صالح علي باصرة.. دور ريادي تنويري ومسيرة حافلة بالعطاء
الاثنين / 16 / شعبان / 1445 هـ الاثنين 26 فبراير 2024 03:29
بقلم: د. عبدالله المدني
قليل من الناس من يجعل تاريخ وتجارب الشعوب منهجاً ونبراساً لرسم خارطة التحول السياسي والفكري والثقافي، متخذاً من الحاضر الآني الذي لا يستطيع التحكم فيه إلا بالجزء الممكن كمنطلق لصنع ملامح المستقبل. بهذه الكلمات بدأت صحيفة «اليوم الثامن» اليمنية حديثها عن رجل يعد من الشخصيات اليمنية المتنورة البارزة التي لعبت دوراً في تاريخ بلادها الحديث والمعاصر، وهو المؤرخ والأكاديمي والوزير الراحل «صالح علي عمر باصرة» المولود بمدينة المكلا في حضرموت في 8 يناير 1952، والمتوفى في العشرين من نوفمبر من عام 2018 بالعاصمة الأردنية، عمّان، حيث كان يخضع للعلاج من مرض عضال.
وهكذا قدّر للرجل أن يرحل عن الدنيا بعيداً عن وطنه الذي كتب عنه كثيراً وعمل من أجل استقراره طويلاً دون أن يتمكن من تضميد جراحاته ووضع حد لانقساماته القبلية وعبثه السياسي. فقد كان من أبرز دعاة المصالحة الوطنية السلمية الشاملة، ومن ألد أعداء تقسيم اليمن إلى كانتونات، بل كان أيضاً من أشرس مقاومي الفساد بدليل التقرير المثير للجدل الذي وضعه ونشره بمشاركة زميله الوزير السابق عبدالقادر علي هلال الدبب (1962 ــ 2016) حول وجود 16 شخصية يمنية نافذة تسببت في أعمال نهب واسعة لأراضي الدولة في محافظات جنوب اليمن خلال عهد الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، ولاسيما بعد حرب صيف 1994، وهو من ظل يطالب سلطات بلاده عبر كتابة الرسائل والعرائض ورفع الدعاوى استنكاراً لتعديات وقعت من قبل ضعفاء النفوس على بعض من أبرز معالم عدن التاريخية مثل «مسجد ومقبرة جوهر» نسبة إلى الشيخ جوهر بن عبدالله المدني، والواقع في منطقة كريتر والذي يعود تاريخه إلى سنة 924 للهجرة.
وادي دوعن
وتفيد المراجع التي أطلعت عليها أن «باصرة» (بضم الصاد وتشديد الراء) من أسر السادة العلويين الذين سكنوا منذ القدم وادي دوعن، وأن تسميتهم بهذا الاسم سببها أن جداً قديماً لهم اسمه عبدالرحمن وتوفي في نهاية القرن الثامن الهجري كان يحمل دوماً صرة على ظهره يضع فيها كتبه ويتنقل بها أينما حل، وكان كلما وجد سعة من الوقت أخرج منها كتبه وأشغل وقته بالقراءة والدرس. ومما قرأت أيضاً في موقع «باصرة» الإلكتروني أن صلة هذه الأسرة لم تنقطع عن موطنها الأصلي في بلاد الحرمين الشريفين (مكة والمدينة) منذ القدم، حيث ورد في كتاب «عقد الجواهر والدرر في أخبار القرن الحادي عشر» وهو كتاب مخطوط موجود في مكتبة الشيخ عارف حكمت بالمدينة المنورة أن أحد أجداد الأسرة وهو «محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن با علوي» الشهير باسم باصرة قد توفي سنة 1003 للهجرة بمكة ودفن فيها بمقبرة المعلاة.
ومما ورد في الموقع أيضاً أن أسرة باصرة تصاهرت مع العديد من الأسر الحضرمية المعروفة مثل: آل العطاس وآل الجفري وآل الحداد وآل السقاف وآل المحضار وآل الكاف وآل باعقيل وآل الحبشي وآل حامد وآل بن شهاب وآل مقيبل وآل خرد، وأنها قدمت الكثير من المشايخ وطلبة العلم والأطباء والمهندسين ورجال الأعمال والتجار ممن عرف عنهم الاجتهاد والأمانة والمثابرة والانتشار خارج حدود بلادهم في المملكة العربية السعودية ودول الخليج وأقطار جنوب شرق آسيا مثل إندونيسيا وماليزيا.
