بكاء محمد زايد وخوف المجهول
الخميس / 09 / جمادى الآخرة / 1445 هـ الجمعة 22 ديسمبر 2023 00:11
علي بن محمد الرباعي
لطالما ضبب الخوفُ على الرؤية الصافية لجمال الحياة، والخوف نسبي؛ يتفاوت بحسب زمان ومكان وشخصية الإنسان؛ وكلما خمّن؛ حدس أنه تخطاه؛ سرعان ما تتجدد لقياه؛ فندرك لاحقاً، أنه وإن لم نسكنه فإنه يسكننا ليل نهار، منذ أُخرج أبونا آدم من جنةِ تجري من تحتها الأنهار، إلى يوم تشخصُ فيه الأبصار، ولعل بعضنا يتوهم أنه بالقراءة والتفكير يجابه أسباب الخوف؛ ويزيل مبرراته، ويتجاوزها مخلفها وراء ظهره، ولكن هيهات.
يُمكننا التحرر من جُلّ القيود المحسوسة ظاهراً؛ أو على الأقل نشعر بعض الأحايين بأننا أحرار، إلا أنه لا حرية مطلقة لا في الأديان ولا الدول؛ ولا القبائل؛ ولا العائلات؛ و لو تمثلنا الحريّة المطلقة في ممارساتنا؛ سيظل هناك شبح مخاوف، يلوح بيننا وتوجّس ينبعث من ملامحنا، وقلق لا تطمئن معه ذواتنا؛ وربما تكون تخيلات لا حقيقةَ لها، إلا أنها أخطر وأشرس من الخوف ذاته، كما قال شاعر العرب (الجواهري) «شرٌّ من الشرّ خوفٌ منه أن يقعا».
الإنسان ؛ كائنٌ خوّاف، هذه حقيقة، لأنّ له قلباً، ومشاعر، وما يحيطه من المجهول أوسع مما يُدرك من المعلوم، ما يدفعه للتعلّق بما، ومن يخفف عنه حِدة ما يعانيه من استرابة؛ لها حيثياتها؛ ولا تستعصي على التفسير.
وربما ترفع الثقافة أحياناً نسبة ثقة المثقف بنفسه، ويشعر بأنه قادر على إنقاذ العالم من مخاوفه؛ إلا أنه سرعان ما يخفت وهج القدرات، بمرور السنوات؛ وتتراجع الطموحات بقدر اكتساب الخبرات؛ وتنحصر المجهودات؛ في محاولته تخليص وإنقاذ الذات.
ولعلّ أسوأ الخوفِ؛ خوفك أو تخوّفك ممن تحب، أو ممن تثقُ به، أو من هو عدوٌّ في ثياب صديق، وكم دفع الخوفُ صاحبه لارتكاب حماقات؛ ظناً أنه يحتمي بها، فتتفاقم المخاوف بتفاقم الحماقات، والعكس.
بالطبع؛ رأس الحكمة (مخافة الله)؛ إلا أن الله خفف علينا خوفنا منه؛ بالرجاء والطمع في رحمته، والتفاؤل؛ وحُسن الظن، فتتوازن النسب، ويسهل التعايش، مهما ساءت الأحوال؛ أو تغوّلت الظروف.
شاركتُ في ملتقى شباب العالم؛ قبل عامين تقريباً؛ وعَلِم الصديق محمد زايد الألمعي، رحمه الله، أني مررتُ بالقاهرة ولم أطلّ عليه كالعادة، فبعث برسالة عتب محب؛ على بريد الفيس بوك، قال فيها (كان بودي لو التقينا؛ تقلقني برودة تواصلنا)، ولم أردّ عليه؛ لأنه ليس لديّ ردّ.
وفي لحظة صفاء؛ دوّنت منشوراً على تويتر؛ أقول فيه (صاحبي هل تجيد البكاء)، علّق على المنشور، بحرف (لا)، ومضت أيام وهو في مغتربه بين باريس والقاهرة، وأنا منصرف بين عمل وانشغالات.
وإذا به يتصل بي من القاهرة عبر الفيس تايم؛ صوتاً وصورة؛ ولعلّ آخر ما توقعته أن يفتتح (الجبلي المهاب) مكالمته بالبكاء -ربما لو بكيت أمامه لما شعرت بحرج- إلا أن صاحب (مرثية الخونة) استرسل في الانتحاب في وقت لم أكن مهيأً فيه لذرف دمعة؛ فاستحيت من بكاء أستاذ أمام تلميذ، ومن الطبيعي أن أُلطّف الموقف؛ قدر استطاعتي؛ إلا أن صديقي كان محتشداً بمشاعر نفّس عنها بما جادت به عيناه، ناح واستعبر ونشج كما الطفل؛ وأنا أحاول الخروج به من حالته لمشهد آخر، فقال: تحمّلني يا صديقي إلى أن أُفرغ هذه الشحنة. وتوقف وقال: سامحني يا علي؛ ثقّلت عليك، فقلت: يا بو عبدالخالق إذا كان تبسمك في وجه أخيك صدقة، فبكاؤك في وجهي كفارة، فانفرط ضاحكاً.
