كتاب ومقالات

المقاهي تخلع رداء السمعة السيئة

عبده خال

في البدء علينا تثبيت أن الشريك الأدبي منح المقاهي شرعية أن تكون مصدراً من مصادر التغذية الثقافية، وسأتطرق إلى هذا المشروع في مقالة مستقلة، ومقالتي هذه هي مزاوجة بين ذكرى المقاهي ماضياً وحاضراً، فمع انتشار المقاهي بصورتها الجديدة، وتحديداً تلك المقاهي التي تنتمي إلى طبقة اجتماعية تظهر في أول الأمر أنها الطبقة البرجوازية إلا أن التعمق في وضعية المرتادين لن تبتعد عن الطبقة المتوسطة، فالمتغيرات الشكلية تتحدد في (ابهتها) بما تقدم من شروبات ومأكولات متنوعة، ذات صبغة أممية (تنتمي إلى ثقافات مختلفة)، وطرأ تغير جوهري في الشكل والمضمون، والملفت أن بعضها ازدانت رفوفها بأنواع من الكتب كنوع من التميز، وهذا الوضع الجديد المتجدد نفى عن المقهى الصفة الذميمة التي كان أهالينا يمنعوننا منعاً باتاً من الوصول إلى المقاهي، وفي هذا كنت قد كتبت مقالاً بعنوان «سمعة المقهى السيئة» ذكرت فيه أن الثقافة الاجتماعية تشير في أحيان كثيرة إلى نمط سلوكي معين - بغض النظر عن صحته - والثقافة الاجتماعية في السعودية ظلت تقف موقفين متباينين من المقهى؛ فهناك فئة تنظر إلى المقهى نظرة ازدراء واحتقار لرواده وارتباط المرتادين لهذا الموقع بالطبقات الدنيا والمنحرفين سلوكياً، وهذه النظرة تتسع دائرتها حتى تصل إلى أغلب المدن والقرى، هذه النظرة ربما كان جذرها الذي تستند عليه تحريم التدخين مع بداية ظهوره، ولكون المقهى يقدم (الشيشة) (ككيف) وغدا المكان مهوى محبباً للمدخنين، وأغلب مرتاديها من طبقة المدخنين، واكتسب المقهى تحريماً يوازي تحريم الدخان، إضافة إلى بقاء إرث اجتماعي سابق من التحريم للشاي والقهوة، وإذا أضفنا أن أولئك الذين ينعتون بالمنحرفين كانوا يرتادون المقهى بصورة دائمة ومستمرة تصل -في أحيان- إلى أن البعض كان مقيماً داخل المقهى والمبيت داخل المقهى؛ لأنه كان يقوم بدور الفنادق، ففي زمن لم تكن الفنادق متواجدة بصورة تعني توافد الناس إليه كموقع للمبيت كان المقهى يقوم بهذا الدور حيث ينزل به المسافرون أو مقطوعو الأهل أو أولئك الذين لا يجدون مالاً يسعفهم لاستئجار بيت يمنعهم من البقاء داخل المقهى.

وظل موقع المقهى مرتبطاً بالمنحرفين والغرباء ومن ليس له أهل، وبقى بعيداً عن إقبال الكثير من أفراد المجتمع الذين يبحثون عن سمعة نظيفة تبعدهم عن اللوم أو اتهامهم بما يكرهون، هذا التفكير أخذ يتزحزح مع السنوات لتساع فئة المدخنين ورواد المقهى مكونين نظرة حاولت من البدء الانفكاك من أسر أحكام المجتمع الجاهزة وأخذت تتعامل مع المقهى كموقع لتطبيب المزاج وشرب الشاي وتبادل الأحاديث.

والمجتمع الحجازي يختلف عن بقية المناطق في المملكة حيث وجد نمط سلوكي في حياة الناس حيث كان من مناشطهم اليومية لتبادل الأحاديث وشؤون الحي الجلوس بالمركاز ويتبادلون فيه أخبار الأدب (وهذا المكان يسمى المركاز وجمعه مراكيز)، والمركاز عبارة عن أرائك ترص على شكل مستطيل مفتوح من الجهة التي تقابل صدر المجلس وفي الصدر يجلس الأكثر تميزاً في المجموعة.