ومن شخصيات هذه الأسرة الكثيرة الذكر في المراجع الخاصة بتاريخ حضرموت، «عمر بن أحمد بن سعيد باصرة» الذي يعتبر عميدها. وهذا ولد ونشأ في وادي دوعن وسافر إلى مصر، حيث أقام لمدة ثماني سنوات تلقى خلالها العلوم الشرعية في الأزهر الشريف وتعرّف على حضارة بلاد النيل. وبعد أن عاد إلى حضرموت عمل بالتجارة، لكنه قام أيضاً بأدوار سياسية وقتالية تمكّن من خلالها وبالتعاون مع السلطان القعيطي أن يعالج الفوضى والنعرات السائدة ويقضي على الثارات القبلية ويخضع العديد من المناطق الواحدة تلو الأخرى، ويعقد التحالفات ويصلح ذات البين.
ولد «صالح علي عمر أحمد الخمعي السيباني الحميري الحضرمي» الشهير بـ«صالح باصرة» في الثامن من يناير 1952 في حي «برع السدة» من مدينة المكلا الحضرمية المعروف اليوم بحي السلام ابناً لرجل تزوج خمس نساء وأنجب عشرة من البنين والبنات فكان ترتيبه الرابع بينهم. وكان والده المولود في وادي دوعن قد انتقل إلى المكلا واستقر بها بعد عودته من هجرته إلى السودان والحبشة والصومال إبان الحرب العالمية الثانية.
مدارس حضرموت
درس صالح المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدارس حضرموت وفق المنهج البريطاني ثم السوداني، وأكمل تعليمه الثانوي بها بنجاح وفق المنهج المصري. وكان خلال مراحل تعليمه تلك يساعد والده في تجارة المواد الغذائية ثم تجارة الأقمشة وأخيراً تجارة الأدوات الكهربائية التي استفاد منها كثيراً لجهة الإلمام بأمور التسليك وإصلاح الأجهزة الكهربائية. وكان والده إبان تلك الفترة حريصاً على تعليمه، فكان، قبل إلحاقه بالمرحلة الابتدائية سنة 1960 يعلمه في دكانه القراءة والكتابة وجدول الضرب، ويعاقبه إن أهمل أو أخطأ، ويرسله لتحصيل ديونه كي يتمرن على الحساب والقيد، ويكافئه إن أحسن عملاً بمكافآت مالية كان يصرفها على شراء الكتب والمجلات المتنوعة التي توسعت معها مداركه وإلمامه بما يجري خارج حدود بلده. إلى ذلك كان صالح في صباه وشبابه من الطلبة المنضمين إلى فرقة الكشافة المدرسية، ومن المشاركين بالحفلات الرسمية التي كانت تقام عادة في ساحة قصر السلطان القعيطي، ومن ضمن المتدربين على الإنقاذ وإطفاء الحرائق، ناهيك عن مشاركاته في الأمسيات الثقافية المدرسية وانخراطه مع المتظاهرين ضد الوجود البريطاني والمطالبين باستقلال الجنوب العربي.
غير أن مراحل حياته المبكرة شهدت الكثير من الفواجع والصدمات مثل انفصال والديه مرتين، واضطراره للانتقال والعيش في كنف جده لأمه الشيخ أحمد محمد باناجة، ثم وفاة الأخير وهو في سن السابعة، فوفاة شقيقته عائشة وشقيقه الأصغر حسن تباعاً، فوفاة جدته لأبيه التي كانت تحنو عليه وتخفف من أحزانه.
بعثة من ألمانيا الشرقيةأراد صالح أن يكمل تعليمه الجامعي بعد تخرجه من الثانوية سنة 1971 بجامعة عدن الوليدة، لكن الكوادر الطلابية التابعة لحزب الجبهة القومية الحاكم آنذاك وقفت في طريقه متذرعة بأن الأولوية للطلبة المنتمين للحزب الذين لم يكن واحداً منهم، وبعد وساطات ومخاطبات تم قبوله في عام 1972 بقسم التاريخ والجغرافيا في كلية التربية التي تخرج منها في عام 1976. بعد ذلك تمكن بمجهوده الشخصي من الحصول على بعثة دراسية من ألمانيا الشرقية لإكمال تحصيله العالي، فسافر إلى هناك ليمضي أكثر من عام في دراسة اللغة الألمانية وآدابها، استعداداً لكتابة أطروحة في التاريخ الحديث والمعاصر سعياً وراء نيل درجة الماجستير التي حصل عليها بالفعل في عام 1982 من قسم علوم أفريقيا والشرق الأوسط في جامعة لايبتزغ التي تعد واحدة من أقدم جامعات العالم وثاني أقدم جامعة في ألمانيا (تأسست في عام 1409). وبعد حصوله على درجة الماجستير بقي في ألمانيا الشرقية ساعياً وراء نيل درجة الدكتوراه في نفس التخصص، فنجح في مسعاه في العام 1986.
