أصومٌ أم «شهوات مؤجلة»؟!
الأحد / 01 / رمضان / 1445 هـ الاثنين 11 مارس 2024 00:02
نجيب يماني
ها قد أقبلت يا شهر الخير، وهلال البشر وموسم الرحمات، وفي القلب تشوّق وحنين، وطائف من حزن يرفّ بثقل الذكريات ووطأتها.
فلئن كُنت في سابق مواسمك النديّة أقف في لحظة البشرى بقدومك، وأنا على سنام المفارقة بين أمسك واليوم،
تجيش بي طوائف الذكرى والحنين، وتنعقد المقارنات عفو الخاطر بين طفولتنا في حضرتك، وصبانا في أمسياتك، وطِرّة شبابنا في ظلال رحمتك، ومُنعقد الرحمة منك في خريف عمرنا، فاليوم أقف وقلبي أكثر ثقلاً بالحزن، وأشدّ وطأة بشجيِّ الذكريات، وقد فارق دنيانا شقيقي الدكتور أيمن، ولم تمهله الأقدار حتى يبلغك، فما أشدّ الحزن عليه وما أضيق العبارة في وصف هذه اللحظة الآن، فلنا فيك يا شهر الخير ذكريات لن تنمحي، ولحظات ستظل محفورة في القلب، بما يُصعّب عليَّ اليوم أن أستقبلك دون «أيمن» في حياتنا، مكانه على مائدة رمضان أمي فارغ إلا من طيفه وفيض حنانه.
وأن أعبر لياليك دون زوراته الماتعة، وبشاشته المضيئة، وبرّه الفياض، الذي كان يجعل للأنس فيك طعماً مختلفاً، وللإفطار مذاقاً مطيباً، وللسحور قيمة مضافة برائق المؤانسة، ولطيف المواددة. لا أعرف كيف ستمر ليالي رمضان من دونك مكانك جلستك كلامك مزاحك ذكريات كثيرة سوف نفتقدها من دونك أيمن
لا أستطيع الآن أن أعبر هذه اللحظة الحزينة، إلى ما قبلها من شفيف الذكريات، كعادتي في كل المواسم السابقات، لأشير لمحاً إلى المفارقة الكبيرة بين ماضينا وحاضرنا، وعلى أي وجه كانت الحياة في رمضان، وكيف كنا نقضي سحابة يومنا فيه، وكيف كانت بداية تجربتنا للصوم، وما خالطها من مغامرات الخداع البريء، والاصطناع وتكلّف ما لا يستطاع؛ رجاء الفوز بالرضا، والعبارة الآسرة: «والله وصرت رجّال»، ومفعولها السحري في النفس الغضة والروح الصبية وهي تستعجل مرحلة «الرجولة»، وليتها أبطأت!
نعم؛ أحاول ما استطعت أن أهرب من هذه الذكريات الآن، لقرب جرحٍ دامٍ في قلبي، وعوضاً سأفتح عيني على الحاضر الآن، وأستشعر معه في داخلي وخزاً أليماً في مرآة ما خطّه الإمام أبوحامد الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» عن شهر الصيام بقوله: «اعْلَمْ أَنَّ الصَّوْمَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ صَوْمُ الْعُمُومِ وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص. وأما صَوْمُ الْعُمُومِ: فَهُوَ كَفُّ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ عَنْ قضاء الشهوة. وَأَمَّا صَوْمُ الْخُصُوصِ: فَهُوَ كَفُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ، وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ، عَنِ الْآثَامِ. وأما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الهمم الدَّنِيَّةِ، وَالْأَفْكَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَكَفُّهُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ عز وجل بالكلية، ويحصل الصوم بالفكر فيما سوى الله عزّ وجلّ واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تُراد للدين، فإنّ ذلك من زاد الآخرة وليس من الدنيا، حتى قال أرباب القلوب: (من تحرّكت همّتُهُ بالتصرّف في نهاره لتدبير ما يفطر عليه، كتب عليه خطيئة)؛ فإنّ ذلك من قلّة الوثوق بفضل الله عزّ وجلّ، وقلّة اليقين برزقه الموعود»..
