زكي طليمات.. الأب الروحي للمسرح الكويتي
الاثنين / 05 / جمادى الآخرة / 1445 هـ الاثنين 18 ديسمبر 2023 01:29
بقلم: د. عبدالله المدني abu_taymour@
إذا ما نقبنا في تاريخ الحركة المسرحية في الكويت، فإن المصادر الموثقة تجمع على أن البدايات الأولى للنشاط المسرحي كانت في عام 1924، حينما تم عرض مسرحية باللغة الفصحى بعنوان «المحاورة الإصلاحية» لمؤلفها الأديب والمؤرخ والمصلح عبدالعزيز الرشيد، وكان الأخير يهدف من ورائها لبيان رأيه في طبيعة الصراع بين العلماء المجددين والتقليديين، والإفصاح عن انحيازه لدعاة التجديد ومحاربي الجهل والخرافات.
في السنوات التالية انشغلت الكويت عن المسرح ليعود اهتمامها به مجدداً عام 1938، من خلال المسرح المدرسي أيضاً وعلى أيدي المعلمين العرب الذين وفدوا إلى البلاد ابتداءً من أواخر 1936، حيث عُرضت مسرحية «إسلام عمر» من تقديم طلبة مدرسة المباركية وبحضور الحاكم الشيخ أحمد الجابر الصباح والمعتمد البريطاني السيد دكوري، بل إن واحداً ممن شاركوا فيها كان الطالب الشيخ جابر الأحمد الجابر (أمير الكويت الأسبق). وفي هذا السياق، علقت الكاتبة الكويتية شيخة البهاويد في مقال لها سنة 2017 بعنوان «بداية عظيمة ونتائج مؤسفة: التدهور التراجيدي للمسرح الكويتي»، قائلة ما مفاده إن سماح الحاكم لابنه بالمشاركة في المسرحية سببه ما كان للمسرح وقتذاك من احترام ومكانة، لتصل إلى القول إنه «بعد ثمانين عاماً من ذلك التاريخ نرى اليوم مسرحيات تافهة ومخدشة للحياء بنصوصها ومضامينها إلى درجة أن الجمهور صار يتردد في أخذ عائلته إليها». أما الملفت للنظر حقاً في ما خص مسرحية «إسلام عمر»، هو أن نساء الكويت حضرنها أيضاً في ذلك الوقت المبكر من تاريخ البلاد، وتمّ إعداد مكان خاص لهن على سطح المدرسة.
توسعت الحركة المسرحية في الكويت بعد ذهاب الطلبة الكويتيين إلى مصر في بعثات دراسية، وهو ما أثر إيجاباً على عشقهم للمسرح ومحاولتهم خلق بصمة خاصة بهم على غرار ما شاهدوه هناك. وهكذا ظهرت مسرحية «المروءة المقنعة» سنة 1947، وبعد ذلك مثلت فرقة التمثيل رواية هزلية بعنوان «مهزلة في مهزلة»، التي تعتبر أول نص مسرحي كتب في الكويت من تأليف الشاعر أحمد مشاري العدواني، مع ملاحظة أن الفترة ما بين عامي 1943 و1955 شهدت اتساع انتقال العروض المسرحية من النصوص الدينية بالفصحى إلى عروض مسرحية اجتماعية مكتوبة باللهجة المحلية، ومثالها مسرحيتا «مدير فاشل» و«أم عنبر»، اللتان يعود الفضل فيهما للفنانين حمد الرجيب ومحمد النشمي.
أخذت الحركة المسرحية الطابع الرسمي منذ أواخر الخمسينات، وذلك بعد استدعاء دائرة الشؤون الاجتماعية (كانت وقتذاك تحت قيادة الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير الكويت الراحل) الأستاذ زكي طليمات للتباحث معه في شؤون المسرح بهدف الارتقاء بالحركة المسرحية في الكويت وفق خطط علمية مدروسة.