أعلى الشهادات
عاد باصرة إلى بلاده مكللاً بأعلى الشهادات، وبعقلية أكثر انفتاحاً مع روح وثّابة للعمل لخير اليمن وأبنائه، فالتحق أولاً بالعمل الأكاديمي بجامعة عدن كرئيس لقسم التاريخ بكلية التربية التي تخرج منها سابقاً، ثم حصل على ترقية تقلد بموجبها منصب عميد البحث العلمي والدراسات العليا، فمنصب قائم بأعمال رئيس جامعة عدن للشؤون الأكاديمية. وفي عام 1995، أي بعد عام من حرب الشمال والجنوب، تسلم منصب رئيس جامعة عدن فشغله على مدى تسع سنوات. وخلال تلك السنوات التسع أحدث الكثير من التغييرات الإيجابية في هيكل وبنية الجامعة بروح بعيدة عن التمييز المناطقي والإيديوليجي، ومنها إيصال التعليم الجامعي أفقياً إلى مناطق ريفية بعيدة ما كان ليصلها لولا جهوده، حيث استحدث كليات جديدة في أبين ولحج وشبوة مثلاً، كما أنه تجاوز نزعة الثأر والانتقام من التيار الاشتراكي والماركسي الذي لم يكن على وفاق معه خلال سنوات حكمه لجنوب اليمن، كونه كان محسوباً في شبابه المبكر على التيار البعثي. ومن آيات ذلك أنه استوعب كوادر التيار الماركسي العلمية المتخرجة من «معهد باديب للعلوم الاشتراكية»، معترفاً بشهاداتها ومتيحاً لها فرصة العمل الأكاديمي في جامعة عدن.
انتقل باصرة من جامعة عدن إلى جامعة صنعاء رئيساً لها على مدى ثلاث سنوات متواصلة، وهنا أيضاً سجلت له مواقف وطنية مشرفة بعيدة عن التمييز والمحسوبية، وملتزمة بالمعايير الأكاديمية في القبول والترقيات والانتدابات ومتوافقة مع مبدأ إتاحة الفرصة أمام كل أبناء اليمن كحق دستوري.
دخول الحكومة وزيراً
في 11 فبراير 2006 كان الرجل على موعد مع منعطف جديد في مسيرته، ففيه دخل الحكومة لأول مرة كوزير للتعليم العالي والبحث العلمي، وهي الحقيبة التي منحت له مرة أخرى في التشكيلة الوزارية الجديدة في 5 أبريل 2007. وبحكم منصبه الوزاري هذا الذي استمر لمدة سبع سنوات شارك الرجل في العديد من المؤتمرات والندوات والاجتماعات العربية والأجنبية ذات الصلة، الأمر الذي زاده خبرة وتواصلاً مع أقرانه المشتغلين في مجالات التربية والتعليم والتدريب والبحث العلمي، لكن سنواته تلك كوزير حفلت أيضاً بمشاكسات ومتاعب بسبب مقاومته لأوجه الفساد والمحسوبية وحرصه على المساواة وعدم التمييز المناطقي والجهوي في ما خص مشاريع الوزارة ومنح البعثات الخارجية.
