أخبار

خير الدين الزركلي.. صاحب «الأعلام» أضخم موسوعة تراجم في العصر الحديث

جاهد بشعره من أجل وطنه الأول (سوريا) وبنثره ودبلوماسيته من أجل وطنه الثاني (السعودية)

الملك فيصل وإلى يمينه الزركلي في عام 1955 يتوسطهما عوني عبدالهادي.

تركي الدخيل TurkiAldakhil@

لن أنسى، إنْ طالت عُهودي ونسيتُ، تلك المتعةَ التي وجدتُها في قراءة كتاب (الأَعْلام)، للأستاذ خير الدّين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس الزِّرِكْلِيّ (1893-1976)، ولم تتجاوز سِنّي -وقتذاك- الرابعةَ عشْرةَ، وقد جرى الأمر كالتالي: كنتُ، في كلّ موعد سنوي لمعرض جامعة الملك سعود للكتاب، أستأنِسُ بمُرافقة بعض الأصدقاء لنزور ذاك المعرض، وأقتني الكُتُبَ المُوصَى بها، بلهفة ومتعة. وصادف مرّة أن علق عنوانَ كتاب (الأعلام)، في الذاكرة، من القراءات، ومن حديثِ أصدقاء كنتُ أعتبرهم مرجعًا، رغم أن فارق العمر، لا يعدو بضع سنوات.

انتابتني حينها رغبةٌ في الحصول على الكتاب، مع أن ذلك يعني اضطرابًا ماليًا في ميزانيتي، لشهرين أو ثلاثة قبل المعرض، وربما بعده. لقد كُنتُ وأنا أدري، وربما لا أدري، أتمثل أبيات أبي فراس الحمداني، إذ قال:

وَنَحنُ أُناسٌ لا تَوَسُّطَ عِندَنا

لَنا الصَدرُ دونَ العالَمينَ أَوِ القَبرُ

تَهونُ عَلَينا في المَعالي نُفُوسُنَا

وَمَن خَطَبَ الحَسناءَ لَم يُغلِها المَهرُ

كان إقبالي على القراءة حقيقًا، ولذلك فإن سعيي لاقتناء كتاب مثل (الأعلام)، بمجلداته الثمانية الكبار، كان صادقًا، يماثل مكاننا، حيث لا يليق بنا إلا الصدر دون العالمين... أو القَبْرُ!

والمعاناة المالية حتى لو امتدت شهورًا، تأتي ضمن طلب العُلا، وفي سبيله، تهون علينا نفوسنا، إذ إننا مقبلون على الحسناء غير مدبرين، راغبين غير محجمين، ومن يصدق في طلب الحسناء، لا يستكثر عليها مهرًا.

دخلتُ المعرِضَ وفور دخولي رُحتُ أسألُ عن الكتابِ إلى أن اهتديتُ إليه، فاقتنيتُ نسخةً منه، وأذْكر أني ظللتُ أتملَّى غلافَها الأزرقَ المتينَ أغلبَ ساعات ليلتي، وانتقل من ترجمة لأخرى. اختار البحث عن شخصيات أعرفها، لأرى كيف يكتب عنها الأستاذ الزركلي، وأحيانًا أقرأ مسترسلًا صفحات وصفحات، دون أن يقطع متعة قراءتي قاطع، ولا ينغص منغصٌ سعادتي بأن ما أستمتع بقراءته بات كتابًا ضمن مقتنيات مكتبتي الخاصة، وأصدقك، سيدي القارئ، فكتابة اسمي على طرَّة الكتاب، كانت مذهبًا آخر من مذاهب البهجة الخَلَّابة، لا... بل الدهشة الأَخَّاذَة.

إن حروف اسم العبد الفقير إلى ربه، على ذلك الكتاب الفاخر الفاره، تعني أن تُحسَّ بمشاعر التملك، تلك التي تعني شيئًا شبيهًا، بإعادة تعريفك ثانية في الحياة، وتختلط هذه المشاعر، مع إثارة الرغبة الجامحة في تحصيل المعرفة؛ وأجزم بأنَّ الكتاب الذي أصبحتُ أملكه، هو وعاء هذه المعرفة!

والحقُّ أني بقَدْر ما ابتهجتُ لشراء الكتابِ استمتعتُ بكيفيةِ قراءتي له؛ إذْ لم أكنْ أقرأُ تراجُمَ أَعْلام السياسة والعلوم والأدب والفن الواردةَ به، وإنما كنتُ أقرأ في ثناياها حكاياتِ هؤلاء، التي نجح الزِّرِكْلي في الإيحاء بها، وهو يكتب تَراجُمَهم. كنتُ أجد في كلٍّ مُبدِعٍ منهم بطلًا لحكايةٍ كامنةٍ في تَرْجَمتِه، حكايةٍ أزعُمُ أن لا أحد من الناس يعرفها، سوى صاحبِنا الزِّرِكلي، وأنا (تذكَّروا أَنّي أخبرتُكم بأنّ لي مع الكتب حكاياتٍ!).