وزكي طليمات ليس في عداد النخب الخليجية التي اعتدنا تسليط الأضواء على مسيرتها وإسهاماتها في نهضة المنطقة، لكنه حتماً من النخب العربية التي خدمت الخليج بإخلاص وتفانٍ في مجال تخصصها. تشهد على ذلك جهوده في ترسيخ مفاهيم جديدة في البيئة الكويتية لتقبل العمل المسرحي كفن وليس كنشاط مضاد للعادات والتقاليد، وقيامه بالربط ما بين ألوان النشاط الفني من مسرح وموسيقى وسينما، ناهيك عن تقديمه تقريراً مفصلاً ومستفيضاً للجهات المعنية حول واقع الحركة المسرحية والخطوات التي يتعين القيام بها لإحداث نقلة نوعية في هذا المجال، وصولاً إلى قيادته عملية تأسيس أول معهد متخصص للدراسات المسرحية في الكويت وعموم الخليج. وهو المعهد الذي يعزى إليه بروز الكويت مسرحياً، ولاسيما في عقدي السبعينات والثمانينات اللذين وُصفا بـ«العصر الذهبي للمسرح والدراما الكويتية، والمرحلة الأنشط في الحركة الفنية الكويتية».
والحقيقة أن من ضمن مهام طليمات كان التركيز على إنشاء فرقة للتمثيل العربي، لذا قام في أكتوبر 1961 بتكوين فرقة المسرح العربي كنواة للمسرح الكويتي الحديث والمتطور، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ المسرح في الكويت. وقد تكونت فرقة المسرح العربي نتيجة لاختبارات عملية وليست كيفما شاء. إذ أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية بياناً من الإذاعة وبواسطة الصحافة تطلب مشاركة من يرى في نفسه القدرة والرغبة، فتقدم 250 رجلاً تم اختيار 40 منهم، شكلوا نواة المسرح، وانضمت لأول مرة فتاتان كويتيتان (مريم الغضبان ومريم الصالح اللتان اعتاد طليمات على تسميتهما بمريم B ومريم A على التوالي من باب المزاح)، وقد ضمت الفرقة إلى جانب الكويتيين والكويتيات 15 عضواً من أبناء الأقطار العربية وممثلتين مصريتين (زوزو حمدي الحكيم وجيهان رمزي)، وتم الاختيار بمعرفة زكي طليمات ومحمد النشمي.
وُلد زكي طليمات في 29 أبريل 1894 بحي عابدين القاهري لأب من أصول عربية سورية وأم مصرية من أصول شركسية. أما جدّه فقد كان من أسرة من مدينة حمص معروفة بالوجاهة، وكان قد جاء إلى مصر بقصد التجارة لكنه قرر الاستقرار فيها. حصل طليمات على شهادة البكالوريا من الخديوية الثانوية بتفوق، ثم التحق بمعهد التربية كي يغدو معلماً، لكن الأقدار والصدف ساقته إلى العمل المسرحي. وملخص القصة كما رواها بنفسه في مقابلات إعلامية، أن والدته مرضت فقررت معلمته ألا يتردد عليها خشية من نقل عدوى المرض للطلبة، وأثناء فترة انقطاعه عن الدراسة تعرف على مجموعة من الممثلين المسرحيين، وصار يقضي أوقاته بينهم إلى درجة أنه ترك الدراسة في معهد التربية وانضم إلى فرقة جورج أبيض المسرحية، مما تسبب في غضب أسرته عليه وطرده من المنزل.
وأضاف طليمات، راوياً ما حدث بعد ذلك، فقال إنه بسبب انقطاع العمل بالمسرح من وقت إلى آخر رأى أن يجد وظيفة تحقق له دخلاً ثابتاً فلم يجد وقتها عملاً سوى وظيفة في حديقة الحيوانات بالجيزة. وهناك تدخل القدر مرة أخرى في تحديد مساره، إذ تنبه أحد المسؤولين لموهبته وذكائه فابتعثه إلى باريس للدراسة هناك في معهد التمثيل، ومسرح الكوميدى فرانسيز، ومسرح الأوديون، ومعهد حرفية المسرح. حيث درس الإلقاء والإخراج وفنون تصميم المناظر المسرحية ونال شهاداتها الأكاديمية ليعود إلى مصر مكللاً بالنجاح سنة 1929 وليبدأ بعدها سلسلة من المشاريع الفنية لخدمة أبناء وطنه.