منتدى الرشيد الفكري التاريخي الثقافي
ومن أواخر أعماله قبل رحيله قيامه بتأسيس «منتدى الرشيد الفكري التاريخي الثقافي» الذي تمحورت ندواته وأنشطته حول قضية الجنوب أرضاً وإنساناً وتاريخاً وحضارة. وصفه الكثير من مواطنيه بالشخصية الوطنية المتميزة عن غيرها لعدة أسباب منها صراحته التي أزعجت البعض، وحرصه على مصالح بلده وشعبه، ووقوفه ضد أدنى المخالفات إبان توليه مناصبه الوزارية والأكاديمية، وشجاعته في قول كلمة الحق دون أن يخاف لومة لائم، ومواقفه السياسية الواضحة حيال حل مشكلات اليمن المعقدة عبر التوافقات والإصلاحات الجادة والملموسة والإرادة السياسية الحقيقية بدلاً من عقلية الثأر والانتقام والتمييز والاستلاب. ولعل أقوى دليل على اعتزاز يمنيين كثر، سواء من السياسيين او الأكاديميين أو طلبة العلم، بهذه الشخصية ومواقفها وسجاياها هو أنهم تفاعلوا بشكل كبير مع صورة نشرت له على مواقع التواصل الإجتماعي قبل وفاته بأشهر معدودة وهو يتكئ على عكاز أمام إحدى العيادات الصحية بعدن منتظراً دوره للدخول على الطبيب.
كرمته جامعة عدن، التي أمضى في رحابها سنوات طويلة من عمره طالباً وأستاذاً وعميداً وإدارياً، فنظمت في 9 ديسمبر 2021 ندوة علمية عنه بكلية الطب والعلوم الصحية تحت عنوان «الدكتور الفقيد صالح باصرة.. رائد تنويري ومسيرة حداثية» تحت رعاية وزير التعليم العالي والبحث العلمي والتدريب المهني والفني آنذاك الدكتور خالد أحمد الوصابي، وحضور كوكبة من رجالات الفكر والسياسة والثقافة والأدب والعلم. وصفه الدكتور صبري عفيف في «اليوم الثامن» اليمنية (4/10/2022) بالإنسان العظيم والرجل القدوة وكتب عنه قائلاً: «لقد استطاع باصرة أن يحقق لقضية شعبه عبر حنكته السياسية وقراءته العميقة للتاريخ ما لم تستطع فعله أحزاب وقيادات أخرى في الساحة. إنه العقل السياسي والإداري المحنك الذي يستشرف المستقبل مستفيداً من أدوات الحاضر، ليصل إلى ما يصبو إليه».
أما الرئيس اليمني الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد فقد رثاه بقوله «لقد حزنت كثيراً لرحيله إذ تربطني بالفقيد الغالي قصة صداقة طويلة وعلاقة نضال في محطات كثيرة كان خلالها مثالاً للصديق الوفي في الزمن الصعب حيث يختبر معدن الرجال، وتصهر صلابة الشجعان، والمناضل الصادق، والسياسي الصدوق حيث امتهن كثيرون الكذب والنفاق، والمثقف والتربوي الواعي لرسالته التربوية والثقافية والحريص على خدمة الناس في كل مكان يكون فيه، وكل وظيفة تولاها». وأضاف «سنفتقدك أيها الطيب، أخاً وصديقاً، سياسياً ومثقفاً وتربوياً، وقبل كل ذلك إنساناً في منتهى النبل والشجاعة. وما أحوجنا إليك وإلى أمثالك في هذه اللحظات الصعبة من تاريخ الوطن».
شغفٌ بالتاريخ
من جهة أخرى، قادته اهتماماته الفكرية والثقافية والاجتماعية إلى الانخراط في أنشطة عدد من المنظمات المهنية والخيرية كعضو مساهم أو متطوع. إلى ذلك واصل شغفه بالتاريخ من خلال وضع العديد من المؤلفات في مجال تخصصه الأكاديمي وكتابة الأبحاث والدراسات في المجالات التاريخية والتربوية، والتي تجاوز عددها الثلاثين، ومن بينها كتابه الفريد الموسوم «تاريخ حضرموت الحديث والمعاصر» الواقع في أكثر من 500 صفحة من القطع المتوسط والذي نشره في عام 2001. ومما ذكره زميله الدكتور هشام السقاف في جريدة «الأيام» العدنية (25/4/2021) أن صاحبنا كان يقدم في سبعينات القرن العشرين من خلال تلفزيون عدن برنامجاً تاريخياً بأسلوب سهل ولغة بسيطة، الأمر الذي قربه من قلوب المشاهدين، وأخبرنا السقاف أيضاً ما مفاده أن باصرة لم يكن وقتذاك يملك جهاز تلفاز خاصاً به، فكان يشاهد حلقات برنامجه التلفزيوني في مقهى شعبي بمنطقة كريتر مع كوب من الشاي.