كُنتُ منبهرًا بالعمل الموسوعي الذي قام به المؤلف، والآن زادت قناعتي بعظمة عمل الزركلي، وبخاصة وأنا أقارن ما توفر اليوم للباحثين، من محركات بحث، جعلت المعلومة سهلة المنال، بما كان عليه وضع الأستاذ يوم أن جمع معلومات تراجمه معلومة تلي معلومة، ووثيقة بعد صورة، حتى ظهر الكتاب بأجمل حلة، في شكله وقبل ذلك في مادته ومضمونه.

لم أكن حينها أعرف العلّامة المحقق الدكتور محمود محمد الطناحي (1935- 1999)، وإن كنت مقتنعًا، بفحوى ما قاله في كتابه (الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات)، إذ أهدى الكتاب إلى: «علم الأعلام، خير الدين الزركلي، الذي قدَّم لفن التراجم العربية يدًا سابغة في أثر باقٍ، وعمل صالحٍ يُنتَفَعُ به، رحمه الله ورضي عنه»، ثم قال: إن (الأعلام) «هو خير كتاب أُلِّفَ في بابه، بل هو خير ما كَتَبَ كاتبٌ في تراجم الرجال والنساء في هذا العصر».

ولا تحسَبَنَ مُحَقِّقًا مثل الطناحي، يمكن أن يتفوه بكلمة دون مِيزانٍ دقيق، هذا بالمجمل، فكيف وهو يتحدث في باب التراجم؟!

وما أجمل بيان الدكتور المحقق لمحاسن (الأعلام)، التي ذكر أنها كثيرة، «أبرزها:

1- الدقة البالغة في تحرير الترجمة، وإبراز أهم ملامح العَلَم المترجَم.

2- ذكر ما قد يكون من خِلاف، في الاسم، والمولد، والوفاة، ونِسبة الكُتُب، مع اتخاذ مواقف الحَسم، أو الترجيح.

3- تنقية بعض كُتُب التراجم مما عَلِقَ بها، من وهم، أو تصحيف، أو تحريف.

4- الرجوع في توثق الترجمة إلى المصادر المخطوطة، إذا عزّت المطبوعة، أو كانت الثقة بها نازلة.

5- الاستعانة بالمراجع الحَيَّة، من أهل العلم، والمنتسبين إلى مذهب المترجَم.

6- جلاء الغموض الذي يكتنف بعض الأعلام.

7- التنبيه على بعض الفوائد العلمية.

8- الإنصافُ والبُعدُ عن الهوى، وسَوْقُ الرأي الخاصّ مُلَفَّفًا في بِجاد النَّزاهة والتَّصَوُّن. وأكثر ما ترى ذلك في تراجم المعاصرين، من أهل الفكر والأدب والسياسة.

9- الإحالة الذكيّة بعد الفراغ من الترجمة إلى أصول المصادر والمراجع.

10- ذكر نفائس المخطوطات ونوادرها، التي رآها في رحلاته وأسفاره. وكذلك التي أطلعه عليها أصدقاؤه، وفي مقدّمتهم السيد أحمد عبيد، بدمشق، وما أكثر ما أشار إليه في تعليقاته.

11- إثبات صور خطوط العلماء قديمًا وحديثًا. وهذا يفيد في توثيق تلك المخطوطات التي يقال إنها بخطوط مؤلِّفيها. فعن طريق مضاهاة ما بيدك منها بما أثبتَه من تلك النماذج للخطوط، يظهر لك وجه الصواب، أو الخطأ. ويتصل بذلك إثباتُه لتوقيعات الخلفاء والملوك والأمراء والوزراء وصُوَر المُحدَثين من المعاصرين، ومَن قرُب منهم، ممن أدركهم فنُّ التصوير الفوتوغرافي.

12- وقد زان ذلك كلَّه حسنُ البيان، وصفاءُ العبارة. فالرجل، رحمه الله، كان أديبًا شاعرًا. وقد كان الأدب وما زال، خيرَ سبيل لإِيصال المعرفة، وسرعة انصبابها إلى السَّمع، واستيلائها على النفس. والبليغ يضع لسانَه حيث أراد. وإنك لتجد كثيرًا من الدراسات قد جمعت فأوعت، لكنّها لم تبلغ مبلغَها من النفع والفائدة؛ لجفافها وعُسْرِها. أمّا ما وراء ذلك من حُلو الشَّمائل، وكرم الطبع، ونقاء الخُلُق، فهو ممَّا لَهِجَ به الخاصَّة والعامّة، ممن اتَّصلوا بالرجل، بسبَبٍ من الأسباب».

ثم يختم الطناحي حديثه الثري عن أعلام الزركلي، بخلاصة القول: «إن هذا الكتاب أبلَغُ ردٍّ على من يزعُم أن العرب المعاصرين لم يصنعوا شيئا ذا بال، في تاريخ رجالهم وأعلامهم. وأنه لا ينبغي أن تخلو مكتبة طالب علم من هذا الكتاب. وليت الذين يطبعون الكتُبَ احتسابًا وقُرْبَى، يدّخرون لأنفسهم عملًا صالحًا بطبع هذا الأثر الباقي، وتمكين من لا يقدر على شرائه مِن قراءته والانتفاع به».

