كتاب ومقالات

حنطة فقران للطفران

علي بن محمد الرباعي

يمسي (فقران) يتموّر خِصاف الحبّ، ويصبح يقفرها، ويتمقل العقد التي يربط بها غطاء كل خصفة، وإذا لامته زوجته على بُخله وشحه، يقول (الحنطة ذهب، والشعير فضة، والذرة نحاس، والبوسن حديد، والله ما يعطي معادنه إلا لحريص، يقيس قبل الغطيس، فما ينفع التقييس بعد الغرقِ).

تعوّد الزوجة، المحتسبة تنذّر به، إن قامت وإن قعدت، وتقول في نفسها؛ لاوكنا الجوع والخصاف تترع من حلوقها بالصيف والخريف، وهذا العِرْبِي إن زادت خصافه، بكى من جوع في قلبه، وإن نقصت يزفّر وينثّر وكما الثور يغبّر فوقنا، وإن جانا ضيف يخرج طاوي من كثرة ما يتنهرّه الزّرِم، فنيَت السنين والونين وجوعه ما فِني، من سابع جدّ إلى سابع ولد.

تكتفي ابنته (غزوة) وأخوها (غزوان) بسماع المحاترة بين أبويهما، ويضحكان منه إذا كرّبته أمهم، وشنّقته بحلقه في ظهر الزافر، وهو يصيح، الثوب لا تُشتِرين الثوب، والله لو شترتيه لاشتر خنفورك اللي إلا كما مشهف الخبزة، وإذا شافت أولادها يضحكون تتلّه على قفاه، مرددة، من أيدينا في أيديهم يا تيس القرارة، فيشرد من البيت، ويحيط الولد والبنت بأمهم، يستخبرانها عن تيس القرارة، فتنفرط تضحك، وتقول؛ تيس خُصاه مثل خُصى فقران، ولا يسرّ ولا يضرّ، يصمخ الناس بالهذاي، وأناثي المعزا تعتلي ظهره، ما يصيف عنها ولا يحيف، فتتعالى ضحكاتهم، ويسألانها، شفتيه؟ قالت؛ شافته أمي يوم حجّت مع جدكم، سكنوا عند مكاوية كلما احتركت تقول (يا رب بجاه بيتك تريّحنا من تيس القرارة).

سرح (فقران) جهمة، يتفقد الوادي، ويحمي الخريف من الطير وشبّار الخير، ومن التعب انكعر في قُفّ البير وغطّ في نومه، وفزّ خارعاً، وإذا جارته الأرملة (سامحة) تدلى من البير، صبّت له يشرب، ويغسل وجهه، وسألته، لا يكون خرعت من صوت البَكَرَة تصوي كما جرو الكلبة، قال مثلي ما يخرع من صوت بَكَرة ولا محالة ولا درّاجة، ما يخرع إلا أهلك اللي يسدون بيبناهم قبل غربة الشمس، ويرصدونها، ويتعشون في الغُدرة، فقالت؛ يتعشون من مرزقهم، وبعض الناس يتشبّر عشاه من وجيه المستحين، سكت، وقال؛ فكينا من هروجك الملوّاة.

طلب منها، تندر تقصع له عذقين والا ثلاثة من ذرة ركيب العريفة، ليتشوّطها، فقالت؛ عساك بالكسر، اقتصع لك بنفسك، أربّك حاوي، والا ودّك تتبلاني، وتلحقني مسبّة من العريفة، ومرته اللي لسانها يقطّع السواري، تقطيع النار للحطب المتواري، وإذا بالعريفة يشرّف عليهم من فُرجة في عُشّة الحماية، ويحلف بالمصرّمات، إنك لتقصّعين لك وله ولي، وأضاف؛ باوشّي قبسي لين تطلعون عليّه.

طلب (فقران)، وهم يتحمّصون، من (سامحة) التي تفرك العذوق، ويتساقط حبّها في حثلها، ثم ترفعه بكفها وتنفخه للتتطاير منه القشرة وأثر الرماد، توافق يديس في جرينها، فقرعته، لمح في العريفة، فردّ؛ ما لك عليها عادة، ولا لك في مرقدها وسادة، إنت يا فقران، حياتك على ربي، ورزقك على خلقه، ارفعها سلمت، ما أكثر من مساطحك انت وعمانك الله يجعلهم بالعمى، سوّ لك جرين، واللي يديس في جرينه، لا أحد يتمنن عليه ولا حد يهينه.