من المناصب التعليمية الأخرى التي دانت لباصرة قبل انتقاله إلى رحمة الله، وقوع الاختيار عليه لرئاسة مجلس أمناء «جامعة العرب» الخاصة في حضرموت التي تأسست عام 2018، حيث وافق باصرة على العمل مع الجامعة المذكورة ووضع علمه وخبرته وعلاقاته في خدمتها، مبدياً كامل استعداداته لتقديم كل ما يملك في سبيل أن تخطو الجامعة خطوات إلى الأمام وتلحق بركب الجامعات الأهلية وتكون في مقدمتها، ومقترحاً ضرورة تأسيس علاقات وروابط أكاديمية مع عدد من الجامعات في المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي وماليزيا وإندونيسيا.
وهكذا قدّر للرجل أن يرحل عن الدنيا بعيداً عن وطنه الذي كتب عنه كثيراً وعمل من أجل استقراره طويلاً دون أن يتمكن من تضميد جراحاته ووضع حد لانقساماته القبلية وعبثه السياسي. فقد كان من أبرز دعاة المصالحة الوطنية السلمية الشاملة، ومن ألد أعداء تقسيم اليمن إلى كانتونات، بل كان أيضاً من أشرس مقاومي الفساد بدليل التقرير المثير للجدل الذي وضعه ونشره بمشاركة زميله الوزير السابق عبدالقادر علي هلال الدبب (1962 ــ 2016) حول وجود 16 شخصية يمنية نافذة تسببت في أعمال نهب واسعة لأراضي الدولة في محافظات جنوب اليمن خلال عهد الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح، ولاسيما بعد حرب صيف 1994، وهو من ظل يطالب سلطات بلاده عبر كتابة الرسائل والعرائض ورفع الدعاوى استنكاراً لتعديات وقعت من قبل ضعفاء النفوس على بعض من أبرز معالم عدن التاريخية مثل «مسجد ومقبرة جوهر» نسبة إلى الشيخ جوهر بن عبدالله المدني، والواقع في منطقة كريتر والذي يعود تاريخه إلى سنة 924 للهجرة.
وادي دوعن
وتفيد المراجع التي أطلعت عليها أن «باصرة» (بضم الصاد وتشديد الراء) من أسر السادة العلويين الذين سكنوا منذ القدم وادي دوعن، وأن تسميتهم بهذا الاسم سببها أن جداً قديماً لهم اسمه عبدالرحمن وتوفي في نهاية القرن الثامن الهجري كان يحمل دوماً صرة على ظهره يضع فيها كتبه ويتنقل بها أينما حل، وكان كلما وجد سعة من الوقت أخرج منها كتبه وأشغل وقته بالقراءة والدرس. ومما قرأت أيضاً في موقع «باصرة» الإلكتروني أن صلة هذه الأسرة لم تنقطع عن موطنها الأصلي في بلاد الحرمين الشريفين (مكة والمدينة) منذ القدم، حيث ورد في كتاب «عقد الجواهر والدرر في أخبار القرن الحادي عشر» وهو كتاب مخطوط موجود في مكتبة الشيخ عارف حكمت بالمدينة المنورة أن أحد أجداد الأسرة وهو «محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن با علوي» الشهير باسم باصرة قد توفي سنة 1003 للهجرة بمكة ودفن فيها بمقبرة المعلاة.
ومما ورد في الموقع أيضاً أن أسرة باصرة تصاهرت مع العديد من الأسر الحضرمية المعروفة مثل: آل العطاس وآل الجفري وآل الحداد وآل السقاف وآل المحضار وآل الكاف وآل باعقيل وآل الحبشي وآل حامد وآل بن شهاب وآل مقيبل وآل خرد، وأنها قدمت الكثير من المشايخ وطلبة العلم والأطباء والمهندسين ورجال الأعمال والتجار ممن عرف عنهم الاجتهاد والأمانة والمثابرة والانتشار خارج حدود بلادهم في المملكة العربية السعودية ودول الخليج وأقطار جنوب شرق آسيا مثل إندونيسيا وماليزيا.
ومن شخصيات هذه الأسرة الكثيرة الذكر في المراجع الخاصة بتاريخ حضرموت، «عمر بن أحمد بن سعيد باصرة» الذي يعتبر عميدها. وهذا ولد ونشأ في وادي دوعن وسافر إلى مصر، حيث أقام لمدة ثماني سنوات تلقى خلالها العلوم الشرعية في الأزهر الشريف وتعرّف على حضارة بلاد النيل. وبعد أن عاد إلى حضرموت عمل بالتجارة، لكنه قام أيضاً بأدوار سياسية وقتالية تمكّن من خلالها وبالتعاون مع السلطان القعيطي أن يعالج الفوضى والنعرات السائدة ويقضي على الثارات القبلية ويخضع العديد من المناطق الواحدة تلو الأخرى، ويعقد التحالفات ويصلح ذات البين.
