أجمل من عطر منشم..!
الاثنين / 26 / ذو القعدة / 1445 هـ الاثنين 03 يونيو 2024 00:14
نجيب يماني
أزعم في شيء من التحفّظ أنّ موضوع العطر لم يدخل دائرة الصّراع الحضاري بين الشّرق والغرب، بشكل واضح وجَلِي، على النحو الذي استُدعيت فيه عناصر أخرى، أُقحمت في أوار الجدل، وأتون الصراع، وساحة الغلبة والمنافحة بالمقاربات والمقارنات، بحثاً عن التفوّق بالأفضلية، والاستعراض بالمزايا المستحسنات، والاستعلاء بالقيم المنيفات، والزراية في المقابل بالحطِّ من القدر، والرّمي بالجهالة والتخلّف والهمجية والبربرية.
فلو أنّ «العطر» دخل حلبة هذا الصّراع، لرجّح كفّة الشرق بلا أدنى شكٍّ، ولوضع الغرب في حرج كبير، ذلك أن الشّرق عرف العطر معرفة ترفٍ ورفاهية، ضمن طقوس متعددة الأغراض، ومتفرقة المذاهب والأغراض، على خلاف معرفة الغرب به، فلا حرج إذاً من القول بأن شهرة «الروائح الباريسية» ليست عن ترفٍ عاشته، أو رفاهية تنعّمت بها، ولكن لـ«حاجة ضرورية» ألجأتها إلى هذه «الحيلة العطرية»..
أما الشرق - فكما أسلفت - عرف العطور معرفة نعيم صدر عن «بُلهْنية» و«رفْهنية» في العيش، ولم يكن به ما بالغرب من حاجة إلى أن يخلط العطر بالكحول، بل عرفه مسكاً مفوّحاً، وكافوراً عبقاً، وعنبراً منشّراً، وخزامى بنفسجيّاً سحرها وشذاها، وغير ذلك من رائق العطور، ومطيب النّفح والعَرْف، اقرأ وصف الشاعر الجاهلي عنترة بن شدّاد، لدار تضوّعت شذًى، وفاحت بطيب روائحها:
قِف بِالدِيارِ وَصِحْ إِلى بَيداها
فَعَسى الدِيارُ تُجيبُ مَن ناداها
دارٌ يَفوحُ المِسكُ مِن عَرَصاتِها
وَالعودُ وَالنَدُّ الذَكِيُّ جَناها
فإذا كان هذا هو حال الدار، فكيف برائحة ساكنيها، وكيف كان عطر «عبلة» يا ترى؟!
إنّ هذه الديار بلا شك، أطيب من تلك التي نزل بها صاحبنا الحكيم المتنبي، على كراهة منه، فهو يقول:
نَزَلـتِ عَلـى الكَراهَةِ في مَكانٍ
بَعُـدتِ عَـنِ النُعـامى وَالشَمالِ
تُحَجَّـبُ عَنـكِ رائِحَـةُ الخُزامـى
وَتُمنَــعُ مِنــكِ أَنـداءُ الطِلالِ
أمّا إن ذهبت إلى عالم العشّاق، ودنيا المولّهين، لوجدت العطر رسول المحبة، وترجمان العشق عندهم، خذ مثلاً قيس بن الملوّح (مجنون ليلى) ألم تسمعه ينشد في وله وصبابة:
بِرَبِّـكَ هَلْ ضَمَمْتَ إِلَيْكَ لَيْلَى
قُبَيْلَ الصُّبْحِ أَوْ قَبَّلْتَ فَاهَا
وَهَـلْ رَفَّتْ عَلَيْكَ قُرُونُ لَيْلَى
رَفِيـفَ الْأُقْحُوَانَةِ فِي نَدَاهَا
فلئن كان «قيس» قد صرّح وأباح، وقارب جمالاً بين رفيف شعر ليلى وذات الرفيف من الأقحوانة في نداها، فإن صاحبنا ابن حجة الحموي قد وَرّي وألغز ورمَّز حين قال:
أرى الوردَ عِندَ الصُبحِ قَد مدَ لي فماً
يُشيرُ إلى التقبيلِ في ساعةِ اللَمسِ
وبعدَ زَوالِ الصُبحِ يبدو كَوجنَةٍ
وَقَد أثَرَت في وَسطها قُبلةُ الشَمسِ
فما تدري أكان يقصد «الورد الجوري» لذاته، أم جعله «رمزاً» لمحبوبه، في خلوص ذكيٍّ من عسف المتعنتين، وفضول الرقباء الموسوسين، وعسس المشاعر المكفهرين!
