كتاب ومقالات

ميليشيا «التدمير» السريع !

صدقة يحيى فاضل

يكاد العالم أن ينسى المأساة التي نزلت مؤخراً، بالقُطر العربي الشقيق، السودان، وحُولت الحياة فيه إلى ما يشبه الجحيم؛ إذ تسببت في سفك الكثير من الدماء الذكية، ودمرت قدراً لا يستهان به، من البنية التحتية السودانية، وما زالت قائمة، وإن حجبت الأضواءَ عنها أحداثٌ إقليمية، وعالمية، أكثر هولاً، وفداحة. وتتجلى هذه المأساة في الصراع المؤسف على السلطة بالسودان، بين فئات لا هم لها سوى التسلط، وخدمة مصالحهم الخاصة، والخاصة جداً. فلولا زلزال المغرب، وطوفان ليبيا، وعملية (طوفان الأقصى)، وما نتج عنها من حرب إبادة جماعية صهيونية شاملة، ضد الفلسطينيين، لكانت أخبار، وتطورات، هذه المأساة في مقدمة الأحداث السياسية، الإقليمية والعالمية، لفداحتها وخطورتها، التي تقتضي التذكير بها، لمتابعتها، وأخذ (الحكمة) منها.

****

فما أكثر (المآسي السياسية)؛ التي تنتشر في أغلب الدول العربية، منذ استقلال معظمها، قبل حوالى نصف قرن من الآن. ومعظم هذه المآسي، والمهازل، تتركز في مسألة (من يحكم، وكيف يحكم)؛ أي في النظام السياسي للبلد المعني. وهو، كما نعرف (الإدارة العليا للبلاد)، التي تتجسد في (حكومة) البلد؛ أي في السلطة العليا للبلاد -أي بلاد- بفروعها الثلاثة: التشريع، التنفيذ، القضاء، وكل ما يتعلق بهذه السلطات الثلاث من أمور. إنها «الإدارة العليا» للبلاد -أي بلاد- التي إن صلحت، صلح كل شيء، في الحياة العامة، وإن فسدت وساءت، فسد كل شيء، تقريباً، في الشأن العام.

وقد أثبتت هذه النظرية صحتها التامة في البلاد العربية المضطربة، أو الفاشلة، سياسياً؛ فكثير من الدول العربية لم تحظَ بإدارة (نظام سياسي) جيدة، تنطلق بها نحو مستوى الدول المتقدمة، والمزدهرة، والمستقرة، بل ابتليت بأنظمة تتاجر بمصالحها الخاصة، وتضر بالمصلحة العامة لبلادها، أيما إضرار، فتزيد طين أوطانها بلة، وتشد تلك الأوطان شداً، نحو ثالوث (الفقر، الجهل، المرض) الرهيب، إضافة إلى إذلال بلادها، ورهنها للمستعمر، والطامع.

****

ولنأخذ جمهورية السودان الشقيقة، مثالاً راهناً حيّاً على ما نقول هنا. والجميع يعرف ما يعانيه شعب السودان العزيز الآن، جراء المواجهات العسكرية الدامية، بين الجيش السوداني، وما يسمى بـ(قوات التدخل السريع). وضحية هذه المواجهات الحمقاء كان -وما زال- الشعب السوداني، الذي يتكبد خسائر فادحة، تتمثل في: مئات القتلى، وآلاف الجرحى والمصابين، ودمار شامل لكثير من منشآت البنية التحتية السودانية. ويبدو أن كل همّ طرفي هذه الحرب هو: الانتصار، والاستئثار بالسلطة، ولو على أرواح الشعب، ودمائه.. إنها الديكتاتورية (العسكرية) في واحدة من أبشع صورها.

ويرد ما يحصل الآن من شر مستطير، وصراع مرير، لقرار انتهازي - أناني اتخذه، عام 2013م، الرئيس السوداني السابق، الجنرال عمر البشير، بتشكيل قوات خاصة (من ميليشيا جاهزة) سميت بـ(قوات التدخل السريع)، التي تحولت خلال عقد واحد من الزمن إلى (قوات التدمير السريع). أضفى البشير «الرسمية» على ميليشيا «الجنجويد»، وما يتبعها، بزعامة رجل الحرب محمد حمدتي، الذي أصبح قائداً لجيش موازٍ (للجيش السوداني الرسمي) في السودان.