ففي عام 1930، مثلاً، أسس أول معهد للتمثيل في مصر تحت اسم «معهد فن التمثيل العربي»، لكن المعهد أُغلق بعد مدة بسبب هجوم قادته الفرق المسرحية التي رأت فيه تخريباً للمهنة، بمشاركة قوى المجتمع المحافظة التي زعمت أن في عمل المعهد خرقاً للتقاليد. وفي عام 1935 أقدم على تأسيس «الفرقة القومية للمسرح» التي كانت أول فرقة تخرج أوبريتاً للفنون الشعبية. وفي 1937 بادر إلى تأسيس المسرح المدرسي مستهدفاً بذلك طلبة مصر أينما كانوا. والجدير بالذكر هنا، أن الرجل قال في حلقة من برنامج «لقاء مع فنان» التلفزيوني عام 1974، إن فكرته تلك كانت «بمثابة إعداد جمهور المسرح أكثر منها للبحث عن مواهب»، مضيفاً أن الممثل «يولد والموهبة بداخله، لا يكتسبها بالضرورة، لكن الطالب الذي اعتاد على المسرح في صغره سيبحث عنه عندما يكبر». بعد ذلك، وتحديداً في عام 1944، عُيّن أول مدير للمعهد العالي للتمثيل، وبقي شاغلاً هذا المنصب حتى سنة 1952، فتخرجت على يديه أجيال من أهم ممثلي السينما والمسرح في مصر. وما بين هذا وذاك أخرج طليمات حوالى 12 عملاً مسرحياً، وترجم العديد من الروايات المسرحية العالمية، وكتب في جرائد ومجلات عديدة.
كما أنه لم يجد غضاضة، وهو المسرحي والكاتب الكبير، في القيام بأدوار مساعدة في عدد من الأفلام السينمائية، حيث أدى دور المليونير أبوعجيلة في فيلم يوم من عمري سنة 1961، ودور مسيلمة الكذاب في فيلم خالد بن الوليد سنة 1958، ودور الساحر اليهودي قارون في فيلم مغامرات عنتر وعبلة سنة 1948، ودور الطبيب في فيلم نشيد الأمل سنة 1937 أمام أم كلثوم. لكن يبقى أشهر أدواره هو دور الدوق آرثر الإنجليزي الذي يتآمر على الملك ريتشارد قلب الأسد في فيلم الناصر صلاح الدين سنة 1963.
وفي الفترة من 1954 إلى 1957 عاش في تونس مكلفاً بالإشراف الفني على فرقة المسرح البلدي. وما إنْ انتهت هذه الحقبة من حياته حتى شدّ الرحال إلى الكويت ليبدأ منها عملاً مبهراً بأسلوب علمي من بعد سنوات طويلة من العروض المسرحية المرتجلة على أيدي جيل الرواد من المسرحيين الكويتيين من أمثال محمد النشمي وعقاب الخطيب وصالح العجيري.
لقد كان حلوله في الكويت بمثابة الخطوة الأولى نحو تحقيق حلم راود الكثيرين، وبداية لتحليق الكويت عالياً في سماوات المسرح، خصوصاً مع حماسة الراحل حمد الرجيب (وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية آنذاك)، وجدية الدعم والتوجيه من قبل القيادة السياسية، والطموح المتوثب لدى عدد غير قليل من أبناء الكويت، الذين جاؤوا من كل مكان، مثل عبدالحسين عبدالرضا من منطقة الشرق وسعد الفرج من الفنطاس وخالد النفيسي من القبلة، وهكذا الأمر مع أسماء أخرى مثل عبدالرحمن الضويحي وغانم الصالح وغيرهم.