انتهت المكالمة، واغرورقت عيناي بالدموع؛ وتملكتني رهبة موقف، ومرّت دقائق أو أكثر لم أستوعب ما حدث؛ وعاتبتُ نفساً تضاءلت أمام حزن شفيف؛ لم تنجح في مجاراة صاحبه، وانتابتني دوامة أسئلة: لماذا بكى صاحبي؟ ولماذا بكى عندي؟ وخشيتُ أن أبوحَ لأي صديق بهذا الاصطفاء.
بصدق استشعرتُ مكانةً في نفس (قامة ألمعية) وقلتُ: عساي أكون جديراً بهذه الثقة؛ فكل إنسان يمكن أن يضحك معك؛ لكنه لا يبكي أمامك وفي أحضانك إلا الخُلّص من الناس.
وعكس كل ما يخمّن البعض؛ كان محمد زايد الألمعي محل تقدير واحترام الجميع، بل وفي دائرة الاهتمام والسؤال، وهو اليوم في مقام الحق، ولذكراه؛ علينا ولأسرته؛ حق الاعتراف بأفضاله التي من الصعب إنكارها أو جحدانها؛ فكم طرح من أفكار، وكم قدّم من أصوات، وكم صحح وراجع وقوّم من كتابات.
ولعله؛ رفع يوماً سقف التوقعات والطموحات؛ من منظور إنساني؛ ومنطلقات مثالية ثقافية، إلا أن الحياة ليست كما نقرأها في الكتب، ولا كما نسمعها في المحاضرات؛ ولا كما نشاهدها في الأفلام والمسلسلات؛ بل ممارسة يومية تفرحك وتحزنك؛ وتسعدك وتشقيك، والتصالح مع المتغيرات والتحولات يحل الكثير من الإشكالات.
لن أزعم أن الجميع أحبّ محمد زايد؛ إلا أني متيّقن أنه لم يكرهه أحد؛ وإن غبطه أو حسده قلة، لأنه كان يسبق مجايليه في المعرفة والفنّ والإبداع، واكتسب السبق صفةً حتى في الرحيل، وربما أَلِفَ الهروب من أي أزمات أو منغصات، واقعة أو متوقعة؛ تفادياً لما هو أنغص، ليكتشف لاحقاً أن خسائر المواجهة لا تُقارن بمكاسب الانسحاب؛ والبعض يجفو ويتجنب؛ ثم تنجلي الغيوم عن الحقائق، فينطبق عليه قول المتنبي:
عشيّة أحفى الناس بي من جفوته،
وأهدى الطريقين التي أتجنّبُ.
ختاماً:
أتُراني بُحتُ بسرٍّ استودعنيه صديقي الراحل؟ لستُ أدري.
يُمكننا التحرر من جُلّ القيود المحسوسة ظاهراً؛ أو على الأقل نشعر بعض الأحايين بأننا أحرار، إلا أنه لا حرية مطلقة لا في الأديان ولا الدول؛ ولا القبائل؛ ولا العائلات؛ و لو تمثلنا الحريّة المطلقة في ممارساتنا؛ سيظل هناك شبح مخاوف، يلوح بيننا وتوجّس ينبعث من ملامحنا، وقلق لا تطمئن معه ذواتنا؛ وربما تكون تخيلات لا حقيقةَ لها، إلا أنها أخطر وأشرس من الخوف ذاته، كما قال شاعر العرب (الجواهري) «شرٌّ من الشرّ خوفٌ منه أن يقعا».
الإنسان ؛ كائنٌ خوّاف، هذه حقيقة، لأنّ له قلباً، ومشاعر، وما يحيطه من المجهول أوسع مما يُدرك من المعلوم، ما يدفعه للتعلّق بما، ومن يخفف عنه حِدة ما يعانيه من استرابة؛ لها حيثياتها؛ ولا تستعصي على التفسير.
وربما ترفع الثقافة أحياناً نسبة ثقة المثقف بنفسه، ويشعر بأنه قادر على إنقاذ العالم من مخاوفه؛ إلا أنه سرعان ما يخفت وهج القدرات، بمرور السنوات؛ وتتراجع الطموحات بقدر اكتساب الخبرات؛ وتنحصر المجهودات؛ في محاولته تخليص وإنقاذ الذات.
ولعلّ أسوأ الخوفِ؛ خوفك أو تخوّفك ممن تحب، أو ممن تثقُ به، أو من هو عدوٌّ في ثياب صديق، وكم دفع الخوفُ صاحبه لارتكاب حماقات؛ ظناً أنه يحتمي بها، فتتفاقم المخاوف بتفاقم الحماقات، والعكس.