إِذا أَنتَ لَم تُنصِف أَخاكَ وَجَدتَهُ

عَلى طَرَفِ الهِجرانِ إِن كانَ يَعقِلُ

وَيَركَبُ حَدَّ السَيفِ مِن أَن تَضيمَهُ

إِذا لَم يَكُن عَن شَفرَةِ السَيفِ مَزحَلُ

والحق أن الطناحي، أنصف الزركلي، رحمهما الله، وأنصف كتاب (الأعلام)، وقال فيهما كلمة حق، وهذا منهج العلماء، ولا عجبَ فقد أخبرنا الله تعالى عنهم لقوة إيمانهم بربهم؛ ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾.

بمرورِ الوقتِ، اطّلعتُ على كتب الزِّرِكليِّ، وتنبّهتُ إلى كونه لم يكن يكتُبُ في تراجُمه حكاياتِ أعلامِ الفن والأدب والعلم والسياسة فحسبُ، وإنَما كان يكتب أيضًا حكايتَه هو، التي كان لها الأثرُ الطيّبُ في حياتنا الثقافية والسياسية العربية، واستحقّ بها أن تكون له علينا حقوقٌ ثلاثةٌ: حقُّ الاعتراف بخدمته الثقافةَ العربيةَ في المَجَالات التي خصّها بكتبه، وحقُّ تثمين إبداعه الشعريِّ الذي أهمله القارئ العربي على ما فيه من جودةٍ في الصَّوْغِ ووجاهةٍ في المضامين، وحقُّ تقدير جهوده الدبلوماسية، وحُسن تمثيله بلاده، المملكة العربية السعودية، في المحافل الإقليمية والدولية.

الفارِسُ في مَيْدانِه

منذ نعومة أضفاره، ولا أقول منذ شَبَّ عن الطوق، ظهرت علامات النباهة والتفوق والذكاء على الفتى، فقال الشعر في صباه، ولَمَّا أدى امتحان (القسم العلمي) في المدرسة الهاشمية بنجاح، أصبح مُدَرِّسًا فيها، ولك أن تقول: إن ألمعية الشاب جعلته أستاذًا لزملائه. وقبل أن يبلغ العشرين عامًا من العمر، أصدر بدمشق مجلة أسبوعية لافتة، اسمها (الأصمعي)، فصادرتها الحكومة العثمانية، إذ أحسَّت بنَزعتها العربية. وفي أول العشرينات من عمره، التحق الزركلي بالكلية العلمانية (لاييك) تلميذًا في دراساتها الفرنسية، ثم أستاذًا للتاريخ والأدب العربي فيها. ثم عاد إلى دمشق في بدايات الحرب العالمية الأولى، وأصدر مع صديق له، بعد الحرب في العام 1918، جريدة (لسان العرب) اليومية، وأُقفلت الجريدة. عاد بعدها وشارك في إصدار (المفيد) اليومية.

لم يدّخر الزِّرِكْلي منذ صغره وحتى وفاته بالقاهرة سنة 1976، أيَّ جهدٍ لخدمة ثقافتِه العربيةِ وبكل شكل ممكن. فكان بالحَقِّ ابنَ لحظته، وقارئَ دَلالاتِها، ومُصرِّفَ وَعْيِهِ الفكريّ والجماليِّ، في تدبير وقائعِها بما يُحقّق نهضةً حضاريّةً طال انتظارُها العربيُّ، وكان ذاك واقعًا ضمن رؤيته لوظائف المثقَّف في زمنه؛ ولعلّ في هذا ما يفرضُ على الناظرين في كُتبِه وسيرتِه، أن يأخذوا في الحسبان قُوّةَ إكراهاتِ السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية التي سادت المنطقةَ العربيةَ، خلال النصف الأول من القرن العشرين، حتّى يتبيّنوا جُرأةَ هذا المثقَّف على تحريرِ جهودِه الفكرية والأدبية من أسْرِ تلك السياقات، والتعامل مع شروطها بفلسفة وطنية عمادُها نشرُ الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي بين الناس، والإسهامُ في تنويعِ نصوص الثقافة العربية والانفتاح بها على ثقافات الآخر، وتجديدِها، والإبداعِ فيها في آنٍ.

اتّكأ الزِّرِكْلي في نشرِ الوعي بالنهوض الحضاري العربيّ، على ثلاثة عناصر: الصحافةِ، والطباعةِ بعامة، والتأليف. وقد وجد هذا المثقَّفُ في الصحافة أنْجحَ وسيلة في زمنه، وأقْدرَها على بناء رأي عامّ ثقافيّ وسياسيّ واجتماعيّ، فحشد كلَّ جهوده وإمكاناتِه لإصدار الصحف في الأقطار التي عاش فيها، حتّى يطََّلِعَ الناسُ على يجري من حولهم، وعلى ما يحدث خلفَ البحار، من مظاهر مستحدثة في العيش والسلوك والتفكير. ولبلوغ هدفه، رأينا كيف كان دأبه في إصدار صحيفة بعد مجلة، خلال فتراتٍ من حياته كثيرةٍ، باذلًا في ذلك غاية وسعه، وكل وقته، ومن ذلك أنه أنشأ في فلسطين جريدة (الحياة) سنة 1931، ثمّ شارك في تحرير جريدة (الدّفاع)، مع إبراهيم طوقان، وعبدالكريم الكرمي (أبو سلمى)، وسامي السراج سنة 1934.