واصل طليمات عملية استقطاب الشباب الموهوب وراح يخضعهم لتمرينات الصوت والأداء والحركة بهدف التعرف على أكبر قدر من المعلومات عن الطاقات الكامنة والعزائم الراغبة لتكملة المشوار. وبعد تأسيس النواة المسرحية المتطورة التي زرعها طليمات ممثلة في المسرح العربي ظهرت المبادرات بتأسيس فرق مسرحية أخرى ظلت جميعها تحت رعاية وزارة الشؤون الاجتماعية حتى 1964، وهي السنة التي تحولت فيها كل الفرق المسرحية إلى أهلية. فإضافة إلى فرقة المسرح الشعبي التي كانت قد تأسست سنة 1957 بمجهود شخصي من محمد النشمي وعبدالله خريبط وعبدالله حسين وغيرهم، وبدعم من حمد الرجيب، تأسست فرقة المسرح الوطني على يد المسرحي الكويتي المبدع صقر الرشود وبعض زملائه، إلا أن شمل الجمع تشتت قبل أن تنجز لائحة للفرقة، كما تأسست فرقة مسرح الخليج العربي في عام 1963 التي عُرفت بنشاطها الثقافي من لجان وإصدارات ومحاضرات وذلك من منطلق إيمانها بدور الثقافة في خلق شخصية الفنان المسرحي، وفي عام 1964 ظهرت فرقة المسرح الكويتي بقيادة محمد النشمي وعضوية رفاقه السابقين في فرقة المسرح الشعبي قبل أن يتولى قيادتها الفنان حسين الصالح.
عبدالحسين عبدالرضا وسعد الفرج
وهكذا، فمن بعد بعض المسرحيات التي تمّ عرضها في الستينات ولقيت تجاوباً كبيراً من قبل الجمهور، وتحديداً مسرحية «صقر قريش» التي عُرضت سنة 1962 على مسرح ثانوية الشويخ واستمر عرضها مدة قياسية بلغت 24 يوماً، ثم مسرحية «الكويت سنة 2000» التي عُرضت سنة 1966 واستحسنها الجمهور لأنها عبّرت عن القلق إزاء ما سيحدث للبلاد بعد نضوب النفط، راح المسرح الكويتي في عقد السبعينات يأخذ مساراً جديداً نحو استكمال نهضته وتألقه. ولم يكن السبب عائداً إلى ارتفاع سقف الحريات والنقد في هذه الفترة فحسب وإنما أيضاً بسبب جهود طليمات الذي درّس ودرّب وخرّج نوابغ المسرحيين الكويتيين.
وتكفينا هنا الإشارة إلى أن السبعينات شهدت بزوغ نجم اثنين من أبرز تلامذة طليمات الكويتيين وهما الثنائي عبدالحسين عبدالرضا وسعد الفرج اللذان أمتعا الكويت والخليج كله بمجموعة من المسرحيات التي طرحت قضايا اجتماعية هادفة في قالب فكاهي مع إسقاطات سياسية مثل مسرحيات «مطلوب زوج حالاً» عام 1971، «بني صامت» عام 1975، «ضحية بيت العز» عام 1976، «على هامان يا فرعون» عام 1978، وغيرها.
مسرح الطفل
وعلى هامش هذه التطورات ظهر وانتعش أيضاً مسرح الطفل، وصارت الكويت رائدة فيه على المستوى الخليجي. فمثلاً تمّ عرض أول مسرحية للأطفال سنة 1974 تحت عنوان «أبو زيد بطل الرويد» من تأليف الشاعر فائق عبدالجليل.
روى عبدالحسين عبدالرضا، في حوار أجرته معه صحيفة الجريدة الكويتية (19/6/2015)، بعضاً من ذكرياته مع طليمات، فأخبرنا أن الأخير اختاره للمشاركة في مسرحية «صقر قريش» قائلاً «الواد ده كويس. حنفتتح المسرحية بيه». ليضعه فيما بعد ضمن الممثلين الأساسيين في مسرحياته كونه كان دائم الالتزام بالتوجيهات أثناء التدريب، إضافة إلى صوته الجهوري وسلامة مخارج ألفاظه. وأضاف «ورغم ذلك فإني لا أذكر أنه مدح أدائي، يوماً، أو هنأني، لكننا كفريق عمل كنا نعلم أنه راضٍ عن الأداء طالما ظل ساكتاً ولم يبدِ أي ملاحظة».
وأخيراً، فإن زكي طليمات، الذي وصفه تلميذه عبدالحسين عبدالرضا بالأستاذ والمعلم والمربي والقائد ومؤسس الحركة المسرحية في الكويت، الذي يدين له بالفضل في تعليمه كيفية الأداء السليم، والتنفس، ونطق الحروف باللغة العربية الفصحى، والتشكيل المضبوط، والتعبير بإحساس فني، وكيفية التعامل مع النص المسرحي، رحل عن دنيانا في 22 ديسمبر عام 1982، بعد أن نال العديد من الجوائز والأوسمة التي تدل على علوّ مقامه في دنيا العمل المسرحي والإبداعي، ومنها: نيشان الافتخار من درجة كوماندور من الحكومة التونسية عام 1950، جائزة الدولة التشجيعية في الفنون من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في مصر عام 1961، جائزة الدولة التقديرية من نفس المجلس عام 1975، جائزة التفوق في الإخراج المسرحي.
