العيد.. قص ولصق !
الاثنين / 06 / شوال / 1445 هـ الاثنين 15 أبريل 2024 00:33
نجيب يماني
آخر يوم في رمضان الكل يركض على عجل في الشوارع والطرقات، طوابير على محلات الشوكولاتة والحلاوة وأرقام انتظار تصل إلى المائة وما فوق، طوابير أخرى أطول تنتظر في السوبر ماركت على الجبنة والزيتون وكأننا لا نأكلها إلا في هذه الأيام.. صوالين الكوافير والزينة مكتملة العدد حتى صباح يوم العيد، البيوت فارغة من نسائها، فكلهن بين نتف وحف وتحمير وتشقير.
عادات غريبة وسلوك بشري أعجب لم آلفه في سالف زماننا.
ويوم العيد عدت إلى داري بعد أن فرغت من صلاة العيد وأنا أحاول جاهدًا أن أضبط إيقاعي النفسي على ميقات الفرح والسرور والبهجة، كمقتضيات ضرورية لمعاني هذا اليوم في الأيام.
عجزت أن أشعر بهذا الفرح في ساحة الصلاة، فقد انفض الكثيرون في عجل، دون إلقاء التحية، وتبادل عبارات التهاني والتبريكات، فبعضهم يصافحك ويترك في سمعك عبارات لا تستشعرها في قلبك، فتمر على أذنك عابرة بتحايا مكرورة، وتهانٍ باردة، كأن صاحبها لا يعنيها، أو لا يعي معانيها في قاموس المشاعر الصادقة.
في البيت لا شيء مختلفًا عن الخارج تمامًا، ترتيبات تنتظر مهنئين محتملين، وصمت طويل، يمضي الوقت ولا أحد يدخل، ليقطع عليَّ صمتي، أو يحرر قطع الحلوى من مظاريفها، ويشعرها بقيمتها في يوم العيد.
تعود بي الذاكرة إلى أيام الصبا فأراني في معية أبي وأخي – عليهما رحمة الله – نسوق الخطى فرحًا وبشرًا نحو منبع التهليل الصادح: «الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله، الله أكبر.. الله أكبر.. ولله الحمد»، تنقضي الصلاة وكأنما الدنيا تزداد اتساعًا ذلك اليوم، وتكتسب معنى جديدًا تحسه في عيون الجميع من حولك، وهم يقبلون على والدي وعلينا بالتهاني وصادق المحبة وحين نعود إلى البيت، يبدأ أبي رحلة التطواف على دور أهله وأصدقائه ومعارفه، تجسيدًا لمعاني البرّ والرحمة وصلة الرحم، ويُوكل إليَّ مهمة استقبال الضيوف في الدار، فلا ينقطع سيل المهنئين والمباركين بالعيد، والدار مفتوحة، والباب بلا مزلاج في ذلك اليوم.
يشاركونك الفرحة وتناول الحلوى، ويتركون أثر زيارتهم الأليفة بعبارات التهاني المنمقة على دفتر في زاوية من الصالون، حتى إذا ما جاء أبي قلّب تلك الكراسة، فإذا عباراتها أصدق ما تكون، ولا يشبه بعضها بعضًا في التعبير، فتكون بذلك دينًا واجبًا بردِّ الزيارة وشيكًا.
واليوم أنا وحدي هنا، لا أحد يطرق الباب، أو يدخل محييًا، أما الكراسة فقد ناب عنها «طنين الجوال» برسائل لا تجد فيها روحًا تخصك، ولا تعبيرًا منحوتًا لأجلك، فمعظمها لم يتكلّف مرسلها سوى خاصية القص واللصق؛ (copy and paste)، والتمرير من ثمَّ بالجملة إلى زمرة المستضافين في قائمة أصدقائه، في سياق مكرور، ونقل فاتر وبارد، لعبارات محفوظة، وتعبيرات ثلجية المشاعر، تزهد في إكمالها، وتكتفي فقط بالنظر إلى مرسلها، ريثما تعود لها دورة الحياة الرتيبة بذات التقنية الكسولة.
أحسست بالضجر، خرجت إلى الشارع أتأمله، لا أحد في الجوار، سكون مطبق، فالنوم عقب صلاة العيد صار «سنّة» اجتماعية، وكأنما العيد فعل اعتيادي، ولحظة معاشة كل يومٍ حتى نبدد لحظته الحلوة بهذا النوم الطويل.
غامرت بالخروج فإذا حال الشوارع ليس بأحسن من مظهر البيوت، قليل من السيارات تمخر الشوارع مسرعة.. إلى أين؟ لا أدرى!