ولأنّ الزِّرِكلي أدرك أنّ في الخزانة العربية فراغًا، وفي أنفُسِ قرّائها حاجةً، وللعصرِ اقتضاءً، وَفْق ما جاء في مقدِّمة كتاب (الأعلام)، فإنه لم يكتفِ بإصدار الصحفِ في بيئاتِه العربيةِ، وإنّما عمل أيضًا على طباعة الكتب، سبيلاً إلى تنويع مصادر القراءة والتشجيع عليها، فأنشأ (المطبعة العربية) بالقاهرة، ونشر بها كُتبَه (ما رأيت وما سمعتُ)، و(عامان في عمّان)، و(ديوان الزّركلي)، كما نشر كتبًا حديثة مثل: (ديوان الزهاوي)، وأخرى تراثية منها (الورع) للمروزيّ، و(ذمّ الموسوسين والتحذير من الوسوسة) لابن قدامة، و(رسائل إخوان الصفا). كما حرص على توثيق مصادر ثقافتنا العربية، بجمع مخطوطاتها وتحقيقها ونشرها، على غرار مخطوطة (الإعلام بتاريخ الإسلام) لابن قاضي شهبة. وقد ضمّت مكتبتُه مخطوطاتٍ أخرى قيّمةً حرِصَ كثيرًا على البحثِ عن نفائسها في مكتبات غيرِ عربيةٍ. وأنقُلُ هنا عن الدكتور محمد رجب البيّومي من كتابه (النهضة الإسلامية في سِيَرِ أعلامها المعاصرين)، قولَ الزِّركلي: «حدث مرةً أن كنتُ في إستانبول أفتش عن كتاب خاصٍّ، فلم أعثر عليه، وفجأة رأيت صديقًا، وسألته عن الكتاب؟ فقال: إنه في بلدة تسمى (مغنيسا)، فركبت السيارة إلى (مغنيسا)، وقضيت إحدى عشرة ساعة في الطريق إليها، ولما زرت مكتبتها، وجدتها من أغنى المكتبات، لكنها دون فهارس حديثة، وإنما هي جذاذات في الأدراج، وهي تملأ اثنيْ عشر درجًا، فرحت أستعرض الدّرجَ الأولَ خلال صيف كاملٍ، وعُدت في الصيف الثاني لأقرأ مخطوطاته، وهكذا ظللت أُكْثِرُ الزيارةَ سنةً بعد سنةٍ حتى اطلعت عليها جميعًا».

وفي التأليف، يقول الزركلي في أحَدِ حواراته عن مشروعه الأضخم: «العمل في (الأعلام) يستحوذ على ليلي ونهاري، ويُغرقني في بحر من القراءة والكتابة والتأليف، لا أجد بعدَه سانحةً أتفرغ فيها لعمل آخر».

ولا شك في أنّ مثقَّفًا دأبُه جمع نفائس الكتب والمخطوطات، لن يبخلَ بها عن جمهور الباحثين والطلبة، حيث نقرأ في دراسات نُشرت حول سيرته وأعماله، أنه أهدى صورةَ مخطوطةِ كتاب (البرصان والعرجان والعميان والحولان) للجاحظ، إلى الأستاذ عبدالسلام هارون. كما أطْلَعَ صديقَه محمود محمد شاكر على مخطوطةٍ عتيقةٍ من كتاب (الغرة)، ومخطوطةِ أخرى لكتاب (برنامج شُيوخ الرُّعَيني)، الذي أحضره من المغرب، وكان قد اشتراه في مدينة سَلَا من الفقيه أبي بكر التطواني، وهو قال له: «إذا لم تفكَّ أنت رموزَه فسيبقى مُعَمَّى». كما أهدى قُبَيْل وفاته جزءًا ضخمًا من مكتبته إلى جامعة الملك سعود بالرياض؛ اعترافًا منه بجميل الدولة السعودية عليه، وخدمةً لطُلَّاب العِلم فيها.