في السنوات التالية انشغلت الكويت عن المسرح ليعود اهتمامها به مجدداً عام 1938، من خلال المسرح المدرسي أيضاً وعلى أيدي المعلمين العرب الذين وفدوا إلى البلاد ابتداءً من أواخر 1936، حيث عُرضت مسرحية «إسلام عمر» من تقديم طلبة مدرسة المباركية وبحضور الحاكم الشيخ أحمد الجابر الصباح والمعتمد البريطاني السيد دكوري، بل إن واحداً ممن شاركوا فيها كان الطالب الشيخ جابر الأحمد الجابر (أمير الكويت الأسبق). وفي هذا السياق، علقت الكاتبة الكويتية شيخة البهاويد في مقال لها سنة 2017 بعنوان «بداية عظيمة ونتائج مؤسفة: التدهور التراجيدي للمسرح الكويتي»، قائلة ما مفاده إن سماح الحاكم لابنه بالمشاركة في المسرحية سببه ما كان للمسرح وقتذاك من احترام ومكانة، لتصل إلى القول إنه «بعد ثمانين عاماً من ذلك التاريخ نرى اليوم مسرحيات تافهة ومخدشة للحياء بنصوصها ومضامينها إلى درجة أن الجمهور صار يتردد في أخذ عائلته إليها». أما الملفت للنظر حقاً في ما خص مسرحية «إسلام عمر»، هو أن نساء الكويت حضرنها أيضاً في ذلك الوقت المبكر من تاريخ البلاد، وتمّ إعداد مكان خاص لهن على سطح المدرسة.
توسعت الحركة المسرحية في الكويت بعد ذهاب الطلبة الكويتيين إلى مصر في بعثات دراسية، وهو ما أثر إيجاباً على عشقهم للمسرح ومحاولتهم خلق بصمة خاصة بهم على غرار ما شاهدوه هناك. وهكذا ظهرت مسرحية «المروءة المقنعة» سنة 1947، وبعد ذلك مثلت فرقة التمثيل رواية هزلية بعنوان «مهزلة في مهزلة»، التي تعتبر أول نص مسرحي كتب في الكويت من تأليف الشاعر أحمد مشاري العدواني، مع ملاحظة أن الفترة ما بين عامي 1943 و1955 شهدت اتساع انتقال العروض المسرحية من النصوص الدينية بالفصحى إلى عروض مسرحية اجتماعية مكتوبة باللهجة المحلية، ومثالها مسرحيتا «مدير فاشل» و«أم عنبر»، اللتان يعود الفضل فيهما للفنانين حمد الرجيب ومحمد النشمي.
أخذت الحركة المسرحية الطابع الرسمي منذ أواخر الخمسينات، وذلك بعد استدعاء دائرة الشؤون الاجتماعية (كانت وقتذاك تحت قيادة الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير الكويت الراحل) الأستاذ زكي طليمات للتباحث معه في شؤون المسرح بهدف الارتقاء بالحركة المسرحية في الكويت وفق خطط علمية مدروسة.
وزكي طليمات ليس في عداد النخب الخليجية التي اعتدنا تسليط الأضواء على مسيرتها وإسهاماتها في نهضة المنطقة، لكنه حتماً من النخب العربية التي خدمت الخليج بإخلاص وتفانٍ في مجال تخصصها. تشهد على ذلك جهوده في ترسيخ مفاهيم جديدة في البيئة الكويتية لتقبل العمل المسرحي كفن وليس كنشاط مضاد للعادات والتقاليد، وقيامه بالربط ما بين ألوان النشاط الفني من مسرح وموسيقى وسينما، ناهيك عن تقديمه تقريراً مفصلاً ومستفيضاً للجهات المعنية حول واقع الحركة المسرحية والخطوات التي يتعين القيام بها لإحداث نقلة نوعية في هذا المجال، وصولاً إلى قيادته عملية تأسيس أول معهد متخصص للدراسات المسرحية في الكويت وعموم الخليج. وهو المعهد الذي يعزى إليه بروز الكويت مسرحياً، ولاسيما في عقدي السبعينات والثمانينات اللذين وُصفا بـ«العصر الذهبي للمسرح والدراما الكويتية، والمرحلة الأنشط في الحركة الفنية الكويتية».