وذاكرة التراث العربي ثرية بهذه المقامات المنفوحة طيباً وشذًى وعطراً فوّاحاً، غير أنّ الأعجب من ذلك كلّه في العلاقة الخاصة للعرب بالعطر، أنّه تجاوز عندهم مفهوم ترف العيش، والطقوس الروحية والدينية على اختلافها، ليحضر حتى في طقس حروبهم، كما تشير بذلك سيرة «منشم بنت عامر»، تلك المرأة العطّارة في العصر الجاهلي، حيث كان العرب يغمسون أيديهم في ما تصنعه من الطِّيب قبل الحرب، ويتعطرون منه، ويدخلون المعركة بتلك الرائحة، فصارت دالة على الحرب، في سياق المَثل السيّار «دقوا بينهم عطر منشم»، كما صارت مصدراً للشؤم في تعبير قول القائل: «أشأم من عطر منشم»، وهي سيرة دوّنها الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته الشهيرة، بقوله:
تَــدَارَكْتُمَا عَبْسـاً وَذُبْيَـانَ بَعْـدَمَا
تَفَـانَوْا وَدَقُّـوا بَيْنَهُـمْ عِطْـرَ مَنْشِمِ
إن هذه «الذاكرة العطرية» الموغلة في القدم، والدالة على إرث حضاري، حريٌّ بها أن تكون حاضرة في حياتنا، خاصة أننا نعيش في زمن بات فيه المنتج الغربي من العطور هو سيد الساحة، والمهيمن على سوق العطارة، وهو عين ما نهض به المتحف الوطني السعودي، في فعالية معرض «عطور الشرق»، بمدينة الرياض، فهذا المعرض يمثّل أحد مستهدفات رؤية المملكة 2030، المستنهضة للتراث، والباعثة لكل إرث حضاري قادر على إبراز وجه الجزيرة العربية عامة، والسعودية خاصة، بالشكل الذي يتوافق مع تاريخها، ومجدها القديم التالد، ليظل حاضراً في الحياة، متفاعلاً معها، بصورة من صور المواكبة، بما يحقّق صيانة التاريخ، والتفاعل مع الواقع، والتطلّع للمستقبل والاستفادة القصوى من كل المكونات بما يعمّق الخصوصية، ويؤكد البصمة الفريدة التي ميزت إنسان هذه المنطقة قديماً وحديثاً..
ويكتسب هذا المعرض أهميته أيضاً من منظمه، وأعني معهد العالم العربي في باريس، فإن تعالت العاصمة الفرنسية بعطرها، فلا أقلّ من تشمّ أجواؤها وتعرف العطر الشرقي، وسحره وجاذبيته، وتتنافس أسواقها في اقتنائه..
كما أن أهمية المعرض تكمن في بعده التعريفي، بمحولات ثقافية وحضارية غاية في الأهمية، تسهم في الخروج من مثلبة «صراع الحضارات» إلى براح «تفاعل الحضارات»..
إن المعرض بهذه المفاهيم الجامعة بين عناصر الحضارة، والثقافة، والاقتصاد، يمثّل منطلقاً مهماً، وتوجّهاً نبيلاً من «الرؤية» في الاستفادة من كافة مصادر التميّز، ونفض الغبار عنها، وتشكيلها بحيث تستوعب معادلة الحياة العصرية، مع الاحتفاظ بسمتها الحضاري ومكوناتها التراثية.. وإنها لفرصة جدُّ رائعة، وسانحة عظيمة، تفتح الباب أمام رأس المال الوطني للدخول في استثمارات بروح المغامرة البصيرة لتطوير العطور المحلية، وإكسابها بعداً عالمياً، يرفع من قيمة تنافسيتها، ويُعلي من صيتها، ويجعلها في مقام الأفضلية، انتصاراً لقيمتها، واستناداً لإرثها الحضاري القديم الباذخ والمشرّف وليس ما نشمه اليوم في دكاكين انتشرت تبيع الغث من العطور ليس له من اسمه نصيب!
