصق بها، لأنني كلما ذهبت إليها تمنيتُ لو أنني عشت هناك، أرعى الإبل، وأقرأ أشعار المتنبي، وأحفظ قصائد عنترة. سوف أعود إلى الصحراء، ولكن بطرقي الخاصة. سوف تدخل الصحراء لتضيء بيوتكم وغرف نومكم وجلوسكم، وتنقذكم من وحشة الأسمنت والمدن المزدحمة. تخيلوا أنفسكم أيها البدو بدون صحراء مفتوحة!».
لقد كان من شغف العزاز بالصحراء، أنه كان يُفَكِّرُ جدياً، أن يقصُر أعماله الفوتوغرافية على الصحراء، فقال في مقابلة، أجراها معه، محمد السلامة: «أنا ابن الصحراء، تربطني علاقة خاصة بها، وأعتقد أن تجربتي مع التصوير الفوتوغرافي، سوف تنتهي عند موضوع الصحراء، بمعنى أنه ربما بعد المعرض (بلا حدود)، سأكونُ رجلاً صحراوياً، في أعمالي، وتفكيري، ستكون أعمالي المقبلة، وربما إلى الأبد، محورها الرئيسي: الصحراء». (الاقتصادية)، 7 فبراير 2001.
وفي بيان العزاز لرسالته، يقول في المقابلة نفسها: «إنني لا أقيم المعرض لمجرد العرض فقط، بل لإيصال رسالة تبشيرية، في موضوع الجمال، وأن أحاول، وبكل تواضع أو غرور، أن أرفع مستوى تذوق الجمال البصري عند الناس».
• ومن كتابات صالح التي لم تُنشَر، عن الصحراء، ما يلي: «تؤلمني فكرة العودة إلى المملكة داخل صندوق مُبَرَّد ومُغلق. أريد أن أُدفنَ حيث أُقبض، ولا أريد أن أدفن إلا حيث وُلِدت. هناك بالفلاة مع شوارد الإبل، حيث حرية الصحراء بلا صدى«.»إنني لا أحب أسطورة الموت بالمنفى، تلك التي اخترعها أدباء المشرق، لكنني في الوقت نفسه، أكره تلك المقابر، ذات الأسوار العالية جداً، كأنها السجون، أو حدائق الحيوانات المفترسة، تخفي خوفاً مريعاً لدى الأحياء، تجاه الأموات، ربما لأنهم لا يريدون أن يتذكروا مصيرهم الحتمي في زحمة الحياة أبداً. وإن كان لا بد، فإنني أتمنى أن يكون قبري على قمة أحد التلال النائية، في قلب الصحراء البعيدة، مع شوارد الإبل، حيث مشهد الصحراء الرائع الذي طالما تأملته، دون أن أشبع منه، أو إلى جوار جدتي الرائعة في قريتي. تلك المقبرة النائمة في ظلال النخيل، والتي تشعر كأنها جزء من حياة تلك القرية، حيث كان الأحياء والأموات في بيت واحد، يتبادلون تحية الصباح، ويكتفي الأحياء، وحدهم، بتناول قهوتهم، وللأموات الرائحة. ما أروع أن أكون مع جدتي فقط. اشتقت إليها كثيراً». «يتحدثون في الكثير من الأدبيات الحديثة عن سأم الصحراء! وهم لا يدرون أنهم يأتون إلى الصحراء، حاملين ذلك السأم في أعماقهم، مثل ما يحملون من مخلفات عوادم السيارات، وبقايا سجائر سهرة البارحة. أما الصحراء، فلا تعرف السأم، بل هي العلاج الحقيقي للسأم».
الرحيل المُر
كان صالح، رحمه الله، على أُهبة الاستعداد للرحيل، وحينَ زُرتُه في هيوستن، إِبَّانَ العلاج، سأَلتُه: هل أنت مستعدٌ للخيار الأسوأ؟! فقال: «رَاضٍ عَمَّا تَرَكتُ من بَصَمَاتٍ في حياتي. ولَستُ جَزِعَاً من المَوتِ، فقد يَكُونُ دَوْرِيَ انتهى، في عَزفِ مَقطَعٍ مِنْ السِيمفُونِيَّةِ».
ولَإِن كان فِراقُ الأهل، ورفيقةُ الدربٍ، وفلذاتُ الأَكبَادِ، صعبٌ وعسيرٌ وموحشٌ، يتجرّعه المرءُ ولا يكاد يُسِيغُه، إلا أن العزاء في ما هُوَ بِحُسن ظَنِّه بالله، مُوقِنٌ بِهِ، رَفَعَ الله دَرَجَاته.
رحلَ، العزاز، ولَمَّا يَعُبُ من الدنيا، ما يكفي، ولم تشرب الدنيا من عذبه ما يروي. في الثالثة والأربعين من عمره، انسحب الرجل الجميل من المسرح، لا مُؤذناً بانتهاء العَرضِ، بل مُعلِنَاً انتهاء دوره في الأداء، ولا عَزاء لمن أعجبهم حضوره المسرحي، وتجويده حَدَّ الإتقان، في زيادة دوره قليلاً، أو إعادة جُمَلٍ من حَظِّه في السيناريو.
إيهٍ أبا الشيهانة، وقد مَرّ على وداعك واحدٌ وعشرون عاماً، اسمح لي أن أُخبرك، بما أَظُنُّكَ تستحقه، ظَنَّا ليس من الإثم في شيء... لا نَفتَأُ نُعِيدُ مقطع عزفك القصير، مبهورين بما قَدَمتَ، مُتَعَلِمِينَ مِنكَ، رحمك الله، في غيابك، مثلما تعلمنا في حياتك؛ أَنَّ الأَثَرَ الطَيِّبَ، لا يُقَاسُ بِطُوْلِ الدورِ، بل بإتقانِ الإجراء، وفصاحةِ الإلقاء.