الشّاعرُ في بَيانِه

كان الشِّعرُ أوّلَ القَطْرِ في إبداعِ الزِّرِكلي، ثمّ تلاه النّثرُ. كتب الزِّرِكلي الشعرَ في صباه، ومثّل بالنسبة إليه، وسيلتَه الممكنة للاحتجاج على تردّي ظروف بلاده الاجتماعية والسياسية، وبخاصة مظاهر المآسي الاجتماعية، بسبب غزو المستعمِر الفرنسي، فكان في قصائده صوتَ المُواطنِ الغيورِ على بلاده، المنافحِ عنها بقلمه وفكره ومشاعره، المُتَغنِّي بأمجادها، الحاملِ همومِ شعبه وأمّته، فما عرفت سوريا شاعرًا بَرًّا بوطنه، متعلقًا به على توالي المِحَنِ، مثل خير الدين الزركلي، كما يحدّثنا بذلك الباحث أحمد العلاونة، في كتابه (خير الدين الزركلي... المؤرَّخُ الأديبُ الشاعرُ صاحبُ كتاب الأعلام). ويعتبره شاعرًا حمل قيثارةَ العزاء في ليالي الوطن السُّود، وغنَّاه أبْقَى الغِنَاء وأنْقاه، فما ناب سوريا خَطْبٌ ولا أَلَمَّت بالسوريين مَلَمَّةٌ، إلا مسحَ بأطراف قلبه مواجعَ المنكوبين، ومدامعَ المعذبين، إنه شاعر لم ينِ يُحرِّضُ بني وطنه على عدم الاستكانة للمستعمِر:

يا راقدين على الهوانِ تَأهَبُوا

وتَجَلْبَبُوا الأَدْرَاعَ والأَكْفَانَا

هَذِي بلادُكُمُ تُبَاحُ ودُوْرُكُمْ

تُجْتَاحُ فَابْغُوْا غَيْرَهَا أَوْطَانَا

مَنْ خَالَ أَنَّ المَجْدَ يُدْرَكُ هَيِّنًا

فَلْيَنْتَظِرْ بَعْدَ الهَوَانِ هَوَانَا

الأكيد أنّ مثل هذا الشعر، هو ما أزعج الاستعمار الفرنسيّ، فحَكَمَ على الزركلي غيابيًّا بالإعدام وبحجز أمواله في العام 1920، وكان ذلك سببًا مباشرًا لخروجه من سوريا وترحُّله بين العواصم العربية، وقد سجّل ذلك في قوله:

نَذَرُوا دَمِي حَنَقًا عليَّ وفاتَهُمْ

أنَّ الشَّقيَّ بما لقيتُ سَعِيدُ

الله شاء لي الحياةَ وحاولوا

ما لَمْ يَشَأْ وَلِحُكْمِهِ التَّأبِيدُ

لكنَّه إثر إسهامه بدوره في العام 1925، عندما ثارت سوريا على الاحتلال الفرنسي، فأذاع الفرنسيون حكمًا غيابيًا ثانيًا بإعدام خير الدين!

والبيِّنُ في شعر الزركلي، أنه لم يخرج عن أوزان الخليل، وظلّ رغم خطاباته الوطنية، مراعيًا شروطَ الذائقة الشعرية العربية، فهو شاعر أصيل، كتب عن معاناة الوطن فأجاد وأبْكى، ونفخ في جَمْرة مُكافحة الغُزاة فأذْكَى، ووصف تعاسةَ المواطن فبرع في تحويلها إلى مشهديّةٍ تخرج من اللُّغة وتتحرّك أحداثُها في الحياة، فإذا أنت مشدودٌ إليها، بل داخلٌ إلى مسرحِها مُثَارًا بصِدْقِها ومُحْتارًا في بلاغتها، فلا تستطيع غير مواصلة الانغماس فيها بكل فكرك وجسدك. فَلْنَسْتَمِعْ إليه ينقل لنا مشهدَ الأُمِّ تُصبِّرُ ابنَها، وهما ينتظران يدًا رحيمةً تمنحهما ما يسدُّ الجوعَ:

بكَى وبكتْ فهاج بيَ البكاءُ

شجونًا ما لجذْوَتِها انطفاءُ

رَنَتْ سُعْدَى إليه وقد أَلَّمْت

بها الأحزانُ وَاشْتَدَّ البَلاءُ

بُنَيَّ رُويدَ عَذْلِكَ إِن شَجْوي

لَمِمَّا قد أحلَّ بنا القضاءُ

تَرَى أخوَيْك قد باتا وبتنا

جياعًا، لا شَرابٌ ولا غذاءُ

ويبدو لي أنّ أصْفَى ما كتبه الزِّرِكلي عاطفةً، وأصدقَه إحساسًا هو شِعرُ الحَنِين، فالرَّجُلُ تَقَلَّى كثيرًا على مِحْنة البُعدِ عن وطنٍ، كان ترك فيه أهلاً له وأحبّةً وجيرانًا، وهو أمرٌ يؤكّده الأصفهانيّ في أدب الغرباء، بقوله: «فَقْدُ الأحِبَّةِ في الأوطان غُربةٌ، فكيف إذا اجتمعت الغُربةُ وفَقدُ الأحبةِ؟». وإذْ يكتُبُ الزركلي حنينَه إلى وطنه، يُشعِرُنا بحقيقةِ أنّ الابتعاد عن الأوطان قد يكون نزولُه على الرُّوح خفيفًا إذا كان اختيارًا من المَرءِ، أما وهو هَرَبٌ من حُكم الإعدام، فإن انصبابَ الشعور به على النّفْسِ لا يكون إلاّ ثقيلًا، والتفكير فيه جارِحٌ أبَدًا لوعي الشاعر، ووعي لُغتِه معًا:

