كتاب ومقالات

سعودة التاريخ وحماية الوحدة الوطنية

علي بن محمد الرباعي

سيظل الحديث عن (الوحدة الوطنية) حيوياً، بحيوية الدول والشعوب، فالمتغيرات تفرض شروطها، وتعلي شأن بعض المُتحوّل على الثابت، وبما أن الإنسان هو غاية التشريعات والأنظمة، فإنّ لاختياراته اعتبارات، لا ينبغي إغفالها كليّةً ولا التسليم بها إطلاقاً من دون ضوابط، والمشرّع متمثلاً في النظام أو القانون أو الدولة، لن يرضي طموح كل نفس، لكنه قادر على لجمِّ الأهواء المُهددة لوحدة الوطن، ولهوى النفوس سريرةٌ لا تُعلمُ، كما قال المتنبي.

وصيانة الوحدة الوطنية، لا تكون إلا عن وعي بأهمية أعظم مكتسب حققه الملك عبدالعزيز، طيّب الله ثراه، بجمعه كل هذه المكونات الصلبة (ذات الطبيعة المُغالِبة)، وإعادته صياغة وجدانها في مختبر العفو والتسامح، والضبط والعزم والحزم، والتعامل بالأمثل مع الجميع بمن فيهم الخصوم.

ولعل (الإنسانية، ومكارم الأخلاق) من أبرز المزايا في كل مكون لأي هويّة سويّة، والميزة الإضافية للهوية الوطنية تتمثل في أنها تعزز كل ما فيك من قيم ومبادئ، وتجمع وتضم الكل تحت مظلة الحقوق والواجبات، ولا امتيازات لأي فرد أو مجموعة إلا بالفداء والعطاء.

يسألني صديق عن هُويتي، فقلتُ أنا بالفطرة إنسان، وبالمواطنة سعودي، وباللسان عربي، وبالدين مسلم، وبالثقافة كوني، وبالقبيلة غامدي، إلا أن ذروة سنام هويتي انتمائي للمملكة العربية السعودية، دون تعنصر ولا مزايدة، وعشق الأوطان ليس باللسان، فالكلام سهل، والأدعياء كُثر، والعبرة بمن يصدق بفعله لا بقوله فقط.

ربما لا يتصوّر البعض أن المبالغة باستحضار القبيلة في زمن الدولة نكسة، والقبيلة شيء لكنها ليست كل شيء، وربما يقع البعض في (عنصرية) عندما يرى أن قبيلته أفخم وأكرم، وغيرها من القبائل أي كلام، ومثلها التباهي بأن التدين الصحيح عندي، وما عداي تدين خاطئ، وكذلك المذهب، والطائفة، والجهة، ويمكن أن نفرق بين المكوّن الثقافي لجغرافيتنا وتاريخنا، وبين ما اكتسبناه لاحقاً من هويّة أسمى وأرقى وأثرى، لأنها أخرجتنا من ضيق الولاء إلى سعة الانتماء.

لا ريب أن هناك انتماءً فردياً ينمو تدريجياً من الأدنى للأعلى، ومن الأضعف للأقوى، ومن الأقلّ للأكثر، وعندما نحضر في مطار أو إدارة أو نلبي دعوة نحضر بهويتنا الوطنية التي أذابت كل المكونات في صدرها الرحب، وهذا ليس تقليلاً من شأن الحواضن الأوليّة التي لها مكانتها عند ولاة أمرنا، ورموزها أهل للتكريم، إلا أن إعلاء أي هويّة تاريخية أو تراثية على الهويّة الجامعة المانعة، مدعاة لتهديد وحدة وطننا، والدخول في مناطحات وملاسنات، لا مبرر لها، فالوطن السعودي أطعم من جوع، وأمن من خوف، وحمى من عدوان، وأعز من ذلة.

وأتساءل هنا: ماذا تعني لنا الهويّة القبليّة، لو كنا بلا دولة؟ وماذا يمكن أن تضيف دولة لمجتمعات يطغى على توجهها حسّ قبلي؟ وما سبب ارتداد البعض للوراء، والحنين لزمن ومكون ما قبل الدولة؟ وأيهما أفضل ذاك الزمن الذي كان، أم هذا الزمن الوطني؟ والأسئلة محفّزة للتأمّل، والمقارنة بمقاييس موضوعية خصوصاً أن الوحدة الوطنية تجلّت بفخامتها في محافل المنجزات وتمدن الشعب السعودي، وتفوّق الطلاب والطالبات، وتنامي إبداع المنتسبين للوطن ونافسنا باسم السعودية لا باسم القبليّة والطائفية والمذهبية، فاستدعاء هويات ما قبل الدولة فئوية وتشطير، بينما مشروع الدولة وحدوي.

لا تنفصم عُرى الهوية السعودية عن حضارة عربية وإسلامية راسخة الجذور، والدولة سلطة وتنظيم، ومركز انتساب مادي ومعنوي، وهي بنت عصرها ولها مفهومها وتعريفها الذي يحميها من فخاخ الجاهلية ومن أسلمة المتعصبين، ولو غدت أي دولة، دولة إسلام (مثلاً) لحجرت واسعاً، ولضيّقت على نفسها، إلا أن إسلامية الدول بحسب دساتيرها لا خلاف عليه ليكون الإسلام بإرثه رافداً من الروافد الشرعية للدولة خصوصاً في جانب تنظيم وضبط السلوك الاجتماعي، فهناك فرق بين دولة إسلام وبين إسلام الدولة، كما أنه لا توجد دولة قبيلة، أو دولة مذهب، وإن كان الإرث البشري يمور بالجيّد وغيره.

كل منجز لفرد هو منجز ذاتي، بينما منجز الدولة منجز جمعي، وقرار سعودة التاريخ جزء من الإصلاحات التي تعزز جذور الانتماء لهذا الكيان والسعودة شأنها شأن الإصلاح القضائي والمصفوفات القانونية، والسياسات التربوية التي تصب في خانة مدنية الدولة بعيداً عن عبطية الدعوة لدولة الإسلام أو دولة القبيلة والمذهب.

الوطن لا يصادر هوياتك الأولية من معتقد، ومذهب، وقبيلة، لكن يحقق لك (دونها) ما لا تحققه (دونه)، فالوطن مصدر أمن ورخاء وعز وتمكين، وهويّتنا هويّة طمأنينة وما عداها هويات مقلقة أحياناً ومضطربة بعض الأحيان، كما أنها مثيرة للنعرات، والبلدان التي تمسكت بالهويات الفرعية ذابت فيها الهوية الأصلية أو انشطرت.

من مزايا سعودة التاريخ ألا تكون محسوباً كليّاً على ما قبلك، ولا يأتي من يدّعي المحسوبية عليك لاحقاً ولو جزئياً.