ألا ما أجلّ هذه النفس التي تنزل منزلة صوم خصوص الخصوص، وتعلو بهمتها عن متطلبات الجسد الفاني إلى مراقي النفس الأبية، فتسمو بالروح في ملكوت القرب والعرفان. فهل فاتنا أن نعرف معنى صوم الخصوص، ناهيك عن صوم خصوص الخصوص..؟! وهل ضيعنا العمر في أدنى درجات الصوم، وفرّطنا في أعاليه؟
أخشى ذلك، فحين أنظر إلى الطراد المحموم وسباق التسوق للتبضع في رمضان وارتفاع معدل شراء المواد الغذائية بمختلف أنواعها يخالجني شعور مرير بأننا جعلنا الصوم مجرد «شهوات مؤجلة» فقط، نمسك أنفسنا «غصباً» من لحظة «الخيط الأبيض»، وحتى مغرب الشمس؛ إطاعة للأمر، فإذا ما علا صوت الحق بالنداء للصلاة عند المغرب، فتحنا الباب إرضاء لهذه الشهوات، ونوّعنا في الملذات، وزدنا في الطلب، وغابت عن خواطرنا المعاني المستكّنة في أضاميم «الصوم»، وموسمه الحافل بالبشريات..!
لكن ألسنا نقيم الليل بـ«التراويح»، ونعطي ما وسعتنا القدرة على العطاء، ونتباشر بالحياة قدر ما أباح الله لنا ذلك وطيب لنا الرزق فيها..؟
هكذا يتراوح بندول نفسي الآن بين الشك واليقين، الرضا والسخط، وكل متناقضات الإحساس والشعور!
أعلم علم اليقين أنّ الخير في هذه الأمة قائم إلى يوم البعث الميقون، ولا تُرمى ذمّاً بجزاف القول إطلاقاً، ولكنها هواجس نفس مضطربة وخائفة، تقف اليوم في معرض الخشية من أمسها، بأكثر من استبشارها بغدها، وطواياها ندم مقيم، وأسف عميق، ورجاء لا ينقطع، وإنها لتردد في داخلها مع مَقدم الشهر الفضيل مع الشاعر؛ وترجو ما رجاه بسائر قوله:
إذا لم يكنْ في السَّمعِ منّي تصاونٌ
وفي بَصري غضٌّ وفي منطقي صَمتُ
فحظي إذاً من صوميَ الجوعُ والظَّما
فإن قلتُ إنّي صُمْتُ يومي فما صُمتُ
فكل عام وولاة أمر الوطن في خير وعافية وكل من يعيش على هذه الأرض الطيبة.
أرجو للجميع صياماً مقبولاً وعملاً مأجوراً، وموسماً حافلاً بالخيرات.
ولا تنسونا من صالح دعواتكم.
فلئن كُنت في سابق مواسمك النديّة أقف في لحظة البشرى بقدومك، وأنا على سنام المفارقة بين أمسك واليوم،
تجيش بي طوائف الذكرى والحنين، وتنعقد المقارنات عفو الخاطر بين طفولتنا في حضرتك، وصبانا في أمسياتك، وطِرّة شبابنا في ظلال رحمتك، ومُنعقد الرحمة منك في خريف عمرنا، فاليوم أقف وقلبي أكثر ثقلاً بالحزن، وأشدّ وطأة بشجيِّ الذكريات، وقد فارق دنيانا شقيقي الدكتور أيمن، ولم تمهله الأقدار حتى يبلغك، فما أشدّ الحزن عليه وما أضيق العبارة في وصف هذه اللحظة الآن، فلنا فيك يا شهر الخير ذكريات لن تنمحي، ولحظات ستظل محفورة في القلب، بما يُصعّب عليَّ اليوم أن أستقبلك دون «أيمن» في حياتنا، مكانه على مائدة رمضان أمي فارغ إلا من طيفه وفيض حنانه.
وأن أعبر لياليك دون زوراته الماتعة، وبشاشته المضيئة، وبرّه الفياض، الذي كان يجعل للأنس فيك طعماً مختلفاً، وللإفطار مذاقاً مطيباً، وللسحور قيمة مضافة برائق المؤانسة، ولطيف المواددة. لا أعرف كيف ستمر ليالي رمضان من دونك مكانك جلستك كلامك مزاحك ذكريات كثيرة سوف نفتقدها من دونك أيمن
لا أستطيع الآن أن أعبر هذه اللحظة الحزينة، إلى ما قبلها من شفيف الذكريات، كعادتي في كل المواسم السابقات، لأشير لمحاً إلى المفارقة الكبيرة بين ماضينا وحاضرنا، وعلى أي وجه كانت الحياة في رمضان، وكيف كنا نقضي سحابة يومنا فيه، وكيف كانت بداية تجربتنا للصوم، وما خالطها من مغامرات الخداع البريء، والاصطناع وتكلّف ما لا يستطاع؛ رجاء الفوز بالرضا، والعبارة الآسرة: «والله وصرت رجّال»، ومفعولها السحري في النفس الغضة والروح الصبية وهي تستعجل مرحلة «الرجولة»، وليتها أبطأت!
