محمد الحراق: المسلمون يعانون من تخمة طقوسية!
عدّ العبادات التي لا تُثمِر أخلاقاً إفلاساً روحياً..
الاثنين / 01 / رمضان / 1445 هـ الاثنين 11 مارس 2024 02:02
(عرض: علي الرباعي) okaz_online@
استسهال الكذب في أصغر الأمور أدى إلى الجرائم والدماء المسفوكة
يؤكد المفكر المغربي الدكتور محمد التهامي الحراق، أن المجتمع المسلم يعاني من تخمة في «الطقوسية» لا في «الروحانية»، موضحاً أن الروحانية تشير إلى جوهر الإيمان، بما هو تصديق بالباطن، وإقرار بالمقال، وسلوك بالحال، وتعني، في ما تعنيه، ذاك التواصل الوجداني، والتماهي العميق مع الحقيقة الدينية، والذي يظهر في الوعي الديني الإيماني للمؤمن، من خلال الاعتقاد والشعائر والأخلاق، إذ ينسجم اعتقاده مع شعائره، ويثمر ذلك سلوكا مَرْضياً في أخلاقه. ولما كان الباطن غيباً، إذ هو من السرائر التي يتولاها الله سبحانه، أُمِرنا أن نحكم على الظاهر فقط. وللظاهر مجليان: مجلى تعبدي شعائري، وسلوكي أخلاقي، والتعبدي يُعتبر تُرجماناً للإيمان ومُغذياً لهُ، إذ يُعدُّ هذا المجلى لحظة مُقدسةً للتواصل مع الإله، واستكناه الروحانية من فيض الطهرانيةِ التي تتحقق في هذه اللحظة وبها. فيما يُعتبرُ المجلى السلوكي الأخلاقي هو المجلى الحَقُّ للإيمان، ومَبْداهُ في الظاهرِ، فهو يُعَدُّ مرآةَ صدقِ الباطنِ، وعلامةً على مصداقية الشعائرِ، وقبول العباداتِ، لأنها تغدو آنئذٍ مُثمرَةً أخلاقياً. والنصوص التي ترهن قبولَ الشعائِرِ والعباداتِ، بمدى إثمارها في الأخلاق والسلوك، كثيرةٌ وصريحةٌ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).
وقال عليه السلام عن عبادة الصيام: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» (صحيح البخاري).. والنصوص الواصلة بين سائر العبادات والمعاملات غزيرة، وشاع بين الناسِ أن الدين المعاملةُ، ومعلومٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء متمماً لمكارمِ الأخلاقِ، وأن صاحب الخُلُقِ الكريم يُدرِكُ عند الله مرتبةَ القائم والصائم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار» (أخرجه أحمد والحاكم)، في حين تفْقِدُ العباداتُ كل قيمة حين لا تُثمر في المتعبِّد بها قيماً وأخلاقاً، إذ يغدو صاحبُها مفلساً، كما جاء في الحديث النبوي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه ثم طرح في النار» (صحيح مسلم)، بهذا المعنى تصبحُ العباداتُ، التي لا تُثمِر أخلاقًا في سلوك المتعبِّدِ، علامةً على إفلاسٍ روحي، أو قل تُصبِحُ مجردَ طقوسٍ بلا معنى.
ولفت الحراق إلى أن الروحانية ثمرةُ الإيمان الصادق، فيما الطقوسيةُ علامة على إفلاس روحي، بما هو فقرٌ في صدق الإيمان، الروحانية روح وجوهر، فيما الطقوسية رسومٌ ومظهر.
