كتاب ومقالات

الشرق الأوسط وصناعة التوتر

عبدالرحمن الجديع

قدَر منطقة الشرق الأوسط أن تظل مكبّلة بظروف ومتغيرات بالغة الدقة والخطورة، مما يقتضي التعامل مع أحداثها العاصفة بعمق وحذر، وتحليل أبعادها المختلفة، ومدى انعكاساتها، في ضوء تداعيات العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، في أعقاب أحداث السابع من أكتوبر 2023، وما تلاه من تدمير للقطاع، وإبادة جماعية للشعب الفلسطيني الأعزل.

إنّ رصد التطوّرات والأحداث في إقليم مضطرب، يشهد أحداثاً سياسية متوترة ومتواترة، تستدعي متابعة وملاحقة لهذه الأحداث، وتقييم إفرازاتها على الصعد السياسية والاستراتيجية والثقافية كافة.

هذه الأحداث ترجّ إقليم الشرق الأوسط الملبّد، أصلاً، بالخلافات المتعاقبة التي لا تهدأ، وتجرّه إلى حافة الهاوية، وتغرقه في ظلام الحروب والدمار، لاسيما أنّ هناك سياسة إسرائيلية تُقاد من قبل مجموعة صهيونية متعجرفة متطرفة ترفض سائر مبادرات السلام في المنطقة، وتعارض حلّ القضية الفلسطينية على أساس مبدأ الدولتين وإنهاء الصراع، ذلك أنّ استمرار الصراع يكفل بقاءهم بالسلطة حتى على حساب المواطن الإسرائيلي نفسه. وفي المقابل، هناك أنظامة تتوافق مع سياسة الابتزاز هذه، ويحلو لها عدم حل القضية رغبةً في الاستمرار باستخدامها ذريعة ووسيلة سياسية لفرض هيمنتها، وتعزيز نفوذها ضمن محور مقاومة الاحتلال، واستخدام المليشيات المؤتمِره بأمرها، وتوجيهها أنّى شاءت مصالحها وأطماعها وعبثها.

وإزاء هذه المواقف الرافضة لأية مقاربة واقعية لحل الأزمات، وضبط السلم والأمن والاستقرار وإيصال المنطقة إلى بر الأمان، هناك قلق دولي وإقليمي حقيقي من تفاقم الأمور، وقيام إسرائيل بمغامرة رعناء، وتوسيع نطاق الحرب القائمة، وإدخال المنطقة في بحر متلاطم من الصراعات والنزاعات التي تمس جميع دول المنطقة، لاسيما الوطن العربي والمواطن العربي بالدرجة الأولى.

إنّ ما تقوم به تلك الأنظمة من مشاكسات، عبر وكلائها الإقليميين، يجسّد رغبتها في إرسال رسائل للغرب بأنها تستطيع خلق الاضطرابات، والتحكم بمزاج المنطقة، وعليهم التعامل معها في ضوء ذلك. فعلى سبيل المثال، يلاحظ المراقب انخراط مليشيات الحوثيين في حرب غزة من خلال شنّ الهجمات على السفن التجارية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، أو إطلاق بعض الصواريخ من سوريا أو لبنان على إسرائيل، أو استخدام الطائرات المسيّرة، كما جرى يوم الأحد 28 يناير 2024 لاستهداف القاعدة العسكرية الأمريكية على الحدود الأردنية - السورية، الذي أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وجرح نحو 34.

من المؤكد أنّ أمريكا سوف ترد على هذا الهجوم، ولكن بضرب مواقع في الدول العربية، مع علم واشنطن أنّ الأوامر صادرة عن طهران التي نفت، كعادتها، ضلوعها في هذا الهجوم.

إيران تحاول بين الفينة والأخرى استعراض عضلاتها، كما فعلت شرقاً، حين قام الحرس الثوري بتاريخ 16/‏‏‏‏1/‏‏‏‏2024 بضرب مناطق في باكستان يتواجد فيها (جيش العدل)، وهو مجموعة سُنية بلوشية، إلا أنه «ليس في كلّ مرّة تسلم الجرّة»، حيث جاء الرد الباكستاني سريعاً بضرب المناطق الإيرانية، لردعها وإفهامها بأنّ باكستان دولة قوية، وليست كغيرها من دول المنطقة التي تستطيع طهران العبث بها. وكادت الأزمة تتفاقم لولا تدخل الوساطة الصينية لاعتبارات استراتيجية واقتصادية ونزع فتيل الأزمة.

إيران دأبت على افتعال الأزمات وتوظيف التوترات لصالحها، ولكن وفق ضوابط، خصوصاً أنها حالياً لم تعد تعوّل على الحلف الثلاثي التركي الإيراني الروسي الذي كان قائماً في اتفاقيات (سوتشي) لتقسيم سوريا العربية، بعد انشغال روسيا في حربها بأوكرانيا.

ما أكثرَ المشاريع التي تُحاك ضد الدول العربية، كما يتجلّى من مخططات تفتيت سوريا والسودان وليبيا واليمن، وإشعال فتيل الأزمات في كل ركن وزاوية. ومن المؤسف أنّ هناك بعض دول المنطقة تسهم في ذلك عن وعي أو غير وعي، ما يجعل الدول العربية المتضرر الوحيد، فلا إيران تُضرب، ولا تركيا تُعاقب، ولا إثيوبيا تمسّ، وهي التي أشعلت مؤخراً أزمة جديدة في الصومال عبر توقيع اتفاقية بربرة مع المتمردين في «دولة أرض الصومال» لمدة خمسين عاماً لأغراض تجارية، وتعاون عسكري، مقابل الاعتراف بأرض الصومال.

هذه الاصطفافات الجيوسياسية تم رفضها من قبل الجامعة العربية باعتبارها تمسّ بالثوابت العربية الأفريقية، وتتعارض مع القانون الدولي وسيادة الدول، وتزيد من حدة التوتر في المنطقة.

وأمام هذا الواقع السياسي، والديناميات الجديدة، والممارسات الدولية، وأزمة التحالفات المتداخلة وصناعة التوتر، وعواصف المتغيرات.. وغيرها كثير، تغدو منطقة الشرق الأوسط غارقةً في أزمات دائمة وتشظٍ مستمر يستنزف مقوماتها، ويؤثر على استقرارها.

وإزاء هذه المتغيرات المتسارعة، والتطورات الخطيرة، قد يكون من الأجدى الاستفادة من إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية الذي تبلور من جرّاء مآسي الحرب الطاحنة في غزة، والعمل على إقناع المجتمع الدولي بأنّ الوقت بات ملائماً للتوصل إلى حل الدولتين، والتأكيد على أنّ الحل السياسي هو الأفضل، بعد فشل الحل الأمني، والاستفادة من السياقات السياسية الدولية وما تمخض عن الهيئات الدولية ومحكمة العدل الدولية، لمراجعة جديدة وبلورة رؤية مختلفة ومبدعة لقضايا المنطقة، وإبعادها عن التجاذبات الإقليمية والدولية، والتعاطي مع التحديات ومجابهة التحولات بمقاربة واقعية.