والحقيقة أن من ضمن مهام طليمات كان التركيز على إنشاء فرقة للتمثيل العربي، لذا قام في أكتوبر 1961 بتكوين فرقة المسرح العربي كنواة للمسرح الكويتي الحديث والمتطور، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ المسرح في الكويت. وقد تكونت فرقة المسرح العربي نتيجة لاختبارات عملية وليست كيفما شاء. إذ أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية بياناً من الإذاعة وبواسطة الصحافة تطلب مشاركة من يرى في نفسه القدرة والرغبة، فتقدم 250 رجلاً تم اختيار 40 منهم، شكلوا نواة المسرح، وانضمت لأول مرة فتاتان كويتيتان (مريم الغضبان ومريم الصالح اللتان اعتاد طليمات على تسميتهما بمريم B ومريم A على التوالي من باب المزاح)، وقد ضمت الفرقة إلى جانب الكويتيين والكويتيات 15 عضواً من أبناء الأقطار العربية وممثلتين مصريتين (زوزو حمدي الحكيم وجيهان رمزي)، وتم الاختيار بمعرفة زكي طليمات ومحمد النشمي.
وُلد زكي طليمات في 29 أبريل 1894 بحي عابدين القاهري لأب من أصول عربية سورية وأم مصرية من أصول شركسية. أما جدّه فقد كان من أسرة من مدينة حمص معروفة بالوجاهة، وكان قد جاء إلى مصر بقصد التجارة لكنه قرر الاستقرار فيها. حصل طليمات على شهادة البكالوريا من الخديوية الثانوية بتفوق، ثم التحق بمعهد التربية كي يغدو معلماً، لكن الأقدار والصدف ساقته إلى العمل المسرحي. وملخص القصة كما رواها بنفسه في مقابلات إعلامية، أن والدته مرضت فقررت معلمته ألا يتردد عليها خشية من نقل عدوى المرض للطلبة، وأثناء فترة انقطاعه عن الدراسة تعرف على مجموعة من الممثلين المسرحيين، وصار يقضي أوقاته بينهم إلى درجة أنه ترك الدراسة في معهد التربية وانضم إلى فرقة جورج أبيض المسرحية، مما تسبب في غضب أسرته عليه وطرده من المنزل.
وأضاف طليمات، راوياً ما حدث بعد ذلك، فقال إنه بسبب انقطاع العمل بالمسرح من وقت إلى آخر رأى أن يجد وظيفة تحقق له دخلاً ثابتاً فلم يجد وقتها عملاً سوى وظيفة في حديقة الحيوانات بالجيزة. وهناك تدخل القدر مرة أخرى في تحديد مساره، إذ تنبه أحد المسؤولين لموهبته وذكائه فابتعثه إلى باريس للدراسة هناك في معهد التمثيل، ومسرح الكوميدى فرانسيز، ومسرح الأوديون، ومعهد حرفية المسرح. حيث درس الإلقاء والإخراج وفنون تصميم المناظر المسرحية ونال شهاداتها الأكاديمية ليعود إلى مصر مكللاً بالنجاح سنة 1929 وليبدأ بعدها سلسلة من المشاريع الفنية لخدمة أبناء وطنه.
