كتاب ومقالات

بايدن «الأجنبي»!

محمد مفتي

لا يمكن اعتبار تصريحات أي وزير بأي حكومة عشوائية أو وصفها بأنها اعتباطية، فوزير أي دولة هو ممثلها الرسمي والناطق باسمها ولاسيما في المحافل الدولية، وتصريحات أي وزير تجسّد إستراتيجية دولته والبوصلة التي يعرف من خلالها الجميع توجه الدولة وأهم أولوياتها، وفي حال قيام وزير ما بالتصريح بما يخالف إستراتيجية الدولة فعادة ما يتم إعفاؤه من منصبه كعقوبة متوقعة ينالها على انفراده بالتعليق في ما يخص شؤون دولة بأكملها، وسرعان ما يصدر من مسؤولي الدولة بيان يفيد بأن تصريح هذا الوزير هو رأيه الشخصي ولا يعبّر لا عن سياسات الدولة ولا عن إستراتيجيتها.

غير أنه خلال أحداث غزة الأخيرة صادفتنا الكثير من التصريحات الإسرائيلية الرسمية الغريبة والمتناقضة والمثيرة للدهشة والاشمئزاز في آن واحد، والتي أبرزت بما لا يقبل الشك الانقسام الحاد واللافت بين أعضاء الحكومة الإسرائيلية وبين رئيس الوزراء نتنياهو، كما أظهرت مقدار العزلة وخيبة الأمل التي أصبحت تمنى بها الحكومة الإسرائيلية من قبل قادة وزعماء العالم، فما يحدث في إسرائيل الآن هو دليل دامغ على كمية التخبّط والاضطراب التي تعيشها إسرائيل كحكومة وكشعب أيضاً، ففي كل يوم تصدر تصريحات لأحد المسؤولين وكأنه هو الحاكم بأمره ولا علاقة له برئيس الوزراء، ولعل التركيبة الغريبة التي تتكون منها الحكومة الإسرائيلية هي السبب الرئيسي في صدور هذه التصريحات المتضاربة.

من الملاحظ أن الحكومة الإسرائيلية الائتلافية تقف عاجزة أمام تشدد الأطراف المتطرفة فيها كوزير ماليتها بتسلئيل سموترتش، والذي كان أحد الأسباب الرئيسية وراء الأزمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، فبسبب تصريحاته العدائية اتضح للرأي العام العالمي كمية التناقض بين موقفي الدولتين تجاه حل النزاع الدائر حالياً في غزة، ففي الوقت الذي تؤيد فيه الولايات المتحدة سياسة حل الدولتين كمخرج من الصراع الدموي الدائر يصرح سموترتش أن سياسة الولايات المتحدة لا يحددها «الأجانب»، فالرئيس بايدن الذي صرح في عدة مناسبات بأنه صهيوني هو أجنبي في نظر وزير المالية الإسرائيلي ولهذا لا يجب أن يتدخل في سياسة إسرائيل، فلم تشفع صهيونية الرئيس بايدن عند الحكومة الإسرائيلية التي ترفض أي تدخل أو حتى وساطة لحل الأزمة.

من المؤكد أن نتنياهو مكبّل تماماً من قبل حكومته أكثر مما هو مكبل من قبل الشارع الإسرائيلي نفسه، ذلك أن انسحاب أي وزير من الحكومة الائتلافية لا يعني إلا أن المعبد سينهار فوق رأسه، لقد أصبح نتنياهو تابعاً لا متبوعاً، فقد يدلي نتنياهو اليوم بتصريح ما، فيقوم وزير في وزارته في اليوم التالي بنفيه من تلقاء نفسه، في تجاوز مستفز للبروتوكول الدبلوماسي المتعارف عليه، وهذا الأمر إن دل على شيء فهو لا يدل إلا أن إسرائيل غدت في موقف مخزٍ داخلياً وخارجياً، فنتنياهو يعلم أن مستقبله السياسي قد انتهى، ولذلك يريد الهروب إلى الأمام بحثاً عن أي ضوء في آخر النفق، فلكي يتخلص من قضايا الفساد التي تلاحقه أينما حل يريد الاستمرار في الحكم حتى لو على حساب صلاحياته، وحتى لو كان ذلك على حساب حياة آخر جندي إسرائيلي أيضاً، وهو ما يدفعه بشكل ملح لتجنّب تجاوزات وزرائه واضطراره لأنه يجاري تشددهم وتطرفهم سواء اتفق معهم أم لم يتفق.

مع موقف نتنياهو الرافض لوقف الحرب والتفاوض من أجل السلام مع الفلسطينيين، ومع الفشل المستمر في تحقيق أي إنجاز ملموس على الأرض سواء تعلق الأمر بتحرير الرهائن أو تدمير البنية التحتية لحماس، ومع طول أمد الحرب وعدم ظهور أية بوادر لحل الأزمة، بالتزامن مع ارتفاع وتيرة الغضب والاستياء الشعبي، أصبحت الحكومة الإسرائيلية عاجزة تماماً وغير قادرة على اتخاذ أي قرار، ومما لا شك فيه لم تمر إسرائيل منذ العام 1948 وحتى يومنا هذا بتخبط واضطراب كالذي تمر به الآن، فالمظاهرات الشعبية الغاضبة تتعالى وتيرتها وتتسع يوماً بعد يوم، ولا شك أن ما يحدث الآن من اضطرابات وشيكة قد يكون مجرد شرارة تدل على احتدام الوضع واشتعاله على نحو يصعب التنبؤ بنتائجه، غير أن قادة إسرائيل وسياستها هما السبب الأساسي والوحيد لاندلاعها على هذا النحو.