عدت أدراجي، قلّبت القنوات الفضائية، لا جديد، نفس الأفكار القديمة والبرامج «المعلبة» واللقاءات السمجة.. والموت الفاجع في نشرات الأخبار.. شيء يبعث على الضجر والملل والكآبة.
والحال هكذا، فلا مناص من النوم كالآخرين..
عصرًا خرجت أتفقد العيد في الطرقات، هالني صف طويل عند محل لبيع القهوة، وقفت أتأمله، ما هذا الذي يحدث، كأن البيوت خلت من القهوة أو ممن يصنعها، هل كتبوا على أنفسهم أن يصطفوا للفول في رمضان، وللقهوة في الفطر..؟ وفي الحالين تعلو أصواتهم، ويدخلون في نقاشات بينهم، ويتشاجرون على صحن فول أو كوب من القهوة، ويشتبكون بالنعال والعقال!
جلست على مقهى بالطريق، أصفّي ذهني وخاطري من كدر اللحظة، بعض الشباب في ركن قصي يديرون حوارًا حول الأحداث الرياضية، بلغة التعصّب والتتفيه، تحس أنهم سيتشاجرون لا محالة، لكن تعلو ضحكاتهم فجأة، ويغادرون المكان وقد خلفوا وراءهم رنّة من ضجيج حفظته ذاكرة المكان.
الشمس تدنو إلى المغيب الآن أو كادت تغيب، بدت مفاصل المدينة في حركة تشبه العيد في شيء، فرحة تحسّها متجهة إلى «المولات» أو دور الترفيه، تحس في داخلك بشيء من الفرح، وقد تهيأت الأماكن العامة والخاصة لاستقبالهم، ضمن «جودة الحياة».. هذه فرحة مغايرة لما كنت تحسه في صباك وباكر شبابك.. توقن في داخلك أنه من الظلم أن تحيا فرح اليوم بشروط الأمس، تحاول أن تقاوم نزعة الحنين في داخلك، فيغلبك الشجى، وتكاد تبكي لأمر لست تدركه يقينًا ولكنك تحسه في طعم «غربة الذات» التي تحياها.. وطِّنْ نفسك على هذا الواقع الجديد، وأدرك أنك مجرد «ضيف» أو «مستضاف» من الأمس، عليك أن تحسن الإصغاء لصوت اليوم، وتتعايش معه بشروطه، لا بشروطك، وأن تستشعر للعيد معنى جديدًا غير الذي ألفته في سابق أيامك.
وكل عام وأنتم بألف خير وعافية.
عادات غريبة وسلوك بشري أعجب لم آلفه في سالف زماننا.
ويوم العيد عدت إلى داري بعد أن فرغت من صلاة العيد وأنا أحاول جاهدًا أن أضبط إيقاعي النفسي على ميقات الفرح والسرور والبهجة، كمقتضيات ضرورية لمعاني هذا اليوم في الأيام.
عجزت أن أشعر بهذا الفرح في ساحة الصلاة، فقد انفض الكثيرون في عجل، دون إلقاء التحية، وتبادل عبارات التهاني والتبريكات، فبعضهم يصافحك ويترك في سمعك عبارات لا تستشعرها في قلبك، فتمر على أذنك عابرة بتحايا مكرورة، وتهانٍ باردة، كأن صاحبها لا يعنيها، أو لا يعي معانيها في قاموس المشاعر الصادقة.
في البيت لا شيء مختلفًا عن الخارج تمامًا، ترتيبات تنتظر مهنئين محتملين، وصمت طويل، يمضي الوقت ولا أحد يدخل، ليقطع عليَّ صمتي، أو يحرر قطع الحلوى من مظاريفها، ويشعرها بقيمتها في يوم العيد.
تعود بي الذاكرة إلى أيام الصبا فأراني في معية أبي وأخي – عليهما رحمة الله – نسوق الخطى فرحًا وبشرًا نحو منبع التهليل الصادح: «الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله، الله أكبر.. الله أكبر.. ولله الحمد»، تنقضي الصلاة وكأنما الدنيا تزداد اتساعًا ذلك اليوم، وتكتسب معنى جديدًا تحسه في عيون الجميع من حولك، وهم يقبلون على والدي وعلينا بالتهاني وصادق المحبة وحين نعود إلى البيت، يبدأ أبي رحلة التطواف على دور أهله وأصدقائه ومعارفه، تجسيدًا لمعاني البرّ والرحمة وصلة الرحم، ويُوكل إليَّ مهمة استقبال الضيوف في الدار، فلا ينقطع سيل المهنئين والمباركين بالعيد، والدار مفتوحة، والباب بلا مزلاج في ذلك اليوم.