فلو أنّ «العطر» دخل حلبة هذا الصّراع، لرجّح كفّة الشرق بلا أدنى شكٍّ، ولوضع الغرب في حرج كبير، ذلك أن الشّرق عرف العطر معرفة ترفٍ ورفاهية، ضمن طقوس متعددة الأغراض، ومتفرقة المذاهب والأغراض، على خلاف معرفة الغرب به، فلا حرج إذاً من القول بأن شهرة «الروائح الباريسية» ليست عن ترفٍ عاشته، أو رفاهية تنعّمت بها، ولكن لـ«حاجة ضرورية» ألجأتها إلى هذه «الحيلة العطرية»..
أما الشرق - فكما أسلفت - عرف العطور معرفة نعيم صدر عن «بُلهْنية» و«رفْهنية» في العيش، ولم يكن به ما بالغرب من حاجة إلى أن يخلط العطر بالكحول، بل عرفه مسكاً مفوّحاً، وكافوراً عبقاً، وعنبراً منشّراً، وخزامى بنفسجيّاً سحرها وشذاها، وغير ذلك من رائق العطور، ومطيب النّفح والعَرْف، اقرأ وصف الشاعر الجاهلي عنترة بن شدّاد، لدار تضوّعت شذًى، وفاحت بطيب روائحها:
قِف بِالدِيارِ وَصِحْ إِلى بَيداها
فَعَسى الدِيارُ تُجيبُ مَن ناداها
دارٌ يَفوحُ المِسكُ مِن عَرَصاتِها
وَالعودُ وَالنَدُّ الذَكِيُّ جَناها
فإذا كان هذا هو حال الدار، فكيف برائحة ساكنيها، وكيف كان عطر «عبلة» يا ترى؟!
إنّ هذه الديار بلا شك، أطيب من تلك التي نزل بها صاحبنا الحكيم المتنبي، على كراهة منه، فهو يقول:
نَزَلـتِ عَلـى الكَراهَةِ في مَكانٍ
بَعُـدتِ عَـنِ النُعـامى وَالشَمالِ
تُحَجَّـبُ عَنـكِ رائِحَـةُ الخُزامـى
وَتُمنَــعُ مِنــكِ أَنـداءُ الطِلالِ
أمّا إن ذهبت إلى عالم العشّاق، ودنيا المولّهين، لوجدت العطر رسول المحبة، وترجمان العشق عندهم، خذ مثلاً قيس بن الملوّح (مجنون ليلى) ألم تسمعه ينشد في وله وصبابة:
بِرَبِّـكَ هَلْ ضَمَمْتَ إِلَيْكَ لَيْلَى
قُبَيْلَ الصُّبْحِ أَوْ قَبَّلْتَ فَاهَا
وَهَـلْ رَفَّتْ عَلَيْكَ قُرُونُ لَيْلَى
رَفِيـفَ الْأُقْحُوَانَةِ فِي نَدَاهَا
فلئن كان «قيس» قد صرّح وأباح، وقارب جمالاً بين رفيف شعر ليلى وذات الرفيف من الأقحوانة في نداها، فإن صاحبنا ابن حجة الحموي قد وَرّي وألغز ورمَّز حين قال:
أرى الوردَ عِندَ الصُبحِ قَد مدَ لي فماً
يُشيرُ إلى التقبيلِ في ساعةِ اللَمسِ
وبعدَ زَوالِ الصُبحِ يبدو كَوجنَةٍ
وَقَد أثَرَت في وَسطها قُبلةُ الشَمسِ
فما تدري أكان يقصد «الورد الجوري» لذاته، أم جعله «رمزاً» لمحبوبه، في خلوص ذكيٍّ من عسف المتعنتين، وفضول الرقباء الموسوسين، وعسس المشاعر المكفهرين!
