زوايا متخصصة

نزار محمد عبده غانم.. جعل مبضع الجراحة يعانق وتر العود

نزار غانم خلال إحدى محاضراته في الشارقة.

بقلم: د. عبدالله المدني abu_taymour@

إذا ما تفحصنا سير الأعلام والمبدعين في التاريخ القديم، ومنه التاريخ الإسلامي، لوجدنا أن الكثير من الفلاسفة والأطباء والحكماء عشقوا الموسيقى والفنون، بل وألفوا فيها وعالجوا مواطنيهم بها. وفي عصرنا الحاضر، يعد الطبيب اليمني «الدكتور نزار محمد عبده غانم»، نموذجاً للطبيب الجراح الذي جعل مبضع الجراحة يعانق وتر العود، من خلال عمله طبيباً مؤهلاً واهتمامه في الوقت نفسه بالشعر والأدب والموسيقى والتلحين الذي وصل إلى درجة العشق والهيام.

وهو من ناحية أخرى، يشكل نموذجاً للمثقف العضوي المرتبط بقضايا وطنه اليمني والعربي المختلفة بوعي، ونموذجاً للإنسان اليمني الذي تغرب وتشتت جغرافياً وشرب من أكثر من نبع، فصار كالجسر الرابط بين وطنه الأم وأوطان أخرى. والسؤال الذي يطرح نفسه، بعد هذه المقدمة هو: من أين للدكتور غانم كل هذا؟ هذا ما سنتعرف عليه من خلال هذه المادة عن سيرته الحافلة بالدأب والاجتهاد والتنقلات والومضات الإنسانية الجميلة والأعمال التطوعية.

يقال، إن «ابن الوز عوام»، وهذا ينطبق على صاحبنا لأنه نتاج والدين عرفا بسيرتهما الوطنية الحميدة وانشغالاتهما المعرفية العديدة. فمن جهة الأب هو النجل الأصغر للأديب والفنان والأكاديمي والإداري المعروف «محمد عبده غانم»، الذي ولد في عدن سنة 1912 وتوفي ودفن في صنعاء سنة 1994، وصنف كأول مواطن من شبه الجزيرة العربية يتخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت في عام 1936، وأول بروفيسور في تاريخ اليمن، وشغل مناصب: وكيل ومدير معارف عدن في الفترة من 1957 إلى 1963، ورئيس مجلس إدارة ميناء عدن من 1967 إلى 1969، ورئيس قسم اللغة العربية في جامعة الخرطوم من 1974 إلى 1977، وعميد كلية التربية بجامعة صنعاء من 1977 إلى 1980، والمستشار الثقافي بسفارة اليمن في دولة الإمارات من 1980 إلى 1984، وعميد كلية الدراسات العليا بجامعة صنعاء من 1984 إلى 1993. إلى ما سبق، تولى محمد عبده غانم رئاسة نادي صيرة للتنس بعدن منذ تأسيسه في الخمسينات إلى 1972، وترأس نادي الإصلاح بالتواهي في عدن، وشارك في تأسيس «ندوة الموسيقى العدنية» عام 1949 و«رابطة الموسيقى العدنية» عام 1951، وكتب كلمات أول أربع أغنيات عدنية من بين 50 أغنية ألفها وغناها أعلام الغناء اليمني، وأصدر أكثر من 20 كتاباً نشرتها له دور النشر العربية المعروفة في القاهرة وبيروت، وتم منحه العديد من الأوسمة، ومنها وسام من درجة قائد من الملكة إليزابيث الثانية نظير خدماته في حقل التعليم.

أما لجهة الأم، فهو ابن السيدة منيرة محمد علي لقمان، إحدى سيدات عدن الفاضلات المتعلمات من نسل عائلة لقمان المعروفة ذات البصمات الخالدة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً وصحفياً في تاريخ عدن. فوالدها (جد المترجم له لأمه) هو المحامي والرائد الأول للصحافة المستقلة في عدن وجنوب الجزيرة العربية ومؤسس صحيفة «فتاة الجزيرة» سنة 1940 و«أيدن كرونكل» الإنجليزية سنة 1953، ومؤسس «نادي الإصلاح» بكريتر عام 1929، و«نادي الإصلاح العربي» بالتواهي عام 1930، الأستاذ محمد علي لقمان (ولد في عدن في 1898 وتوفي بمكة المكرمة أثناء تأديته فريضة الحج عام 1966).