ولد «صالح علي عمر أحمد الخمعي السيباني الحميري الحضرمي» الشهير بـ«صالح باصرة» في الثامن من يناير 1952 في حي «برع السدة» من مدينة المكلا الحضرمية المعروف اليوم بحي السلام ابناً لرجل تزوج خمس نساء وأنجب عشرة من البنين والبنات فكان ترتيبه الرابع بينهم. وكان والده المولود في وادي دوعن قد انتقل إلى المكلا واستقر بها بعد عودته من هجرته إلى السودان والحبشة والصومال إبان الحرب العالمية الثانية.
مدارس حضرموت
درس صالح المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدارس حضرموت وفق المنهج البريطاني ثم السوداني، وأكمل تعليمه الثانوي بها بنجاح وفق المنهج المصري. وكان خلال مراحل تعليمه تلك يساعد والده في تجارة المواد الغذائية ثم تجارة الأقمشة وأخيراً تجارة الأدوات الكهربائية التي استفاد منها كثيراً لجهة الإلمام بأمور التسليك وإصلاح الأجهزة الكهربائية. وكان والده إبان تلك الفترة حريصاً على تعليمه، فكان، قبل إلحاقه بالمرحلة الابتدائية سنة 1960 يعلمه في دكانه القراءة والكتابة وجدول الضرب، ويعاقبه إن أهمل أو أخطأ، ويرسله لتحصيل ديونه كي يتمرن على الحساب والقيد، ويكافئه إن أحسن عملاً بمكافآت مالية كان يصرفها على شراء الكتب والمجلات المتنوعة التي توسعت معها مداركه وإلمامه بما يجري خارج حدود بلده. إلى ذلك كان صالح في صباه وشبابه من الطلبة المنضمين إلى فرقة الكشافة المدرسية، ومن المشاركين بالحفلات الرسمية التي كانت تقام عادة في ساحة قصر السلطان القعيطي، ومن ضمن المتدربين على الإنقاذ وإطفاء الحرائق، ناهيك عن مشاركاته في الأمسيات الثقافية المدرسية وانخراطه مع المتظاهرين ضد الوجود البريطاني والمطالبين باستقلال الجنوب العربي.
غير أن مراحل حياته المبكرة شهدت الكثير من الفواجع والصدمات مثل انفصال والديه مرتين، واضطراره للانتقال والعيش في كنف جده لأمه الشيخ أحمد محمد باناجة، ثم وفاة الأخير وهو في سن السابعة، فوفاة شقيقته عائشة وشقيقه الأصغر حسن تباعاً، فوفاة جدته لأبيه التي كانت تحنو عليه وتخفف من أحزانه.
بعثة من ألمانيا الشرقيةأراد صالح أن يكمل تعليمه الجامعي بعد تخرجه من الثانوية سنة 1971 بجامعة عدن الوليدة، لكن الكوادر الطلابية التابعة لحزب الجبهة القومية الحاكم آنذاك وقفت في طريقه متذرعة بأن الأولوية للطلبة المنتمين للحزب الذين لم يكن واحداً منهم، وبعد وساطات ومخاطبات تم قبوله في عام 1972 بقسم التاريخ والجغرافيا في كلية التربية التي تخرج منها في عام 1976. بعد ذلك تمكن بمجهوده الشخصي من الحصول على بعثة دراسية من ألمانيا الشرقية لإكمال تحصيله العالي، فسافر إلى هناك ليمضي أكثر من عام في دراسة اللغة الألمانية وآدابها، استعداداً لكتابة أطروحة في التاريخ الحديث والمعاصر سعياً وراء نيل درجة الماجستير التي حصل عليها بالفعل في عام 1982 من قسم علوم أفريقيا والشرق الأوسط في جامعة لايبتزغ التي تعد واحدة من أقدم جامعات العالم وثاني أقدم جامعة في ألمانيا (تأسست في عام 1409). وبعد حصوله على درجة الماجستير بقي في ألمانيا الشرقية ساعياً وراء نيل درجة الدكتوراه في نفس التخصص، فنجح في مسعاه في العام 1986.