يشاركونك الفرحة وتناول الحلوى، ويتركون أثر زيارتهم الأليفة بعبارات التهاني المنمقة على دفتر في زاوية من الصالون، حتى إذا ما جاء أبي قلّب تلك الكراسة، فإذا عباراتها أصدق ما تكون، ولا يشبه بعضها بعضًا في التعبير، فتكون بذلك دينًا واجبًا بردِّ الزيارة وشيكًا.
واليوم أنا وحدي هنا، لا أحد يطرق الباب، أو يدخل محييًا، أما الكراسة فقد ناب عنها «طنين الجوال» برسائل لا تجد فيها روحًا تخصك، ولا تعبيرًا منحوتًا لأجلك، فمعظمها لم يتكلّف مرسلها سوى خاصية القص واللصق؛ (copy and paste)، والتمرير من ثمَّ بالجملة إلى زمرة المستضافين في قائمة أصدقائه، في سياق مكرور، ونقل فاتر وبارد، لعبارات محفوظة، وتعبيرات ثلجية المشاعر، تزهد في إكمالها، وتكتفي فقط بالنظر إلى مرسلها، ريثما تعود لها دورة الحياة الرتيبة بذات التقنية الكسولة.
أحسست بالضجر، خرجت إلى الشارع أتأمله، لا أحد في الجوار، سكون مطبق، فالنوم عقب صلاة العيد صار «سنّة» اجتماعية، وكأنما العيد فعل اعتيادي، ولحظة معاشة كل يومٍ حتى نبدد لحظته الحلوة بهذا النوم الطويل.
غامرت بالخروج فإذا حال الشوارع ليس بأحسن من مظهر البيوت، قليل من السيارات تمخر الشوارع مسرعة.. إلى أين؟ لا أدرى!
عدت أدراجي، قلّبت القنوات الفضائية، لا جديد، نفس الأفكار القديمة والبرامج «المعلبة» واللقاءات السمجة.. والموت الفاجع في نشرات الأخبار.. شيء يبعث على الضجر والملل والكآبة.
والحال هكذا، فلا مناص من النوم كالآخرين..
عصرًا خرجت أتفقد العيد في الطرقات، هالني صف طويل عند محل لبيع القهوة، وقفت أتأمله، ما هذا الذي يحدث، كأن البيوت خلت من القهوة أو ممن يصنعها، هل كتبوا على أنفسهم أن يصطفوا للفول في رمضان، وللقهوة في الفطر..؟ وفي الحالين تعلو أصواتهم، ويدخلون في نقاشات بينهم، ويتشاجرون على صحن فول أو كوب من القهوة، ويشتبكون بالنعال والعقال!
جلست على مقهى بالطريق، أصفّي ذهني وخاطري من كدر اللحظة، بعض الشباب في ركن قصي يديرون حوارًا حول الأحداث الرياضية، بلغة التعصّب والتتفيه، تحس أنهم سيتشاجرون لا محالة، لكن تعلو ضحكاتهم فجأة، ويغادرون المكان وقد خلفوا وراءهم رنّة من ضجيج حفظته ذاكرة المكان.
الشمس تدنو إلى المغيب الآن أو كادت تغيب، بدت مفاصل المدينة في حركة تشبه العيد في شيء، فرحة تحسّها متجهة إلى «المولات» أو دور الترفيه، تحس في داخلك بشيء من الفرح، وقد تهيأت الأماكن العامة والخاصة لاستقبالهم، ضمن «جودة الحياة».. هذه فرحة مغايرة لما كنت تحسه في صباك وباكر شبابك.. توقن في داخلك أنه من الظلم أن تحيا فرح اليوم بشروط الأمس، تحاول أن تقاوم نزعة الحنين في داخلك، فيغلبك الشجى، وتكاد تبكي لأمر لست تدركه يقينًا ولكنك تحسه في طعم «غربة الذات» التي تحياها.. وطِّنْ نفسك على هذا الواقع الجديد، وأدرك أنك مجرد «ضيف» أو «مستضاف» من الأمس، عليك أن تحسن الإصغاء لصوت اليوم، وتتعايش معه بشروطه، لا بشروطك، وأن تستشعر للعيد معنى جديدًا غير الذي ألفته في سابق أيامك.
وكل عام وأنتم بألف خير وعافية.