ولهذا، فإن نزار غانم ولد وهو يحمل من والديه جينات الإبداع والتألق التي تعززت بترعرعه في ظلهما وتأثره بأنشطتهما الثقافية والفنية والتطوعية. هذا ناهيك عن تأثره بأشقائه (الطبيب قيس غانم والمهندس شهاب غانم والمحامي عصام غانم) وشقيقتيه (عزة وسوسن) الأكبر سناً، وبخاله الشاعر علي محمد علي لقمان في الاستنارة والانتصار لقيم العلم والحق والخير والجمال والسلام والحرية والعدالة. فضلاً عن تأثره بما قرأ واستمع إليه منذ صغره في مكتبة والده العامرة بالأسطوانات والمطبوعات الورقية. وهكذا، لم يكن غريباً أن يصبح طبيباً بارعاً ومثقفاً ملماً وموسيقياً مبدعاً وشاعراً مرهفاً وباحثاً رصيناً وناشطاً حقوقياً وصاحب تجربة إنسانية واجتماعية رائدة، وفوق كل هذا مشروعاً متمماً لمشروع والده التربوي التنويري.

في حوار أجرته معه صحيفة «الاتحاد» الظبيانية (24/‏1/‏2013)، باح غانم بالكثير من أسرار طفولته وشبابه وخلجات نفسه، فأخبرنا أنه عاش طفولة جميلة وكان يرى والده يستريح في «بلكونة» المنزل ويمسك بآلة العود ويعزف عليها ويغني أنغاماً شجية، مضيفاً، أن مرحلة صباه وشبابه كانت مختلفة، لأنها تميزت بنكبات وأحداث سياسية واجتماعية شهدتها عدن وباقي جنوب اليمن، على إثر مغادرة المستعمر البريطاني واستلام الثوار للسلطة وشروعهم في التنافس على السلطة، وما تلا ذلك من انكسارات ومذابح وإرهاب وسيطرة سوفياتية على البلاد وضياع الاستقلال، بحسب تعبيره. واستطرد قائلاً ما مفاده، إنه ضاق ذرعاً بالتصنيفات السياسية للمواطنين وبمستوى الدراسة الابتدائية المتردي، ثم ما لبثت أن غادرت العائلة كلها عدن «إلى حيث لا وكر دائماً، فمن عدن إلى لندن إلى بيروت إلى الخرطوم لإكمال الدراسة الإعدادية والثانوية بكل ما صاحب ذلك من خبرات صادمة ومعضلات دراسية، مثل تعلم لغة ثالثة هي الفرنسية وتعلم الرياضيات الحديثة، إضافة إلى التمزق الوجداني، فلا ألبث أن أكون صداقات في قطر ما وأجيد لهجته حتى أجد نفسي أرحل إلى حيث علي أن أبدأ من الصفر».

غير أن ما شهدته حياته المبكرة من تنقلات وأسفار كانت بمثابة معين استقى منه ثقافة لا تقدر بثمن ومواهب لجهة التفكير والتعبير والنقد، كما أن الإقامة في مدارس داخلية بعيداً عن ترف الجو العائلي والاجتماعي الدافئ مكنته من الاعتماد على النفس وتطوير شخصية مستقلة قادرة على التعاطي مع مختلف الصدمات والانكسارات وحالات القلق.