لم أَنْأَ عنكِ قِلًى ولا لِنَقِيصَةٍ

ما أنتِ إلَّا رَبْعِيَ المَحْمُودُ

ولقد هَجَرتُكِ حين حاقَ بكِ الأَذَى

ما للأُبَاةِ على الهَوانِ قُعودُ

أُقْصِيتُ عنكِ ولو ملَكْتُ أَعِنَّتِي

لم تَنْبَسِط بَيْنِي وبَينَكِ بِيدُ

ولا يتركنا الشاعر الزِّرِكْلي نغادرُ حديقةَ اغترابِه، وأنهارَ أوجاعِه، دون أن يمنحنا خلاصة تجربته في البُعْدِ عن الوطن، فيقول بمَرارةٍ عميقةٍ:

إنَّ الغريبّ مُعَذَّبٌ أبدًا

إنْ حلَّ لم يَنْعَمْ وإنْ ظَعَنَا

لَوْ مَثَّلُوا لِي مَوْطِني وثَنًا

لَهَمَمْتُ أعبُدُ ذلك الوَثَنَا

ولقد فضَّلَ الزِّرِكلي، على طريقة الشاعريْن المازني والرافعي، أن يهجر الشِّعرَ، وبيانُه في ذلك قولُه في حوار نُشر بالمجلّة العربية، سنة 1977: «إني لم أترك الشعر، بل لم يتركني هو، فما زال بيننا وصال، فأنا إلى اليوم أنْظِمُ، وأترنَّمُ بالشعر الجميل، ولكني إلى الإعراض عنه أميل، هذا الإعراض ليس وليدَ الساعة، ولكنه ذو عمر طويل، يكاد يمتد إلى خمسين سنة إلى الوراء، ولولاه ما خرجتُ للناس بكتاب (الأعلام)، ويُخيَّل إلي أني خدمت به بلادي وأمتي بمثل ما خدمتها بالشعر، لكني أرى أن نظم قصيدة واحدة يستغرق زمنًا، ويحتاج إلى تفرُّغ وخيالٍ، وابتعادٍ عن الشواغل»، وهو ما لم يتوفّر له مع كثرة المهمّات التي كان يُكلَّف بإنجازها خلال عمله بالدبلوماسية السعودية.

وإني أميلُ إلى القول إنّ رهافةَ شعرِ الحنين عند الزِّرِكلي، وما فيه من مشهديات قصصية هو ما دفع الدكتور البيّومي إلى الانتصار له، حيث عدَّه شعريًا في مرتبة شاعر النيل حافظ إبراهيم، بل إن الزِّركلي قد حلّق فوق مستوى حافظ إبراهيم في الشعر القصصي، ذلك أنّ شعرَه حارُّ العاطفة ملتهبُ الأداء، ولكنه من النمط السهل الواضح، الذي يسلم معانيه لقارئه لأول مرة، فهو إلىَ طريقة حافظ إبراهيم أقرب منه إلى طريقة شوقي، وقد نظم في الشعر القصصي ما حلّق فيه فوق مستوى حافظ، لأنه راعى التصوير الفني، ولم يأت بالحادث عارياً عن الإيحاء والتلوين، كما اختار بعض الشعر الغربي فساقه مترجماً، واختياره هذا دليل حميته الوطنية، وأذكر أن قصيدة (الديدبان) التي ترجمها في نسق بياني رائع تُلقي درسًا في الوطنية الصادقة لا تبلغه عشرات الصحف الحماسية، التي يمر بها الدارس دون التفات يُنبئ عن تقديرها.

الدّبلوماسيُّ وزمانُه

باقتراحٍ من الشيخ يوسف ياسين، أحدُ مستشاري الملك المؤسِّس عبدالعزيز آل سعود، وُجِّهت دعوةٌ إلى خير الدّين الزِّرِكلي لزيارة السعودية، بعد أن ساء وَضْعُ عَمَله بالمطبعة وقرّر بيعَها. وكانت تلك الزيارة فاتحةَ عهدٍ انفتحت فيه أبوابُ المَناصبِ الحكومية أمام الزّركلي، وشهد فيه أغلبَ الوقائع السياسية العربية، بل وكان فاعلًا في بعضِ تفاصيلِها. فقد تكفّل بتمثيل الملك عبدالعزيز في مصر، فيما بين سنتيْ 1934 و1952، حيث عمل مستشارًا في الوكالة العربية السعودية بمصر، إذ لم يكن بين البلديْن تمثيل دبلوماسي، ولا توافق حول القضايا العربية بسبب خلافات سياسية سابقة (منها رفض ملك مصر حضور مؤتمر النظر في إصلاح الحجاز، الذي دعا إليه الملك عبدالعزيز سنة 1926)، وهي فترة، على صعوبة ظروفها المحلية والعربية والدولية، كشفت عن قُدرةِ الزِّرِكلي التفاوضيّة، وحرصِه على الدفاع عن الموقف السعوديّ، كما أظهرت إيمانَه بأن الشِّقاقَ بين الأشقاء لا يخدم قضاياهم الوطنيةَ، ويُضعف وحدتَهم وقُواهم أمام أعدائهم من المستعمِرين.