وكشف اهتمام العقل الفقهي (فقهًا وأصولًا) بتقعيد العبادات، وضبط آليات استنباط الأحكام، إلا أنه لم يشغل نفسهُ بالبعد الروحي والجوهراني في التعبد، إذ هذا البعدُ خارجٌ عن العقل والضبط، فالعقلُ الفقهي يهتم بشروط صحة الصلاةِ مثلا، ولم يجد سبيلاً لتحصيل الخشوع، فاكتفى بالتنبيه على أهميةِ الحضور القلبي في الصلاة. هنا ظهر الروحانيون في الإسلام، أعني علماء القلوب، أي الصوفية، والذين أسسوا لعلمهم، لما رأوا سطوةَ الدنيا والمادة والحس على الآخرة والروح والمعنى، فراحوا يبحثون في ما به يمكنُ تحقيق الوصل بين الظاهر والباطن، بين الحس والمعنى، بين المظهر والجوهر، بين الكثافة واللطافة، بين عبادة الجوارح وطهارة الجوانح، فأتوا بلغةٍ ومعجمٍ وخطابٍ يختلف عن لغة ومعجم وخطاب الفقيه، لم يُلغوا العقلَ الفقهي، بل أقروا بضرورتهِ، لكنهم لم يظلوا أُسارى هذا العقل، بل تمكنوا منه ووقفوا على محدوديتهِ، فراحوا يهتمون بما قَصُرَ عن معالجته، اعتماداً على ذاتِ المصادر التي اشتغل بها وعليها هذا العقلُ، من كتاب وسنة وسير سلف صالح، فاجتهدوا في مخاطبة الروح واستثارة الأذواقِ ومعالجةِ القلوب، لتثمر العبادةُ في السلوكِ، ويَظهر صدقُ الإيمانِ في صلاحِ الأخلاقِ. ويكفي لتبين هذا الأمر،ِ الرجوع إلى كتاب «إحياء علوم الدين» للإمام أبي حامد الغزالي، وكيفيةِ تناولهِ للعباداتِ، وجمعهِ بين بيانِ أحكامها الفقهيةِ، واستكناهِ أسرارِها الباطنيةِ، والتي لا إحياء للدين بدونِ استبطانها.
ويؤكد أهمية الإيمان العميق، في عالم اليوم الذي تسيدت واستأسدت فيه الاستهلاكيةُ، وتمت عولمةُ تأليهِ الربح وتغليبِ المصلحةِ الذاتيةِ، وتسييد الفردانية،ِ واستثارةِ الغرائز، وتبضيعِ الإنسان.. على حساب قيم التراحم والتضامن والتساكن والإيثار، كوننا نعيشُ عودةً للدين بما هو طقوسية، لا للدين بما هو معنى إيماني عميق، والأدلةُ على ذلكَ أكبرُ من أن تعد أو تحصى، يكفي أن نطرحَ أسئلةً بسيطة هذه بعضُها: لماذا يضعف الصائم في نهاره وليله عند مواجهة الغيبة والنميمة، وما سبب انهزامية كثير من المُصلينَ أمام إغراءِ الرشوة؟ وما مسببات ضعف وازع ضمير الدين عن منعِ الكثيرين من الكذبِ؟ وكيف انتشرت أدواءُ الغش والنفاقِ، والأنانيةِ والحسدِ، وحب المالِ والتعلقِ الجنوني بالجاهِ، والرياسةِ والجهر بالسوء من القول، وسوءِ الظن والسكوت على الحقِّ، واستعظام معاصي الغير، واستصغارِ زلات الذاتِ، واسترخاص دم الغير.. إلخ، بين جم غير قليل ممن يرتادونَ المساجِدَ، ويُواظبونَ على إظهارِ التعبد والصلاحِ؟ وأيّ الأسباب رسّخت التعايش في دخيلةِ «المؤمنِ»، رسومُ الشعائرِ وتواري الأخلاق؟
وكيفَ صارتِ الشعائرُ ومظاهر التعبد ذات دلالات اجتماعيةٍ، وسيمائية سياسويةٍ، حجبتْ المعاني الروحية التي من أجلها فُرضت تلك الشعائر والعبادات؟ (انظر مثلاً أبعاد التباهي الاجتماعي التي تتخذها عبادات، مثل الزكاة أو الحج أو عيد الأضحى.. إلخ، والتي تطغى في الغالبِ على أبعادها الروحية).
ويعزو كل ذلك إلى الطقوسية، التي يعجزُ الخطابُ الوعظي السائدُ عن إحلالِ الروحانيةِ محلها، مثلما صارَ الخطاب الصوفي الطرائقي أيضاً، مصابًا بذاتِ العجز والقصور، رغم ما يبدو من إقبالٍ جماهيري وإعلامي على هذا أو ذاك. إلا أنه إقبالٌ على الرسومِ والأشكال، أكثر من أن يكونَ تحققًا بمكارم القيم والأخلاقِ التي يكتنزها الدينُ، وتحتاجُ إليها الإنسانية اليومَ بإلحاح.