أعلى الشهادات
عاد باصرة إلى بلاده مكللاً بأعلى الشهادات، وبعقلية أكثر انفتاحاً مع روح وثّابة للعمل لخير اليمن وأبنائه، فالتحق أولاً بالعمل الأكاديمي بجامعة عدن كرئيس لقسم التاريخ بكلية التربية التي تخرج منها سابقاً، ثم حصل على ترقية تقلد بموجبها منصب عميد البحث العلمي والدراسات العليا، فمنصب قائم بأعمال رئيس جامعة عدن للشؤون الأكاديمية. وفي عام 1995، أي بعد عام من حرب الشمال والجنوب، تسلم منصب رئيس جامعة عدن فشغله على مدى تسع سنوات. وخلال تلك السنوات التسع أحدث الكثير من التغييرات الإيجابية في هيكل وبنية الجامعة بروح بعيدة عن التمييز المناطقي والإيديوليجي، ومنها إيصال التعليم الجامعي أفقياً إلى مناطق ريفية بعيدة ما كان ليصلها لولا جهوده، حيث استحدث كليات جديدة في أبين ولحج وشبوة مثلاً، كما أنه تجاوز نزعة الثأر والانتقام من التيار الاشتراكي والماركسي الذي لم يكن على وفاق معه خلال سنوات حكمه لجنوب اليمن، كونه كان محسوباً في شبابه المبكر على التيار البعثي. ومن آيات ذلك أنه استوعب كوادر التيار الماركسي العلمية المتخرجة من «معهد باديب للعلوم الاشتراكية»، معترفاً بشهاداتها ومتيحاً لها فرصة العمل الأكاديمي في جامعة عدن.
انتقل باصرة من جامعة عدن إلى جامعة صنعاء رئيساً لها على مدى ثلاث سنوات متواصلة، وهنا أيضاً سجلت له مواقف وطنية مشرفة بعيدة عن التمييز والمحسوبية، وملتزمة بالمعايير الأكاديمية في القبول والترقيات والانتدابات ومتوافقة مع مبدأ إتاحة الفرصة أمام كل أبناء اليمن كحق دستوري.
دخول الحكومة وزيراً
في 11 فبراير 2006 كان الرجل على موعد مع منعطف جديد في مسيرته، ففيه دخل الحكومة لأول مرة كوزير للتعليم العالي والبحث العلمي، وهي الحقيبة التي منحت له مرة أخرى في التشكيلة الوزارية الجديدة في 5 أبريل 2007. وبحكم منصبه الوزاري هذا الذي استمر لمدة سبع سنوات شارك الرجل في العديد من المؤتمرات والندوات والاجتماعات العربية والأجنبية ذات الصلة، الأمر الذي زاده خبرة وتواصلاً مع أقرانه المشتغلين في مجالات التربية والتعليم والتدريب والبحث العلمي، لكن سنواته تلك كوزير حفلت أيضاً بمشاكسات ومتاعب بسبب مقاومته لأوجه الفساد والمحسوبية وحرصه على المساواة وعدم التمييز المناطقي والجهوي في ما خص مشاريع الوزارة ومنح البعثات الخارجية.
منتدى الرشيد الفكري التاريخي الثقافي
ومن أواخر أعماله قبل رحيله قيامه بتأسيس «منتدى الرشيد الفكري التاريخي الثقافي» الذي تمحورت ندواته وأنشطته حول قضية الجنوب أرضاً وإنساناً وتاريخاً وحضارة. وصفه الكثير من مواطنيه بالشخصية الوطنية المتميزة عن غيرها لعدة أسباب منها صراحته التي أزعجت البعض، وحرصه على مصالح بلده وشعبه، ووقوفه ضد أدنى المخالفات إبان توليه مناصبه الوزارية والأكاديمية، وشجاعته في قول كلمة الحق دون أن يخاف لومة لائم، ومواقفه السياسية الواضحة حيال حل مشكلات اليمن المعقدة عبر التوافقات والإصلاحات الجادة والملموسة والإرادة السياسية الحقيقية بدلاً من عقلية الثأر والانتقام والتمييز والاستلاب. ولعل أقوى دليل على اعتزاز يمنيين كثر، سواء من السياسيين او الأكاديميين أو طلبة العلم، بهذه الشخصية ومواقفها وسجاياها هو أنهم تفاعلوا بشكل كبير مع صورة نشرت له على مواقع التواصل الإجتماعي قبل وفاته بأشهر معدودة وهو يتكئ على عكاز أمام إحدى العيادات الصحية بعدن منتظراً دوره للدخول على الطبيب.