ولد نزار محمد عبده غانم بمدينة عدن في 7 أكتوبر 1958، والتحق فيها بالتعليم الابتدائي سنة 1965 لكنه أكمله بلندن سنة 1969، ثم درس المرحلة الإعدادية بمدرسة الجامعة الوطنية بمصيف عاليه اللبناني التي انتقل منها إلى المعهد الديني بالكويت، وأكمل المرحلة الثانوية في كلية كمبوني الكاثوليكية الإيطالية بالخرطوم التي انتقل إليها في عام 1973 مع والديه، حيث عمل والده هناك أستاذاً بكلية الآداب في جامعة الخرطوم من عام 1974 إلى 1977 بدعوة من صديقه البروفيسور السوداني الراحل عبدالله الطيب. وفي السودان تماهى نزار مع كل ما هو سوداني من طباع وحياة وعادات وتقاليد، إبان سنوات إقامته هناك من عام 1973 وحتى سنة 1984 التي شهدت تخرجه من كلية الطب بجامعة الخرطوم. قال، إن السبب وراء اختياره دراسة الطب هو لأن الإنسان كان محور اهتمامه وثانياً لكي يتعلم حرفة يعيش بها طالما أن العودة إلى عدن في ظل اشتراكية نظامها الطفولية كانت غير واردة، مضيفاً، أن الطب والأبستمولوجيا البيولوجية ساعده كثيراً في الإجابة عن أسئلة وهواجس دينية ودنيوية كانت تؤرقه.

وإبان دراسته الثانوية والجامعية في الخرطوم، استفاد كثيراً من أجوائهما فانشغل بأنشطة المجتمع المدني وفعاليات منتديات الخرطوم الثقافية والاجتماعية والفنية والأكاديمية دون الانغماس في السياسة، واهتم بإصدار صحف الحائط، متجاهلاً الرياضة لصالح العمل الكشفي، وعزز ثقافته العامة بالاستماع إلى محطات الإذاعة، مستقصياً بألم أحداث السودان والعالم الدامية، واستهوته مشاهدة أفلام السينما المصرية وروائع هوليوود، فحرص على التردد على سينما النيل الأزرق لإشباع شغفه، وعشق متابعة المسرحيات الجامعية، وتعلم الغناء والعزف على العود ليطرب نفسه وزملاءه داخل أسوار الجامعة وحفلاتها الموسيقية، وغير ذلك من الأمور التي جعلته جاهزاً ومقداماً لخوض التجارب الإنسانية دون وجل، ومنها اقتحامه الفعاليات الثقافية السودانية بقصائد من نظمه وهو على مقاعد الجامعة، ومنها أيضاً اقتحامه جمعية الموسيقى والمسرح بجامعة الخرطوم التي اختارته سكرتيراً لها، وقيامه بإصدار صحيفة «الواحة» الجامعية لينافس بها صحف زملائه.

لم يكتفِ صاحبنا بمناشط جامعته، وإنما سعى أيضاً إلى نشر قصائده في «مجلة الشباب والرياضة» السودانية عام 1977، واشترك في مسابقتها الشعرية ففاز بالجائزة الأولى، وكان مقدارها 70 جنيهاً أنفقها لتذوق طعام فندق هلتون الخرطوم، ونشر في الصحافة اليومية في نهاية السبعينات سلسلة مقالات تاريخية وأدبية عن الشخصيات اليمنية التي عاشت في السودان، والشخصيات السودانية التي قدمت إبداعاً في اليمن بشطريه تحت عنوان «بين صنعاء والخرطوم»، التي طورها لاحقاً وأصدرها في مجلد ضخم بعنوان «جسر الوجدان بين اليمن والسودان». وفوق هذا وذاك، تمت استضافته في عدد من برامج الإذاعة السودانية، وشارك في تقديم برنامج «أولاد دفعة» وظهر في تلفزيون السودان ضيفاً على برنامج «دنيا دينقا».

مما لا شك فيه، أن الرجل عشق السودان الذي احتضنه في سنوات شبابه ومنحه جنسيته في عام 2009، والذي ارتبط فيه بعلاقات وثيقة مع شعبه الودود، بدليل أنه اخترع مصطلح «السومانية» وهي مفردة اشتقها غانم من كلمتي «سوداني» و«يماني» لتعبر عن المزج العرقي والثقافي بين الشعبين.