ويستدل الحراق على ذلكَ بشُيوع الإفلاس الروحيِّ، بدءًا من استسهالِ الكذبِ في أصغر الأمورِ، إلى الجرائم والدماء المسفوكة والمسفوحةِ اليوم باسم الدين نفسه.
ودعا لضرورة تجديد الخطابِ الديني، بما يُعيد إنتاج المعنى الروحي، لا بما يُكرِّسُ التدينَ الطُقوسي، مشيراً إلى أنه ليس ضدَّ الشعائر والطقوس الدينيةِ، بل ضد أن تصبحَ أشكالاً عقيمةً، فيما وظيفتها إثمارُ المعنى بشكل متجددٍ في القلوب والسلوك. وقال: نحتاجُ إلى تجديدٍ ينتجُ معنى روحياً، يكفلهُ العقلُ المنفتحُ على كل أبعاد الإنسان، مثلما يَكفلهُ خطابٌ روحي تنويري كونيٌ، يعي حدودَ العقل الفقهي مقارنةً مع كونية الروحانيةِ، التي يكتنزُها القرآن الكريمُ وتُشعُ بها سيرةُ المصطفى صلى الله عليه وسلم، تلك المدرسةُ الجامعةُ بين بلاغةِ المقالِ، وقرآنيةِ السلوكِ، وربانيةِ الأحوال، وكونية الرحمة. كما نحتاجُ، إلى نقد خطاباتنا الدينية لمعرفةِ مواقع قصورها عن تفجير هذه الروحانية في حياتنا الدينية، وتحريرنا من نير الطقوسيةِ في الخطاب، والتعبد، واللباسِ، والتدينِ بوجهٍ عام.
وعلل داء المسلمين بالطقوسية، إذ تحضر رسومُ الدينِ مع فقر في المعنى، وغيابٍ للتحلي بمكارم الأخلاق، لتغدو أزمتنا أخلاقية لا عبادية.
العقل الفقهي لم يشغل نفسه بالبعد الروحي والجوهراني في التعبد
التباهي الاجتماعي الذي تتخذه عبادات يطغى في الغالب على أبعادها الروحية
يؤكد المفكر المغربي الدكتور محمد التهامي الحراق، أن المجتمع المسلم يعاني من تخمة في «الطقوسية» لا في «الروحانية»، موضحاً أن الروحانية تشير إلى جوهر الإيمان، بما هو تصديق بالباطن، وإقرار بالمقال، وسلوك بالحال، وتعني، في ما تعنيه، ذاك التواصل الوجداني، والتماهي العميق مع الحقيقة الدينية، والذي يظهر في الوعي الديني الإيماني للمؤمن، من خلال الاعتقاد والشعائر والأخلاق، إذ ينسجم اعتقاده مع شعائره، ويثمر ذلك سلوكا مَرْضياً في أخلاقه. ولما كان الباطن غيباً، إذ هو من السرائر التي يتولاها الله سبحانه، أُمِرنا أن نحكم على الظاهر فقط. وللظاهر مجليان: مجلى تعبدي شعائري، وسلوكي أخلاقي، والتعبدي يُعتبر تُرجماناً للإيمان ومُغذياً لهُ، إذ يُعدُّ هذا المجلى لحظة مُقدسةً للتواصل مع الإله، واستكناه الروحانية من فيض الطهرانيةِ التي تتحقق في هذه اللحظة وبها. فيما يُعتبرُ المجلى السلوكي الأخلاقي هو المجلى الحَقُّ للإيمان، ومَبْداهُ في الظاهرِ، فهو يُعَدُّ مرآةَ صدقِ الباطنِ، وعلامةً على مصداقية الشعائرِ، وقبول العباداتِ، لأنها تغدو آنئذٍ مُثمرَةً أخلاقياً. والنصوص التي ترهن قبولَ الشعائِرِ والعباداتِ، بمدى إثمارها في الأخلاق والسلوك، كثيرةٌ وصريحةٌ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ).