بالطبع؛ رأس الحكمة (مخافة الله)؛ إلا أن الله خفف علينا خوفنا منه؛ بالرجاء والطمع في رحمته، والتفاؤل؛ وحُسن الظن، فتتوازن النسب، ويسهل التعايش، مهما ساءت الأحوال؛ أو تغوّلت الظروف.
شاركتُ في ملتقى شباب العالم؛ قبل عامين تقريباً؛ وعَلِم الصديق محمد زايد الألمعي، رحمه الله، أني مررتُ بالقاهرة ولم أطلّ عليه كالعادة، فبعث برسالة عتب محب؛ على بريد الفيس بوك، قال فيها (كان بودي لو التقينا؛ تقلقني برودة تواصلنا)، ولم أردّ عليه؛ لأنه ليس لديّ ردّ.
وفي لحظة صفاء؛ دوّنت منشوراً على تويتر؛ أقول فيه (صاحبي هل تجيد البكاء)، علّق على المنشور، بحرف (لا)، ومضت أيام وهو في مغتربه بين باريس والقاهرة، وأنا منصرف بين عمل وانشغالات.
وإذا به يتصل بي من القاهرة عبر الفيس تايم؛ صوتاً وصورة؛ ولعلّ آخر ما توقعته أن يفتتح (الجبلي المهاب) مكالمته بالبكاء -ربما لو بكيت أمامه لما شعرت بحرج- إلا أن صاحب (مرثية الخونة) استرسل في الانتحاب في وقت لم أكن مهيأً فيه لذرف دمعة؛ فاستحيت من بكاء أستاذ أمام تلميذ، ومن الطبيعي أن أُلطّف الموقف؛ قدر استطاعتي؛ إلا أن صديقي كان محتشداً بمشاعر نفّس عنها بما جادت به عيناه، ناح واستعبر ونشج كما الطفل؛ وأنا أحاول الخروج به من حالته لمشهد آخر، فقال: تحمّلني يا صديقي إلى أن أُفرغ هذه الشحنة. وتوقف وقال: سامحني يا علي؛ ثقّلت عليك، فقلت: يا بو عبدالخالق إذا كان تبسمك في وجه أخيك صدقة، فبكاؤك في وجهي كفارة، فانفرط ضاحكاً.
انتهت المكالمة، واغرورقت عيناي بالدموع؛ وتملكتني رهبة موقف، ومرّت دقائق أو أكثر لم أستوعب ما حدث؛ وعاتبتُ نفساً تضاءلت أمام حزن شفيف؛ لم تنجح في مجاراة صاحبه، وانتابتني دوامة أسئلة: لماذا بكى صاحبي؟ ولماذا بكى عندي؟ وخشيتُ أن أبوحَ لأي صديق بهذا الاصطفاء.
بصدق استشعرتُ مكانةً في نفس (قامة ألمعية) وقلتُ: عساي أكون جديراً بهذه الثقة؛ فكل إنسان يمكن أن يضحك معك؛ لكنه لا يبكي أمامك وفي أحضانك إلا الخُلّص من الناس.
وعكس كل ما يخمّن البعض؛ كان محمد زايد الألمعي محل تقدير واحترام الجميع، بل وفي دائرة الاهتمام والسؤال، وهو اليوم في مقام الحق، ولذكراه؛ علينا ولأسرته؛ حق الاعتراف بأفضاله التي من الصعب إنكارها أو جحدانها؛ فكم طرح من أفكار، وكم قدّم من أصوات، وكم صحح وراجع وقوّم من كتابات.
ولعله؛ رفع يوماً سقف التوقعات والطموحات؛ من منظور إنساني؛ ومنطلقات مثالية ثقافية، إلا أن الحياة ليست كما نقرأها في الكتب، ولا كما نسمعها في المحاضرات؛ ولا كما نشاهدها في الأفلام والمسلسلات؛ بل ممارسة يومية تفرحك وتحزنك؛ وتسعدك وتشقيك، والتصالح مع المتغيرات والتحولات يحل الكثير من الإشكالات.
لن أزعم أن الجميع أحبّ محمد زايد؛ إلا أني متيّقن أنه لم يكرهه أحد؛ وإن غبطه أو حسده قلة، لأنه كان يسبق مجايليه في المعرفة والفنّ والإبداع، واكتسب السبق صفةً حتى في الرحيل، وربما أَلِفَ الهروب من أي أزمات أو منغصات، واقعة أو متوقعة؛ تفادياً لما هو أنغص، ليكتشف لاحقاً أن خسائر المواجهة لا تُقارن بمكاسب الانسحاب؛ والبعض يجفو ويتجنب؛ ثم تنجلي الغيوم عن الحقائق، فينطبق عليه قول المتنبي:
عشيّة أحفى الناس بي من جفوته،
وأهدى الطريقين التي أتجنّبُ.
ختاماً:
أتُراني بُحتُ بسرٍّ استودعنيه صديقي الراحل؟ لستُ أدري.