بعد تخرجه طبيباً من جامعة الخرطوم، أمضى فترة الامتياز والتدريب بمستشفى راشد التعليمي بدبي، ليعود بعدها إلى اليمن سنة 1985، حيث تم تعيينه في السلاح الطبي لجيش اليمن الشمالي برتبة ملازم أول. وحول السنوات الأربع التي قضاها هناك، قال في حوار مع موقع «بوست»، إنها كانت أربعة أعوام لم تخلُ من المعاناة بسبب الفساد الذي ينخر المؤسسة العسكرية اليمنية وحالة الترهل وعدم الانضباط، بحسب تعبيره. ولعل تلك المعاناة حفزته آنذاك على مواصلة دراسته في مجال الطب ونجاحه في الحصول على درجة الماجستير في الطب المهني سنة 1989 من جامعة لندن، قبل أن يحصل على شهادات عليا أخرى من جامعات أمريكية ومصرية.

معالجة المبدعين وأسرهم مجاناً

مارس نزار غانم مهنة الطب في عدن من خلال عيادة أسسها سنة 1992 لمعالجة المبدعين وأسرهم مجاناً، ثم أسس في 1996 مركزاً صحياً ثقافياً لتقديم الرعاية الصحية الأولية للمبدعين بنظام تأمين رمزي، مع تقديم دروس في الفنون الجميلة المتنوعة. واستمر ناشطاً في هذا المركز حتى عام 2008، حينما تحولت إلى «مؤسسة شركاء المستقبل للتنمية» ككيان أهلي معني بحقوق الإنسان والشباب والمرأة والرعاية الصحية النفسية وتعليم الموسيقى.

من ناحية أخرى، قام غانم بتدريس مادة الطب المهني في جامعة صنعاء حتى عام 2002، وعمل مستشاراً لوزير الصحة لشؤون العمل التطوعي ثم مستشاراً لوزير الصحة لشؤون السلامة المهنية، وأرسلته بلاده إلى سفارتها في الخرطوم ليعمل ملحقاً ثقافياً بها من 2002 إلى 2006، ففرح أصدقاؤه السودانيون الكثر به وظلوا يلحون على حكومة صنعاء أن تبقيه في منصبه لأجل غير مسمى، بداعي محبته للسودان وتفانيه في خدمته وفاء لما قدمته له جامعة الخرطوم ومنتديات الخرطوم الثقافية والاجتماعية والفنية. لكنه عاد إلى صنعاء ونجح في الحصول على درجة الدكتوراه عن أطروحة في الوسواس القهري عام 2011، ليغادر بعدها اليمن إلى السودان للمرة الثالثة والأخيرة لتدريس طب البيئة والسلامة المهنية بجامعة الطيب. ومع اندلاع القتال مؤخراً في السودان واستمرار الحرب في اليمن فقد مصادر الرزق في البلدين، فوصل إلى القاهرة مع أسرته لاجئاً.

بحوث غانم في علم موسيقى الشعوب

اقتفى غانم أثر والده في اجتهاداته البحثية الموسيقية، فانشغل بالبحث الإنثوميوزيكي (علم موسيقى الشعوب)، وكانت الحصيلة إصدارات وبحوثاً ومحاضرات حول المشتركات والتأثيرات المتبادلة بين اليمن والخليج في الموسيقى والغناء، التي تختلف عن السائد في المنطقة المغاربية ومنطقتي الهلال الخصيب وحوض النيل. كما انشغل كثيراً في البحث عن جذور الموسيقى الأفريقية والرقصات الأفرويمنية والتثاقف الموسيقي بين الهند واليمن.

من مؤلفاته: «أغنيات الشاعر اليمني محمد عبده غانم» و«جسر الوجدان بين اليمن والسودان»، و«البحث في تاريخ الموسيقى في اليمن والحضارات المجاورة»، و«دراسة الطب البديل في اليمن»، و«جذور الأغنية اليمنية في أعماق الخليج»، و«أصالة الأغنية العربية»، و«الرقصات الأفرويمنية»، و«تداعيات الغربة».

أما مشاركاته بالبحوث والأوراق والدراسات العلمية، فقد شملت مراكز الدراسات الشرقية بالجامعات الأمريكية والبريطانية والنرويجية والماليزية، ومؤتمر الفكر العربي ببيروت ومهرجان رافينا بإيطاليا ومهرجان الشرق بالسويد ومهرجان المتحف البريطاني بلندن، ومؤتمرات وفعاليات في اليمن والسودان ومكة والمنامة والكويت ودبي والأردن.