وذاكرة التراث العربي ثرية بهذه المقامات المنفوحة طيباً وشذًى وعطراً فوّاحاً، غير أنّ الأعجب من ذلك كلّه في العلاقة الخاصة للعرب بالعطر، أنّه تجاوز عندهم مفهوم ترف العيش، والطقوس الروحية والدينية على اختلافها، ليحضر حتى في طقس حروبهم، كما تشير بذلك سيرة «منشم بنت عامر»، تلك المرأة العطّارة في العصر الجاهلي، حيث كان العرب يغمسون أيديهم في ما تصنعه من الطِّيب قبل الحرب، ويتعطرون منه، ويدخلون المعركة بتلك الرائحة، فصارت دالة على الحرب، في سياق المَثل السيّار «دقوا بينهم عطر منشم»، كما صارت مصدراً للشؤم في تعبير قول القائل: «أشأم من عطر منشم»، وهي سيرة دوّنها الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته الشهيرة، بقوله:
تَــدَارَكْتُمَا عَبْسـاً وَذُبْيَـانَ بَعْـدَمَا
تَفَـانَوْا وَدَقُّـوا بَيْنَهُـمْ عِطْـرَ مَنْشِمِ
إن هذه «الذاكرة العطرية» الموغلة في القدم، والدالة على إرث حضاري، حريٌّ بها أن تكون حاضرة في حياتنا، خاصة أننا نعيش في زمن بات فيه المنتج الغربي من العطور هو سيد الساحة، والمهيمن على سوق العطارة، وهو عين ما نهض به المتحف الوطني السعودي، في فعالية معرض «عطور الشرق»، بمدينة الرياض، فهذا المعرض يمثّل أحد مستهدفات رؤية المملكة 2030، المستنهضة للتراث، والباعثة لكل إرث حضاري قادر على إبراز وجه الجزيرة العربية عامة، والسعودية خاصة، بالشكل الذي يتوافق مع تاريخها، ومجدها القديم التالد، ليظل حاضراً في الحياة، متفاعلاً معها، بصورة من صور المواكبة، بما يحقّق صيانة التاريخ، والتفاعل مع الواقع، والتطلّع للمستقبل والاستفادة القصوى من كل المكونات بما يعمّق الخصوصية، ويؤكد البصمة الفريدة التي ميزت إنسان هذه المنطقة قديماً وحديثاً..
ويكتسب هذا المعرض أهميته أيضاً من منظمه، وأعني معهد العالم العربي في باريس، فإن تعالت العاصمة الفرنسية بعطرها، فلا أقلّ من تشمّ أجواؤها وتعرف العطر الشرقي، وسحره وجاذبيته، وتتنافس أسواقها في اقتنائه..
كما أن أهمية المعرض تكمن في بعده التعريفي، بمحولات ثقافية وحضارية غاية في الأهمية، تسهم في الخروج من مثلبة «صراع الحضارات» إلى براح «تفاعل الحضارات»..
إن المعرض بهذه المفاهيم الجامعة بين عناصر الحضارة، والثقافة، والاقتصاد، يمثّل منطلقاً مهماً، وتوجّهاً نبيلاً من «الرؤية» في الاستفادة من كافة مصادر التميّز، ونفض الغبار عنها، وتشكيلها بحيث تستوعب معادلة الحياة العصرية، مع الاحتفاظ بسمتها الحضاري ومكوناتها التراثية.. وإنها لفرصة جدُّ رائعة، وسانحة عظيمة، تفتح الباب أمام رأس المال الوطني للدخول في استثمارات بروح المغامرة البصيرة لتطوير العطور المحلية، وإكسابها بعداً عالمياً، يرفع من قيمة تنافسيتها، ويُعلي من صيتها، ويجعلها في مقام الأفضلية، انتصاراً لقيمتها، واستناداً لإرثها الحضاري القديم الباذخ والمشرّف وليس ما نشمه اليوم في دكاكين انتشرت تبيع الغث من العطور ليس له من اسمه نصيب!