وقال عليه السلام عن عبادة الصيام: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» (صحيح البخاري).. والنصوص الواصلة بين سائر العبادات والمعاملات غزيرة، وشاع بين الناسِ أن الدين المعاملةُ، ومعلومٌ أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء متمماً لمكارمِ الأخلاقِ، وأن صاحب الخُلُقِ الكريم يُدرِكُ عند الله مرتبةَ القائم والصائم، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار» (أخرجه أحمد والحاكم)، في حين تفْقِدُ العباداتُ كل قيمة حين لا تُثمر في المتعبِّد بها قيماً وأخلاقاً، إذ يغدو صاحبُها مفلساً، كما جاء في الحديث النبوي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه ثم طرح في النار» (صحيح مسلم)، بهذا المعنى تصبحُ العباداتُ، التي لا تُثمِر أخلاقًا في سلوك المتعبِّدِ، علامةً على إفلاسٍ روحي، أو قل تُصبِحُ مجردَ طقوسٍ بلا معنى.
ولفت الحراق إلى أن الروحانية ثمرةُ الإيمان الصادق، فيما الطقوسيةُ علامة على إفلاس روحي، بما هو فقرٌ في صدق الإيمان، الروحانية روح وجوهر، فيما الطقوسية رسومٌ ومظهر.
وكشف اهتمام العقل الفقهي (فقهًا وأصولًا) بتقعيد العبادات، وضبط آليات استنباط الأحكام، إلا أنه لم يشغل نفسهُ بالبعد الروحي والجوهراني في التعبد، إذ هذا البعدُ خارجٌ عن العقل والضبط، فالعقلُ الفقهي يهتم بشروط صحة الصلاةِ مثلا، ولم يجد سبيلاً لتحصيل الخشوع، فاكتفى بالتنبيه على أهميةِ الحضور القلبي في الصلاة. هنا ظهر الروحانيون في الإسلام، أعني علماء القلوب، أي الصوفية، والذين أسسوا لعلمهم، لما رأوا سطوةَ الدنيا والمادة والحس على الآخرة والروح والمعنى، فراحوا يبحثون في ما به يمكنُ تحقيق الوصل بين الظاهر والباطن، بين الحس والمعنى، بين المظهر والجوهر، بين الكثافة واللطافة، بين عبادة الجوارح وطهارة الجوانح، فأتوا بلغةٍ ومعجمٍ وخطابٍ يختلف عن لغة ومعجم وخطاب الفقيه، لم يُلغوا العقلَ الفقهي، بل أقروا بضرورتهِ، لكنهم لم يظلوا أُسارى هذا العقل، بل تمكنوا منه ووقفوا على محدوديتهِ، فراحوا يهتمون بما قَصُرَ عن معالجته، اعتماداً على ذاتِ المصادر التي اشتغل بها وعليها هذا العقلُ، من كتاب وسنة وسير سلف صالح، فاجتهدوا في مخاطبة الروح واستثارة الأذواقِ ومعالجةِ القلوب، لتثمر العبادةُ في السلوكِ، ويَظهر صدقُ الإيمانِ في صلاحِ الأخلاقِ. ويكفي لتبين هذا الأمر،ِ الرجوع إلى كتاب «إحياء علوم الدين» للإمام أبي حامد الغزالي، وكيفيةِ تناولهِ للعباداتِ، وجمعهِ بين بيانِ أحكامها الفقهيةِ، واستكناهِ أسرارِها الباطنيةِ، والتي لا إحياء للدين بدونِ استبطانها.