ورغم كون حسابات الديكتاتور تتناقض غالباً مع حسابات المصلحة العامة الحقيقية للسودان، ومن كانوا في وضعه، مضى البشير في قراره، لسببين (خاصين) هما: تفاقم الصراع الذي كان يجري في منطقة (دارفور) غرب السودان؛ نتيجة تمرد بعض القبائل هناك، و«الحاجة» لقمع ذلك التمرد بميليشيا حمدتي. إضافة إلى خشية البشير من قيام انقلاب عليه من بعض زملائه العسكر، بسبب امتعاضهم من سياساته، وحكمه الذي بدأ عام 1989م، واستمر لمدة ثلاثين عاماً...! حيث أطيح به، عبر انقلاب عسكري، تم يوم 11 أبريل 2019م، قاده الفريق (أحمد عوض بن عوف)، الذي ترأس (المجلس العسكري الانتقالي) مؤقتاً، ثم أعلن تنازله عن هذه الرئاسة، وتعيين المفتش العام للجيش الفريق عبدالفتاح البرهان خلفاً له. وما زال الأخير ممسكاً بالسلطة، وفي حرب مع ميليشيا حمدتي، نشبت يوم 11 أبريل 2023م. ويؤخذ عليه تمسكه بالسلطة، ومحاولة الاستئثار بها، وإقصاء بقية المكونات السودانية.

****

ومنذ إقامة هذه القوات، وهي محل تساؤل من قبل جميع المعنيين، في السودان وخارجه. وكان الجيش السوداني أكثر الجهات امتعاضاً، وريبة من تكوينها. كان البشير بمثابة (الوسيط) بين الجيشين. وبعد الإطاحة به، زاد التوتر بين الجانبين (برئاسة البرهان وحمدتي) اللذين تحالفا، في البدء، ضد معارضيهما من الأحزاب الأخرى، وما يسمى بـ(المكون المدني). ولكن العلاقة بين قائدي الجيشين أخذت تزداد توتراً، نتيجة الاختلاف الحاد بين الجانبين حول قضية «دمج الجيشين». فتحت ضغوط محلية ودولية، اضطر الطرفان لتوقيع ما عرف بـ(الاتفاق الإطاري)، في ديسمبر 2022م، الذي نصَّ على دمج (القوات) في الجيش السوداني، بموجب جدول زمني، أراده الجيش ألا يتجاوز أشهراً معدودة.

ولكن حمدتي، وخوفاً من القضاء عليه سياسياً، أخذ يماطل.. رافضاً عملية الدمج (السريع)، ومطالباً بتمديد فترة الدمج لعشرات السنين (عشرين عاماً، كما قيل) واستمرار التجنيد في صفوف (القوات). وهذا ما رفضه الجيش؛ الذي رأى في موقف حمدتي تمويهاً، ورفضاً لفكرة الاندماج، وإصراراً على بقاء (القوات)، كجيش موازٍ، ليمثل خطورة فادحة على الأمن القومي السوداني، وذراعاً مدمراً للقوى الدولية والاستعمارية، الطامعة في مقدرات السودان، وثرواته. وهكذا، انفجر الصراع بين الجانبين (يوم 15/‏4/‏2023م)، وما زال مستعراً. ولا يبدو أن أحد الطرفين سيخرج «منتصراً»، في المدى القريب.

****

وكل ذلك، يذكر بما مر به هذا القطر العربي الشقيق من اضطرابات، وعدم استقرار، منذ استقلاله، كما يذكر بقادته ورجاله الوطنيين المخلصين، وهم كثر، وفي مقدمتهم الراحل الفريق عبدالرحمن سوار الذهب، يرحمه الله. نسأل الله أن يخرج هذا البلد العزيز من محنته الراهنة، وأن يقيّض له، من أبنائه، من يسارع لإخراجه من هذا النفق الذي قدر له أن يحشر فيه. وفي ليلة السودان الظلماء، كم يفتقد «الذهب»...