وفي عام 1946 كُلّف الزِّرِكلي بإدارة وزارة الخارجية في مدينة جدة، بالتناوب مع صديقه الشيخ يوسف ياسين، وتمثيل السعودية في جامعة الدول العربية. وفي هذه المدة تأسّست ملامح السياسة الخارجية السعودية، بتوجيهات من الملك عبدالعزيز، وبقيادة وزير الخارجية، الأمير (الملك) فيصل بن عبدالعزيز، وكان الزِّركلي خيرَ مُنافحٍ عن قوّةِ تلك التوجّهات، وأحدَ الذين وفّروا لها الظروف المناسبة لتنفيذها، وهو ما حدا بالدولة السعودية إلى تعيينه سنة 1951 وزيرا مفوّضًا ومندوبًا دائمًا لها في جامعة الدول العربية حتى سنة 1957. وهي السنة التي عُيّن فيها الزركلي سفيرًا للسعودية بالمغرب، وبقي في منصبه هذا حتى سنة 1963. ويذكر الباحث العلاونة أن شهرةَ الزركلي الدبلوماسية والثقافية سبقته إلى المغرب، وهناك قويت علاقتُه بالملك محمد الخامس، وتعرّف إلى كبار علماء المغرب، مثل: محمد المختار السوسي، ومحمد إبراهيم الكتاني، ومحمد المنوني، وأبي بكر التطواني. وإنّي واجد في هذا الاقتباس ما يدلّل على أنّ الزِّرِكلي قد نجح في الجمعِ الأليفِ بين السياسة والثقافة في عمله الدبلوماسيّ، ولعلّ هذا ما ميّزه عن مُجايليه من الدبلوماسيّين، وأصَّلَ لفلسفة دبلوماسية سعودية مُثقَّفة، رعاها الملك المؤسِّسُ عبدالعزيز آل سعود، رحمه الله، وشجّع عليها.

لماذا سمى الملك فيصل كتاب الزركلي عن الملك عبدالعزيز (الحبيس)؟!

كان صاحبنا يشعر بأن للملك عبدالعزيز، الذي كان يعرفه ويُكبرُه، دَيْنًا في عنقه، فهو مَن آواه وطمأنه في أوقاته الحرجة، وأنعم عليه ما هو جدير به من خيراتٍ، ويتمثّل ذاك الدَّيْن في نشر كتابٍ عنه وعن أحداث عصره. فألّف الزركلي كتابًا سمّاه (شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز)، وعرضَه على ديوان عبدالعزيز، وقد حالت ظروف عديدةٌ دون نشره منها وفاة الملك عبدالعزيز، فيقول مستذكرًا ذلك: «ويشاء الله لخير العرب، ولخير المسلمين، أن يتبوأ عرشَ عبدالعزيز تابعةُ أبنائه وحكيمُ ساسة عصره -ولا أقول هذا على سبيل الإطراء- نائبه العام في حياته، ووزير خارجيته، ولسانه الناطق في محافل السياسة الدولية، بأعباء الملك، ابنه فيصل، أعز الله به الإسلام والعروبة». ويزيد بأنه صادف أن دخل مجلس الملك فيصل ووجد نفسَه بين يدي جلالته، فإذا الملك يسأله مبتسمًا: «ما صنع الله بالحبيس؟»، ويعني كتاب الزركلي عن الملك الراحل عبدالعزيز، فيقول الزركلي: «وتمتمت متسائلاً: الحبيس؟ فأسعَفَنِي قائلاً: مضى عليه ما يقارب خمسة عشر عامًا. وبرقت أساريرُ وجهي، حين أدركت أنه يسأل عما صنع الله في الكتاب. وكدت أقولُ: الله أنت ما أبَرَّكَ بأبيكَ. فقلتُ: ينتظر أن تأمُرَ بإخلاء سبيله. قال: حان وقته». وعلى إثر ذلك بادر الزركلي على الفور بإعادة النظر في الكتاب، لتحقيق ما كان منه بحاجة إلى تحديث، وما هو بحاجة إلى تثبيت، ثم قدّمه للطبع، فطُبِع.

وليس أدلّ على صفاء التواصل بين الملك فيصل وخيرالدّين والزّركلي، من تلك الحكاية التي أوردها أحمد العلاونة، وجاء فيها أنّ الزِّركلي لمَّا دُعيَ إلى الرياض سنة 1963، طلب من الملك فيصل بن عبدالعزيز إحالته إلى التقاعد، وقال له مازحًا: «أنا أكبر منك يا فيصل، أحيلوني إلى التقاعد حتى أستريح»، فأجابه الملك فيصل: «سأعتصرك لآخر قطرة فيك»، فطلب منه الزركلي الاعتكاف لتدقيق كتابه عن الملك عبدالعزيز. فمُنِحَ إجازةً غيرَ محددة، واختار الإقامة في بيروت، وأُعْطِيَ شُقةً مطلةً على البحر، وسيارةً وسائقًا، وطابعةً، وخادمةً، لأن أولاده كانوا بعيدين عنه في القاهرة.