ففي عام 1930، مثلاً، أسس أول معهد للتمثيل في مصر تحت اسم «معهد فن التمثيل العربي»، لكن المعهد أُغلق بعد مدة بسبب هجوم قادته الفرق المسرحية التي رأت فيه تخريباً للمهنة، بمشاركة قوى المجتمع المحافظة التي زعمت أن في عمل المعهد خرقاً للتقاليد. وفي عام 1935 أقدم على تأسيس «الفرقة القومية للمسرح» التي كانت أول فرقة تخرج أوبريتاً للفنون الشعبية. وفي 1937 بادر إلى تأسيس المسرح المدرسي مستهدفاً بذلك طلبة مصر أينما كانوا. والجدير بالذكر هنا، أن الرجل قال في حلقة من برنامج «لقاء مع فنان» التلفزيوني عام 1974، إن فكرته تلك كانت «بمثابة إعداد جمهور المسرح أكثر منها للبحث عن مواهب»، مضيفاً أن الممثل «يولد والموهبة بداخله، لا يكتسبها بالضرورة، لكن الطالب الذي اعتاد على المسرح في صغره سيبحث عنه عندما يكبر». بعد ذلك، وتحديداً في عام 1944، عُيّن أول مدير للمعهد العالي للتمثيل، وبقي شاغلاً هذا المنصب حتى سنة 1952، فتخرجت على يديه أجيال من أهم ممثلي السينما والمسرح في مصر. وما بين هذا وذاك أخرج طليمات حوالى 12 عملاً مسرحياً، وترجم العديد من الروايات المسرحية العالمية، وكتب في جرائد ومجلات عديدة.
كما أنه لم يجد غضاضة، وهو المسرحي والكاتب الكبير، في القيام بأدوار مساعدة في عدد من الأفلام السينمائية، حيث أدى دور المليونير أبوعجيلة في فيلم يوم من عمري سنة 1961، ودور مسيلمة الكذاب في فيلم خالد بن الوليد سنة 1958، ودور الساحر اليهودي قارون في فيلم مغامرات عنتر وعبلة سنة 1948، ودور الطبيب في فيلم نشيد الأمل سنة 1937 أمام أم كلثوم. لكن يبقى أشهر أدواره هو دور الدوق آرثر الإنجليزي الذي يتآمر على الملك ريتشارد قلب الأسد في فيلم الناصر صلاح الدين سنة 1963.
وفي الفترة من 1954 إلى 1957 عاش في تونس مكلفاً بالإشراف الفني على فرقة المسرح البلدي. وما إنْ انتهت هذه الحقبة من حياته حتى شدّ الرحال إلى الكويت ليبدأ منها عملاً مبهراً بأسلوب علمي من بعد سنوات طويلة من العروض المسرحية المرتجلة على أيدي جيل الرواد من المسرحيين الكويتيين من أمثال محمد النشمي وعقاب الخطيب وصالح العجيري.
لقد كان حلوله في الكويت بمثابة الخطوة الأولى نحو تحقيق حلم راود الكثيرين، وبداية لتحليق الكويت عالياً في سماوات المسرح، خصوصاً مع حماسة الراحل حمد الرجيب (وكيل وزارة الشؤون الاجتماعية آنذاك)، وجدية الدعم والتوجيه من قبل القيادة السياسية، والطموح المتوثب لدى عدد غير قليل من أبناء الكويت، الذين جاؤوا من كل مكان، مثل عبدالحسين عبدالرضا من منطقة الشرق وسعد الفرج من الفنطاس وخالد النفيسي من القبلة، وهكذا الأمر مع أسماء أخرى مثل عبدالرحمن الضويحي وغانم الصالح وغيرهم.
واصل طليمات عملية استقطاب الشباب الموهوب وراح يخضعهم لتمرينات الصوت والأداء والحركة بهدف التعرف على أكبر قدر من المعلومات عن الطاقات الكامنة والعزائم الراغبة لتكملة المشوار. وبعد تأسيس النواة المسرحية المتطورة التي زرعها طليمات ممثلة في المسرح العربي ظهرت المبادرات بتأسيس فرق مسرحية أخرى ظلت جميعها تحت رعاية وزارة الشؤون الاجتماعية حتى 1964، وهي السنة التي تحولت فيها كل الفرق المسرحية إلى أهلية. فإضافة إلى فرقة المسرح الشعبي التي كانت قد تأسست سنة 1957 بمجهود شخصي من محمد النشمي وعبدالله خريبط وعبدالله حسين وغيرهم، وبدعم من حمد الرجيب، تأسست فرقة المسرح الوطني على يد المسرحي الكويتي المبدع صقر الرشود وبعض زملائه، إلا أن شمل الجمع تشتت قبل أن تنجز لائحة للفرقة، كما تأسست فرقة مسرح الخليج العربي في عام 1963 التي عُرفت بنشاطها الثقافي من لجان وإصدارات ومحاضرات وذلك من منطلق إيمانها بدور الثقافة في خلق شخصية الفنان المسرحي، وفي عام 1964 ظهرت فرقة المسرح الكويتي بقيادة محمد النشمي وعضوية رفاقه السابقين في فرقة المسرح الشعبي قبل أن يتولى قيادتها الفنان حسين الصالح.
