كتاب ومقالات

الموارد لا تصنع أمناً

محمد مفتي

عند تأسيس المملكة على يد المغفور له بإذن الله الملك عبدالعزيز كانت الكثير من القطاعات تفتقر للبنى التحتية والمرافق الكافية، بما فيها القطاعات الأساسية كقطاع النقل والقطاع الصحي والقطاع التعليمي، وقد كان التعليم وقتذاك متواضعاً ولم تكن بالمملكة حتى جامعة واحدة، كما أن المناطق العمرانية كانت نائية متباعدة عن بعضها البعض ولا تربطها شبكة نقل ومواصلات كافية، كما أن عدد المستشفيات كان محدوداً بخلاف افتقارها للكثير من المقومات الأساسية كالأجهزة الطبية المتطورة والكوادر الكفء المؤهلة.

وخلال بضعة عقود تمكّنت المملكة من صنع حضارة لافتة فاقت تلك التي بنتها بعض الدول خلال قرون طويلة من الزمن، فقد انطلقت مسيرة التنمية العمرانية والتطور الحضاري بها على قدم وساق، وبدأ تشييد البنية التحتية والمرافق الأساسية في كافة أرجاء المملكة، وقد تم إنشاء عشرات الألوف من المدارس لكافة المراحل التعليمية في جميع مدن وقرى المملكة، وغدا التعليم المجاني متاحاً للجميع وهو ما أسهم لاحقاً في أن تتوسع المملكة في التعليم الجامعي حتى وصل عدد الجامعات بالسعودية لما يقارب الثلاثين جامعة، كما حرصت الدولة على ابتعاث مواطنيها للدول المتقدمة بما فيها الدول العظمى ليساهموا في بناء وطنهم.

كما حرصت الدولة على إنشاء شبكة طرق ومواصلات حديثة ومتطورة -برية وجوية- لتغطي مساحة المملكة الشاسعة، وقد بدأت المملكة مؤخراً في تدشين مشروعات النقل الجماعي وتعميمه في مناطق عدة، كما شهد كذلك القطاع الصحي طفرات عديدة انعكست في زيادة ملموسة في أعداد المستشفيات العامة والمتخصصة، وفي زيادة عدد الأطباء المهرة وطواقم الإسعاف والتمريض المجهزة بأحدث ما وصل له القطاع الطبي العالمي.

يرى البعض أن ما وصلت إليه المملكة من تقدم لافت في كافة القطاعات وفي فترة قياسية يعزى لامتلاكها موارد ثرية من النفط، وهذا صحيح بطبيعة الحال، غير أن الأمر يحتاج لبعض التفصيل، فهناك دول كثيرة تمتلك نفس موارد المملكة من الثروات الطبيعية كالنفط وغيره غير أن شعوبها تعاني من انخفاض في مستوى المعيشة وانهيار في البنى التحتية، كما تعاني من الحروب والصراعات الداخلية والحروب الأهلية.

من المؤكد أن توفر الموارد الطبيعية أمر مهم في مسيرة تطور أي دولة، فالموارد السخية توفر للدولة دخلاً كافياً للإنفاق على بنيتها التحتية ومرافقها الأساسية، غير أن الكثير من الدول ذات الموارد الثرية والمتنوعة يقع بعضها ضحية لزعماء أنانيين طامعين، يهدرون مواردها في نزوات سياسية حمقاء تكلفهم أضعاف ما يمتلكونه من موارد، وعندما تكون السلطة السياسية ضعيفة يتفكك النظام الحاكم ويمهد الطريق لدول أخرى لاحتلالها واستغلال مواردها الطبيعية.

لقد أنعم الله عز وجل على المملكة العربية السعودية بالكثير من الموارد والخيرات الطبيعية، وقد أحسن قادتها استغلال هذه الموارد لما فيه الخير لشعبها، وقد أدرك ولي العهد الأمير الشاب محمد بن سلمان أن الاعتماد على عنصر واحد -وهو النفط- في تنشيط القطاع الاقتصادي يعرّض اقتصادها للتذبذب ولا يسهم في تأسيس اقتصاد قوي مستدام، لكون النفط مورداً ناضباً وفي طريقه للانتهاء يوماً ما، وهو ما يعني أن على المملكة بناء اقتصاد قوي ومتين لا يركن لهزات السوق وتذبذباته ولا يعتمد على مورد غير متجدد.

توافر الموارد الاقتصادية وحدها إذن لا يصنع حضارة ولا يؤسس دولة قوية ولا يحقق الأمن، فإدارة الدول تتطلب حكمة وبصيرة كافية، ولابد أن تتمتع الدول القوية بالأمن الكافي الذي يحمي مواردها وشعبها ويؤمّن تطورها الاقتصادي، ولعل أهم ميزة تتصف بها المملكة ودول الخليج هي استتباب الأمن بها وشيوع الاستقرار في كافة أرجائها، ولا شك أن هذه الميزة تحديداً هي من تسهم في تطور اقتصادها ولاسيما ما يتعلق بالقطاع السياحي والاستثماري، فهناك العديد من الدول السياحية بامتياز غير أن شعوب العالم تخشى السفر إليها لانعدام الأمن فيها، وكذلك ينعكس تمتع المملكة بالاستقرار على اجتذاب رؤوس الأموال، فالمستثمرون لا يودعون أموالهم في دول يتّسم مناخها بالاضطراب وعدم الاستقرار.

في ظل الانفلات الأمني الذي تعانيه العديد من الدول العربية في وقتنا الحالي يعتقد البعض أن الرخاء الاقتصادي الذي تنعم به دول الخليج هو سبب تمتعها بالأمن، غير أن الحقيقة هي أن القيادة الحكيمة هي من تصنع الأمن لمواطنيها وهو ما ينعكس لاحقاً على تطوير قطاعات أخرى بها ويصب في نهاية المطاف في مسيرة تطورها وراحة شعبها، فالموارد وحدها لا تصنع أمناً ولا تقدماً ولا حضارة، وإنما هي القيادة الحكيمة التي تحسن استغلال هذه الموارد.