كرمته جامعة عدن، التي أمضى في رحابها سنوات طويلة من عمره طالباً وأستاذاً وعميداً وإدارياً، فنظمت في 9 ديسمبر 2021 ندوة علمية عنه بكلية الطب والعلوم الصحية تحت عنوان «الدكتور الفقيد صالح باصرة.. رائد تنويري ومسيرة حداثية» تحت رعاية وزير التعليم العالي والبحث العلمي والتدريب المهني والفني آنذاك الدكتور خالد أحمد الوصابي، وحضور كوكبة من رجالات الفكر والسياسة والثقافة والأدب والعلم. وصفه الدكتور صبري عفيف في «اليوم الثامن» اليمنية (4/10/2022) بالإنسان العظيم والرجل القدوة وكتب عنه قائلاً: «لقد استطاع باصرة أن يحقق لقضية شعبه عبر حنكته السياسية وقراءته العميقة للتاريخ ما لم تستطع فعله أحزاب وقيادات أخرى في الساحة. إنه العقل السياسي والإداري المحنك الذي يستشرف المستقبل مستفيداً من أدوات الحاضر، ليصل إلى ما يصبو إليه».
أما الرئيس اليمني الجنوبي الأسبق علي ناصر محمد فقد رثاه بقوله «لقد حزنت كثيراً لرحيله إذ تربطني بالفقيد الغالي قصة صداقة طويلة وعلاقة نضال في محطات كثيرة كان خلالها مثالاً للصديق الوفي في الزمن الصعب حيث يختبر معدن الرجال، وتصهر صلابة الشجعان، والمناضل الصادق، والسياسي الصدوق حيث امتهن كثيرون الكذب والنفاق، والمثقف والتربوي الواعي لرسالته التربوية والثقافية والحريص على خدمة الناس في كل مكان يكون فيه، وكل وظيفة تولاها». وأضاف «سنفتقدك أيها الطيب، أخاً وصديقاً، سياسياً ومثقفاً وتربوياً، وقبل كل ذلك إنساناً في منتهى النبل والشجاعة. وما أحوجنا إليك وإلى أمثالك في هذه اللحظات الصعبة من تاريخ الوطن».
شغفٌ بالتاريخ
من جهة أخرى، قادته اهتماماته الفكرية والثقافية والاجتماعية إلى الانخراط في أنشطة عدد من المنظمات المهنية والخيرية كعضو مساهم أو متطوع. إلى ذلك واصل شغفه بالتاريخ من خلال وضع العديد من المؤلفات في مجال تخصصه الأكاديمي وكتابة الأبحاث والدراسات في المجالات التاريخية والتربوية، والتي تجاوز عددها الثلاثين، ومن بينها كتابه الفريد الموسوم «تاريخ حضرموت الحديث والمعاصر» الواقع في أكثر من 500 صفحة من القطع المتوسط والذي نشره في عام 2001. ومما ذكره زميله الدكتور هشام السقاف في جريدة «الأيام» العدنية (25/4/2021) أن صاحبنا كان يقدم في سبعينات القرن العشرين من خلال تلفزيون عدن برنامجاً تاريخياً بأسلوب سهل ولغة بسيطة، الأمر الذي قربه من قلوب المشاهدين، وأخبرنا السقاف أيضاً ما مفاده أن باصرة لم يكن وقتذاك يملك جهاز تلفاز خاصاً به، فكان يشاهد حلقات برنامجه التلفزيوني في مقهى شعبي بمنطقة كريتر مع كوب من الشاي.
من المناصب التعليمية الأخرى التي دانت لباصرة قبل انتقاله إلى رحمة الله، وقوع الاختيار عليه لرئاسة مجلس أمناء «جامعة العرب» الخاصة في حضرموت التي تأسست عام 2018، حيث وافق باصرة على العمل مع الجامعة المذكورة ووضع علمه وخبرته وعلاقاته في خدمتها، مبدياً كامل استعداداته لتقديم كل ما يملك في سبيل أن تخطو الجامعة خطوات إلى الأمام وتلحق بركب الجامعات الأهلية وتكون في مقدمتها، ومقترحاً ضرورة تأسيس علاقات وروابط أكاديمية مع عدد من الجامعات في المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي وماليزيا وإندونيسيا.