عبدالحسين عبدالرضا وسعد الفرج
وهكذا، فمن بعد بعض المسرحيات التي تمّ عرضها في الستينات ولقيت تجاوباً كبيراً من قبل الجمهور، وتحديداً مسرحية «صقر قريش» التي عُرضت سنة 1962 على مسرح ثانوية الشويخ واستمر عرضها مدة قياسية بلغت 24 يوماً، ثم مسرحية «الكويت سنة 2000» التي عُرضت سنة 1966 واستحسنها الجمهور لأنها عبّرت عن القلق إزاء ما سيحدث للبلاد بعد نضوب النفط، راح المسرح الكويتي في عقد السبعينات يأخذ مساراً جديداً نحو استكمال نهضته وتألقه. ولم يكن السبب عائداً إلى ارتفاع سقف الحريات والنقد في هذه الفترة فحسب وإنما أيضاً بسبب جهود طليمات الذي درّس ودرّب وخرّج نوابغ المسرحيين الكويتيين.
وتكفينا هنا الإشارة إلى أن السبعينات شهدت بزوغ نجم اثنين من أبرز تلامذة طليمات الكويتيين وهما الثنائي عبدالحسين عبدالرضا وسعد الفرج اللذان أمتعا الكويت والخليج كله بمجموعة من المسرحيات التي طرحت قضايا اجتماعية هادفة في قالب فكاهي مع إسقاطات سياسية مثل مسرحيات «مطلوب زوج حالاً» عام 1971، «بني صامت» عام 1975، «ضحية بيت العز» عام 1976، «على هامان يا فرعون» عام 1978، وغيرها.
مسرح الطفل
وعلى هامش هذه التطورات ظهر وانتعش أيضاً مسرح الطفل، وصارت الكويت رائدة فيه على المستوى الخليجي. فمثلاً تمّ عرض أول مسرحية للأطفال سنة 1974 تحت عنوان «أبو زيد بطل الرويد» من تأليف الشاعر فائق عبدالجليل.
روى عبدالحسين عبدالرضا، في حوار أجرته معه صحيفة الجريدة الكويتية (19/6/2015)، بعضاً من ذكرياته مع طليمات، فأخبرنا أن الأخير اختاره للمشاركة في مسرحية «صقر قريش» قائلاً «الواد ده كويس. حنفتتح المسرحية بيه». ليضعه فيما بعد ضمن الممثلين الأساسيين في مسرحياته كونه كان دائم الالتزام بالتوجيهات أثناء التدريب، إضافة إلى صوته الجهوري وسلامة مخارج ألفاظه. وأضاف «ورغم ذلك فإني لا أذكر أنه مدح أدائي، يوماً، أو هنأني، لكننا كفريق عمل كنا نعلم أنه راضٍ عن الأداء طالما ظل ساكتاً ولم يبدِ أي ملاحظة».
وأخيراً، فإن زكي طليمات، الذي وصفه تلميذه عبدالحسين عبدالرضا بالأستاذ والمعلم والمربي والقائد ومؤسس الحركة المسرحية في الكويت، الذي يدين له بالفضل في تعليمه كيفية الأداء السليم، والتنفس، ونطق الحروف باللغة العربية الفصحى، والتشكيل المضبوط، والتعبير بإحساس فني، وكيفية التعامل مع النص المسرحي، رحل عن دنيانا في 22 ديسمبر عام 1982، بعد أن نال العديد من الجوائز والأوسمة التي تدل على علوّ مقامه في دنيا العمل المسرحي والإبداعي، ومنها: نيشان الافتخار من درجة كوماندور من الحكومة التونسية عام 1950، جائزة الدولة التشجيعية في الفنون من المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية في مصر عام 1961، جائزة الدولة التقديرية من نفس المجلس عام 1975، جائزة التفوق في الإخراج المسرحي.