وقد لعب المركاز أهمية اجتماعية وثقافية في فترات مبكرة من حياة المجتمع الحجازي (في مكة وجدة والمدينة على سبيل المثال)..

ومع التغيرات السريعة غاب المركاز وظل محصوراً في أماكن معينة ومحدودة، ومع وجود المركاز لم يكن المقهى غائباً بل كان يتواجد بسمعته السيئة (عند البعض)..

وأخذ المقهى يتشكل ويكتسب وجوداً تدريجياً بدأ بالتسامح مع كبار السن في دخول المقهى وانتهى بقبول تواجد الجميع في هذا المكان (وتبرز الآن مجموعات حديثة السن داخل المقهى متعاطية الشيشة والتدخين من غير تحرز كما كان يحدث سابقاً، بل وغدا المقهى متنفساً أساسياً لمعظم الشباب في غياب الأماكن الأخرى التي تستقبلهم أو تقبل بتواجدهم كما يتفضل عليهم المقهى).

ومن المقاهي الشهيرة في استقبال المثقفين بمدينة جدة مقهى أرستقراطي يقع على شاطئ الحمراء، ويتوافد على هذا المقهى مجموعة كبيرة من الأدباء والإعلاميين والرياضيين والفنانين التشكيليين والشعراء الشعبيين وغدا هذا المقهى ملتقى كثير من الكتّاب لقربه من نادي جدة الأدبي، وقد خفف ذلك المقهى من السمعة السيئة التي علقت في أذهان كبار السن والمحافظين منهم.

وهناك مقهى يقع بين مجموعة ورش صناعية كان يرتاده مجموعة من الكتّاب الشباب في جلسة أسبوعية لتداول الآراء في الجوانب الثقافية والأدبية.

ومقهى يقع على الشاطئ يرتاده قلة من الشباب وخاصة المهتمين بالشعر الشعبي.

ومقهى يقع بالمدينة الصناعية يرتاده الفنانون التشكيليون وتتناثر المقاهي في المدينة الصناعية بعد أن تم إخراج المقاهي من داخل الأحياء لسمعتها السيئة كسبب ظاهر ترافق مع تنشيط تحريم الدخان بأنواعه، كان ذلك في زمن الصحوة.

ومع تناثر المقاهي خارج أحياء جدة أدى إلى تكاثرها تكاثراً يذكرك بالنمو الطفيلي.

ومع ذلك التكاثر أصبح لكل مقهى مرتادون معينون، وغدا أيضاً جامعاً للمهتمين بالجوانب الفنية على اختلافها، وعمدت على أن تكون لحاماً بين فئات المنشغلين بالجوانب الثقافية، وأعتقد أنها حلت معضلة غياب التواصل الثقافي بين جوانب الحياة الأدبية والفنية، وتشكلت (شللية) المقاهي، ولكل مقهى مرتادون، فهذا المقهى للصحفيين، وهذا للشعراء الشعبيين، وهذا للفنانين التشكيليين، وذلك للأدباء، وغدت كل مجموعة تلتف على بعضها من غير معرفة المجموعات الأخرى بتواجد بعضهم بجوار بعض.

وقد قدمت بحثاً مختصراً عن هذا المكان الجاذب بالرغم من سمعته الماضوية السيئة.

الحياة تعيد صياغة المجتمعات وفق المتغير إلا أنها لا تبتعد كثير عن الصيغة الأولى، وأجد أن من الجماليات الثقافية تحول ما كان ينظر إليها مكاناً سيئاً إلى وجهة تحاول أن تنتمى إلى طبقية ثقافية أعلى، ولنأخذ مثلاً دور السينما حين كانت في الدرجة السفلي من تقييم المجتمع لمرتاديها.

ولأن المقاهي غدت باثة للثقافة من خلال الشريك الأدبي، يغدو لزاماً تقييم المقهى بصورته الحديثة.