ويؤكد أهمية الإيمان العميق، في عالم اليوم الذي تسيدت واستأسدت فيه الاستهلاكيةُ، وتمت عولمةُ تأليهِ الربح وتغليبِ المصلحةِ الذاتيةِ، وتسييد الفردانية،ِ واستثارةِ الغرائز، وتبضيعِ الإنسان.. على حساب قيم التراحم والتضامن والتساكن والإيثار، كوننا نعيشُ عودةً للدين بما هو طقوسية، لا للدين بما هو معنى إيماني عميق، والأدلةُ على ذلكَ أكبرُ من أن تعد أو تحصى، يكفي أن نطرحَ أسئلةً بسيطة هذه بعضُها: لماذا يضعف الصائم في نهاره وليله عند مواجهة الغيبة والنميمة، وما سبب انهزامية كثير من المُصلينَ أمام إغراءِ الرشوة؟ وما مسببات ضعف وازع ضمير الدين عن منعِ الكثيرين من الكذبِ؟ وكيف انتشرت أدواءُ الغش والنفاقِ، والأنانيةِ والحسدِ، وحب المالِ والتعلقِ الجنوني بالجاهِ، والرياسةِ والجهر بالسوء من القول، وسوءِ الظن والسكوت على الحقِّ، واستعظام معاصي الغير، واستصغارِ زلات الذاتِ، واسترخاص دم الغير.. إلخ، بين جم غير قليل ممن يرتادونَ المساجِدَ، ويُواظبونَ على إظهارِ التعبد والصلاحِ؟ وأيّ الأسباب رسّخت التعايش في دخيلةِ «المؤمنِ»، رسومُ الشعائرِ وتواري الأخلاق؟
وكيفَ صارتِ الشعائرُ ومظاهر التعبد ذات دلالات اجتماعيةٍ، وسيمائية سياسويةٍ، حجبتْ المعاني الروحية التي من أجلها فُرضت تلك الشعائر والعبادات؟ (انظر مثلاً أبعاد التباهي الاجتماعي التي تتخذها عبادات، مثل الزكاة أو الحج أو عيد الأضحى.. إلخ، والتي تطغى في الغالبِ على أبعادها الروحية).
ويعزو كل ذلك إلى الطقوسية، التي يعجزُ الخطابُ الوعظي السائدُ عن إحلالِ الروحانيةِ محلها، مثلما صارَ الخطاب الصوفي الطرائقي أيضاً، مصابًا بذاتِ العجز والقصور، رغم ما يبدو من إقبالٍ جماهيري وإعلامي على هذا أو ذاك. إلا أنه إقبالٌ على الرسومِ والأشكال، أكثر من أن يكونَ تحققًا بمكارم القيم والأخلاقِ التي يكتنزها الدينُ، وتحتاجُ إليها الإنسانية اليومَ بإلحاح.
ويستدل الحراق على ذلكَ بشُيوع الإفلاس الروحيِّ، بدءًا من استسهالِ الكذبِ في أصغر الأمورِ، إلى الجرائم والدماء المسفوكة والمسفوحةِ اليوم باسم الدين نفسه.
ودعا لضرورة تجديد الخطابِ الديني، بما يُعيد إنتاج المعنى الروحي، لا بما يُكرِّسُ التدينَ الطُقوسي، مشيراً إلى أنه ليس ضدَّ الشعائر والطقوس الدينيةِ، بل ضد أن تصبحَ أشكالاً عقيمةً، فيما وظيفتها إثمارُ المعنى بشكل متجددٍ في القلوب والسلوك. وقال: نحتاجُ إلى تجديدٍ ينتجُ معنى روحياً، يكفلهُ العقلُ المنفتحُ على كل أبعاد الإنسان، مثلما يَكفلهُ خطابٌ روحي تنويري كونيٌ، يعي حدودَ العقل الفقهي مقارنةً مع كونية الروحانيةِ، التي يكتنزُها القرآن الكريمُ وتُشعُ بها سيرةُ المصطفى صلى الله عليه وسلم، تلك المدرسةُ الجامعةُ بين بلاغةِ المقالِ، وقرآنيةِ السلوكِ، وربانيةِ الأحوال، وكونية الرحمة. كما نحتاجُ، إلى نقد خطاباتنا الدينية لمعرفةِ مواقع قصورها عن تفجير هذه الروحانية في حياتنا الدينية، وتحريرنا من نير الطقوسيةِ في الخطاب، والتعبد، واللباسِ، والتدينِ بوجهٍ عام.
وعلل داء المسلمين بالطقوسية، إذ تحضر رسومُ الدينِ مع فقر في المعنى، وغيابٍ للتحلي بمكارم الأخلاق، لتغدو أزمتنا أخلاقية لا عبادية.
العقل الفقهي لم يشغل نفسه بالبعد الروحي والجوهراني في التعبد
التباهي الاجتماعي الذي تتخذه عبادات يطغى في الغالب على أبعادها الروحية