نعم؛ أحاول ما استطعت أن أهرب من هذه الذكريات الآن، لقرب جرحٍ دامٍ في قلبي، وعوضاً سأفتح عيني على الحاضر الآن، وأستشعر معه في داخلي وخزاً أليماً في مرآة ما خطّه الإمام أبوحامد الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» عن شهر الصيام بقوله: «اعْلَمْ أَنَّ الصَّوْمَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ صَوْمُ الْعُمُومِ وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص. وأما صَوْمُ الْعُمُومِ: فَهُوَ كَفُّ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ عَنْ قضاء الشهوة. وَأَمَّا صَوْمُ الْخُصُوصِ: فَهُوَ كَفُّ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ، وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَسَائِرِ الْجَوَارِحِ، عَنِ الْآثَامِ. وأما صوم خصوص الخصوص: فصوم القلب عن الهمم الدَّنِيَّةِ، وَالْأَفْكَارِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَكَفُّهُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ عز وجل بالكلية، ويحصل الصوم بالفكر فيما سوى الله عزّ وجلّ واليوم الآخر، وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تُراد للدين، فإنّ ذلك من زاد الآخرة وليس من الدنيا، حتى قال أرباب القلوب: (من تحرّكت همّتُهُ بالتصرّف في نهاره لتدبير ما يفطر عليه، كتب عليه خطيئة)؛ فإنّ ذلك من قلّة الوثوق بفضل الله عزّ وجلّ، وقلّة اليقين برزقه الموعود»..
ألا ما أجلّ هذه النفس التي تنزل منزلة صوم خصوص الخصوص، وتعلو بهمتها عن متطلبات الجسد الفاني إلى مراقي النفس الأبية، فتسمو بالروح في ملكوت القرب والعرفان. فهل فاتنا أن نعرف معنى صوم الخصوص، ناهيك عن صوم خصوص الخصوص..؟! وهل ضيعنا العمر في أدنى درجات الصوم، وفرّطنا في أعاليه؟
أخشى ذلك، فحين أنظر إلى الطراد المحموم وسباق التسوق للتبضع في رمضان وارتفاع معدل شراء المواد الغذائية بمختلف أنواعها يخالجني شعور مرير بأننا جعلنا الصوم مجرد «شهوات مؤجلة» فقط، نمسك أنفسنا «غصباً» من لحظة «الخيط الأبيض»، وحتى مغرب الشمس؛ إطاعة للأمر، فإذا ما علا صوت الحق بالنداء للصلاة عند المغرب، فتحنا الباب إرضاء لهذه الشهوات، ونوّعنا في الملذات، وزدنا في الطلب، وغابت عن خواطرنا المعاني المستكّنة في أضاميم «الصوم»، وموسمه الحافل بالبشريات..!
لكن ألسنا نقيم الليل بـ«التراويح»، ونعطي ما وسعتنا القدرة على العطاء، ونتباشر بالحياة قدر ما أباح الله لنا ذلك وطيب لنا الرزق فيها..؟
هكذا يتراوح بندول نفسي الآن بين الشك واليقين، الرضا والسخط، وكل متناقضات الإحساس والشعور!
أعلم علم اليقين أنّ الخير في هذه الأمة قائم إلى يوم البعث الميقون، ولا تُرمى ذمّاً بجزاف القول إطلاقاً، ولكنها هواجس نفس مضطربة وخائفة، تقف اليوم في معرض الخشية من أمسها، بأكثر من استبشارها بغدها، وطواياها ندم مقيم، وأسف عميق، ورجاء لا ينقطع، وإنها لتردد في داخلها مع مَقدم الشهر الفضيل مع الشاعر؛ وترجو ما رجاه بسائر قوله:
إذا لم يكنْ في السَّمعِ منّي تصاونٌ
وفي بَصري غضٌّ وفي منطقي صَمتُ
فحظي إذاً من صوميَ الجوعُ والظَّما
فإن قلتُ إنّي صُمْتُ يومي فما صُمتُ
فكل عام وولاة أمر الوطن في خير وعافية وكل من يعيش على هذه الأرض الطيبة.
أرجو للجميع صياماً مقبولاً وعملاً مأجوراً، وموسماً حافلاً بالخيرات.
ولا تنسونا من صالح دعواتكم.