اعتذرت سامحة من العريفة، وقالت سامحني يا كبيرنا، بينوّض كمرة جريني، معه ثيران تدقق الديّسة في ضحوة، رمى عمامته عليها مردداً؛ سمّي بالرحمن، واذكري الله، عينك وحدة بوحدة يا الشفّاية، ثم اقترب من العريفة، وخفته (ما ودك تخطبها لي)؟ شال العريفة بالصوت «والله ما اندّرك سوق العرب يا هيل يا هيل، خايف يأخذك من لا يحقك وانت هيلي»، فضحكت سامحة واحتملت مذراها على رأسها، وطلبت فقران يرفع لها قربته لتعلقها على كتفها، وهي في الطريق، جمعت لها قُشاش تلهّب به خبزتها.

أقبل عليهم (المهبول طفران) وطلب من العريفة يسقيه، فاقترب الزمزمية، وصبّ له، فسلّم في كفه، وطلب من فقران دحوة حميصة، فحداه بالمرجمة، وانتهره انقلع يا ولد متسرق لحم الصّدة، فقال طفران «ما تموت عين ولها دين يا فقران» فقام يبغي يلحقه، فصدّه العريفة وقال؛ تاهب عقلك بعقل المعلول.

حاول العريفة يفتك منه فقال، بيجيني رحيمي وبنتي يتعشون معي، وما معنا إلا دراميح وفريقة، لو شي لحمة دعيتك تتعشى معنا، علّق فقران، فريقتك تسوى في عيني بكرة، والله ما اتعشّى إلا من عشاك، قال العريفة؛ تعشّ تعشتك الديبان، ثم نشده؛ ما تِعْلِمني لمن تردّم في هذي الحُبّان يا فقران، بينخرها السوس، وتقضمها الفيران، وهذي لحيتي يوم تموت ليبعّجون سفانك الخِصاف للمحاويج والمداريج والدجاديج، فقال؛ ودي أصخى يا عريفة لكن نفسي ما تطاوعني..

سمروا ليلتهم، وتعشوا على صفطان وطيب خاطر، وما قسم ربي، ورحيم العريفة شاعر، ويعرف سملة فقران، فقال فقران؛ هب لنا من قصايدك اللي في النسوان، فعرف أنه يريد يحطه مع زوجته في نشبة، قال أبشر اسمع يا خي (التهباش فوق الناس ما هو بهيل، يقعد ابن آدمي مستور حتى يموت، كم ثعابين غدرة سممت روحها).

نغّصت ممساه القصيدة، فكثّر بالخير وسرى ولقي حطب (سامحة) فوق الجناح، فاشتاله على كتفه، وما دخل البيت إلا وهو يرتجف من الحُمّى، ولّعت زوجته القازة، وإذا بالحيّة الرقطاء، متوزيّة في الحطب، فتشت ذراعه، وإذا أثر أنيابها ينزّ، حمّت السمن، وصبّت مكان اللقصة، وأسقته، وشبّت قرضاً، وصاحت في أولادها يدعون العريفة، تولّفوا الجماعة، وسمروا الرجّال، والعريفة يدق في جنب زوج بنته، ويقول وش غدا بك تجيب الثعابين في قصيدتك؟ فأجابه وش درّاني عن رفيقك أنه بيسري يسترق حطب المرمّل؟.

ثاني يوم في العزاء، فكّ (غزوان) غطيان الخصاف، ودعا المقيم والعابر، يغرفون من حنطة (فقران) ومن غرف، يلمح في أم غزوان ويردد (رحم الله من أخّره) و(غزوان) يردّ في صدره (الله لا يرحمكم ولا يرحمه)، وجاء (طفران) يطلب الشكدة من حبّ الفاني، فأقسم عليه غزوان بأن يكتال لين يتعب، وأمه تلمح من وسط رأسها، وتحكّ ركبها في بعضها مما بها.