كتاب ومقالات

معهد الحضارة الإدارية

عبداللطيف الضويحي

السفينة لا تحتاج لمن يقف في وسطها ليحفظ توازنها أثناء الإبحار وسط الأمواج بين اليمين والشمال، خلافاً للقارب الصغير الذي لا بد من الوقوف في منتصفه، لحفظ توازنه والحفاظ على استمرارية إبحاره بالكتلة والسرعة المناسبتين من غير أن يسقط يميناً أو ينقلب شِمالاً. لقد بدأ معهد الإدارة قارباً صغيراً بالتزامن مع بداية تأسيس الدولة ومؤسساتها الرئيسة، فكان لا بد من توحُّد هذا المعهد حول أهدافه، فنجح المعهد في التوحد وانعكست هذه الفلسفة إلى اليوم على توحد المعهد حول ثقافة وهويّة وشعار واحد قل مثيله في بناء العلامة المؤسسية وقيم المؤسسات. فكان هذا التوحد الكلي حول هدف المعهد بمثابة الوقوف في منتصف القارب الصغير وحفظ توازنه.

كبر المعهد وأبحر سفينة كبيرة تكتظ بالملايين من الركاب الدائمين والعابرين، منهم من عرفوا المعهد من خلال صورته وسمعته النموذجية الخارجية، فوصلهم التأثير والأثر داخل الوطن وخارجه، بينما مئات الآلاف ممن عرفوه عن قرب، فمنهم من عمل به وبينهم من تخرج منه، وفيهم من تعلم فيه أبجديات الإدارة وألف - باء الاستشارة الإدارية والتنظيمية والإجرائية.

لم يكن المعهد بحاجة لأن يدفع ريالاً واحداً أو يبذل أي جهد ليحسّن سمعته أو يلمّع صورته، ولم يكن بحاجة للإعلام للترويج لنجاحاته، فقوافل الموظفين الراغبين بالتدريب من المملكة وخارجها تتقاطر على قاعاته الأنيقة، وهيئته التدريبيّة المؤهّلة وحديثة التدريب، وفلسفته التدريبية الاستثنائية، كانت إعلاماً ذاتياً فائضاً للمعهد وعن المعهد داخل وخارج المعهد، ناهيك عن التأثير المباشر وغير المباشر الذي يحدثه المعهد من خلال تقديمه الاستشارات والتنظيمات الإدارية التي قدمها لكافة الأجهزة والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، حتى أنه أصبح بيت خبرة في التنظيم الإداري للعديد من الأجهزة والمؤسسات الحكومية في الدول العربية، بل إنه نظم الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي وجامعة الدول العربية.

لقد كان معهد الإدارة ساعةً، تضبطُ عليها الأجهزة الحكومية مواعيدها وأجندتها، فهو المرجع للنظرية والممارسة، وهو المنبر للندوة واللقاء والمؤتمر والورشة لكل ما يتعلق بعلوم الإدارة والتجارب الإدارية والمجالات ذات الصلة منبراً للفكر والثقافة الإدارية بمعنى الكلمة، من خلال الندوات واللقاءات والمؤتمرات الإدارية ونشر الفكر الإداري وطباعة النتاج العلمي لكل العلوم الإدارية، معززاً بمطابع ضخمة ومكتبة كانت مقصداً حتى طلبة الجامعات يقصدونها، ويقصدها الموظفون من كافة المؤسسات الحكومية، بجانب نجاحات المعهد المبكرة في إدخال النظم الحاسوبية كان المعهد منظومة من القيم والفكر والثقافة والتجارب الإدارية، بدأها بنفسه، فكان المعهد مؤسسة حقيقية، تؤمن وتعمل بروح الفريق، لم تحتكرها فئة واحدة ولم يصبغها لون واحد مناطقياً أو مذهبياً أو قبائلياً، لم يفرق المعهد في العمل بين السعودي وغير السعودي وهو ما جعل المعهد مؤسسة حقيقية.

من أبرز ما ميز المعهد أنه كان منفتحاً على الجديد المفيد، فقد حصل معي شخصياً وكنت حينها عضو هيئة تدريس في المعهد، أن تقدمت باقتراح للمدير العام يتضمن فتح الصالات الرياضية في المعهد الساعة الخامسة صباحاً لكافة الموظفين والمدربين، أي قبل بدء العمل، وذلك لتنشيطهم ذهنياً وجسمياً على المستوى الصحي الشخصي، بالإضافة إلى ما تتحدث عنه الدراسات من أهمية النشاط الرياضي الصباحي وانعكاسه على كمية ونوعية إنتاجية العاملين الذين يمارسون الرياضة الصباحية مقارنة بنظرائهم الذين لا يمارسون ساعة رياضة قبل ساعات العمل. كانت المفاجأة بالنسبة لي، أن المدير العام أحال المقترح مع مذكرة إدارية إلى مدير الشؤون الإدارية والمالية، باعتماد المقترح مع توجيه بتوفير وجبة إفطار خفيفة مع العصيرات يتم تقديمها في النادي الصحي الرياضي في المعهد لكل من يتبنون الرياضة وذلك تأييداً للفكرة وتشجيعاً للعاملين، وقد نجحت الفكرة وكانت حينها حديث المعهد ودوائر العمل.

اليوم يقف معهد الإدارة العامة أمام واحدة من أبرز التحديات التي تتطلب منه تغييراً يحافظ به على ريادته التاريخية، وفي الوقت نفسه مواكباً للتحولات العميقة والجذرية التي تعيشها كافة القطاعات العامة والخاصة ضمن برامج التحول المنبثقة عن رؤية المملكة 2030، وبما يمليه النسق الرقمي. فما حجم ونوعية التغيير الذي يحتاجه المعهد؟ وكيف يجري التغييرات مع الحفاظ على هويته وثقافته وصدارته؟ وهل تبقى أهداف المعهد كما هي أم أن تغييراً طفيفاً أو عميقاً لا بد منه؟ إن الإرث الذي يقف عليه المعهد ليس إدارياً أو تدريبياً أو استشارياً، إن معهد الإدارة يقف على «حضارة» من النجاح والإنجازات والأسماء والمحطات. لقد امتدت حضارة معهد الإدارة من الملز لتمتزج مع كل مؤسسة حكومية وكل بنك وشركة، إن الثقافة والفكر الإداري لمعهد الإدارة في عقل وثقافة كل موظف وكل مسؤول خلال الأجيال الأربعة الماضية.