في نوفمبر 1976، ودَّع الراحل الكبير خير الدين الزركلي دنيانا، ورحل إلى جوار ربه في القاهرة، وغادر الحياة عَلَمُ توثيق الأعلام، تاركًا إرثًا ثريًا، وذِكرًا زكيًا، فرحمه الله رحمة واسعة.

إنّ الاعتراف بجهود الزِّرِكلي الثقافية والإبداعية والدبلوماسية، بدا لي ضئيلًا في مجال الدراسات الفكرية والثقافية مقارنةً بحَجْم إبداعِه، وهذا ما أشار إليه الدكتور محمد رجب البيّومي في ترجمة هذا المثقف العربيّ الكبير، حيث ذكر أنّ تناسيه في محافلنا الفكرية والثقافية العربية «لا يرجع إلى الجهل وحده، قَدْرَ ما يرجع إلى الجحود المُنكِر، وليس خير الدين بالرجل الخامل، فإذا جاز لبعض المتأدبين اليوم أن يجهلوا شعرَه الرائعَ، ومواقفَه السياسية الباسلةَ، فكيف يجوز لهم أن يجهلوا مؤلِّفَ الأعلام، والأعلام موسوعةٌ تاريخية حافلة، لا يجهلُها باحثٌ عن العرب والمسلمين في الشرق والغرب، وقد أخذتْ عن جدارة مكانَها النابهَ بين المراجع التاريخية، وأصبحت موردًا يخفُّ إليه المُنقِّبون عن حيوات الرجال من اللامعين والمجهولين معًا!».

أرق شعر الزركلي

قصيدة الزركلي التي أسماها (نجوى)، هي من أرق شعره، وأكثره عذوبة، مع أن شعره عذبٌ كُلّه، وفيها يُبدع في تصوير جوى الافتراق القسري... ويبدأ بتصوير حالة العين، فبعد فراق الوطن لم تألف ما تشاهد من وجوه وأحداث، كما أنها لم تألف سكنًا بعد الوطن، يكاد الدمع يُغرقها، والهم يقلقها فالنعاس لا يجد لها طريقًا. لم تكن العين سلبية في نظرها للأشياء، فلا تتهموها بالسلبية، إذ كانت ترى الفرصة في أنصاف الفرص، والسانحة في جزء منه، لكنها اليوم لا ترى شيئًا حسنًا. أما القلب فلولا أنينه لما عرفناه، ولساورتنا الشكوك في كنهه. فيا ليت الأحبة الذين فارقناهم في أرض الوطن، يعرفون على البعد ما ألاقيه من آلام فراقهم ذلك الذي لم أظنني سأعيشه إلا إذا فارقت روحي جسدي. وتتجدد مشاهد الذكرى فتنكأ الجرح، وتدمي القلب، وأغالب دمعي الذي يغلبني، بحال الغريب الذي لا تفتأ عذاباته عن التجدد...

العينُ بعدَ فِراقها الوَطَنا

لا ساكِنًا ألِفَت ولا سَكَنا

رَيَّانةٌ بالدَّمع أقلقَها

ألا تُحسَّ كرًى ولا وَسَنا

كانت تَرى في كلِّ سانحةٍ

حُسنًا وباتَت لا تَرى حَسَنا

والقلبُ لولا أنَّةٌ صَعِدَت

أنكَرتُه وشَكَكتُ فيه أنا

ليتَ الذينَ أحبُّهم علِموا

وهمُ هنالكَ ما لقيتُ هنا

ما كنتُ أحسَبُني مُفارقَهم

حتَّى تفارقَ روحيَ البدنا

يا طائرًا غنَّى على غُصُنٍ

والنيلُ يسقي ذلكَ الغُصُنا

زِدني وهِج ما شئتَ من شَجَني

إن كنتَ مثلي تعرفُ الشَّجَنا

أذكَرتَني ما لستُ ناسِيَه

ولرُبَّ ذكرى جدَّدَت حَزَنا

أذكَرتَني بَرَدى ووادِيَه

والطَّيرَ آحادًا به وثُنى

وأحبَّةً أسرَرتُ من كَلَفي

وهَوايَ فيهِم لاعِجًا كَمَنا

كم ذا أُغالبُه ويغلِبُني

دَمعٌ إذا كَفكَفتُه هَتَنا

لي ذكرياتٌ في رُبوعِهُمُ

هُنَّ الحياةُ تألُّقًا وسَنا

إنَّ الغريبَ معذَّبٌ أبدًا

إن حلَّ لم ينعَم وإن ظَعَنا

كتاب (الوَجيز في سِيرَة الملك عَبد العزيز): وهو من المصادر المهمّة لمعرفة تاريخ الملك عبد العزيز وتاريخ المملكة العربية السعودية في عهده

كتاب (الأعلام)، وهو قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين

كتاب (ما رأيت وما سمعت)، سجّل فيه أحداث رحلته من دمشق إلى فلسطين فمصر فالحجاز

كتاب (عامان في عمّان)، مذكرات الزركلي أثناء إقامته في عمّان

كتاب (شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز)

ديوان الزركلي