حفلات التخرج: استلاب وانطماس هوية !
الخميس / 30 / ربيع الأول / 1446 هـ الخميس 03 أكتوبر 2024 01:42
نجيب يماني
مع العودة الحميدة للدراسة لا بد من تعليم النشء الكثير من المفاهيم التي تبني الفكر وتنير الذهن لمواكبة التحولات التي نعيشها بعيداً عن السطحية والضآلة، وضرورة إدخال الكثير من المهارات الفكرية والتقنية والاعتزاز بالهوية، وضرورة تغيير الكثير من العادات والأفكار التي لا تناسب وما نحن فيه من أحداث جعلتنا رقماً مهماً في هذا العالم ملاحظة لا بد من الوقوف عندها حدثت العام الفارط لنستفيد منها مستقبلاً.
إنّ حاجتنا إلى تعلّم اللغات الأجنبية، أمر في غاية الأهمية في زمن انفتاح البوابات، وتقارب المسافات، وتداخل المصالح، والآفاق البعيدة التي تستشرفها المملكة بفضل «الرؤية» الكريمة، فحاجتنا إلى الاستزادة من العلوم والتكنولوجيا والمعارف المختلفة، المسطورة بلغاتها الأم، يتطلّب معرفة هذه اللغات، في ظل قصور الترجمة، وعدم تغطيتها الشاملة لكل جديد.
ولكن ما لست أفهمه أن تلزمنا المعرفة بهذه اللغات أن نستدعي معها «سلوك» أصحابها، ونذهب في تقليد طريقتهم في العيش إلى ما يشبه انطماس الهوية بالكلية، ونُسقِط معها أصولنا العربية بالجملة، ونلبس لبوسًا «إفرنجيًا» حتى في احتفالنا بالنجاح وبعض المناسبات.
كان ذلك حقًّا ما شهدته، في تلك الليلة التي صحبت فيها حفيدتي الغالية، مريم جمجوم لحفل تخريجها من إحدى المدارس العالمية بجدة.
دلفت إلى مكان الحفل كان الأمهات والآباء يشاركون بناتهم فرحة التخرج والانتقال إلى مرحلة دراسية أكبر، ترتسم البسمة على الشفاة والفرحة ترفرف بين الحضور بكل تقدير واحترام للحظة.
كل شيء يعبر عن لوحة فنية جميلة متناسقة، قاعة فسيحة تراص عند مدخلها مرشدون بابتسامات وضيئة، ينثرون عبارات الترحيب بالحضور، وفي فضاء القاعة شاشة عرض كبيرة، على مسرح ضخم بُني على أسس عالمية راعت فيه أصول التقنية في الصوت والإضاءة والصورة، مع كشافات ليزر أعطت المكان هيبة وقيمة جمالية، ورسمت للحضور صورًا جميلة بالألوان، وخلفية موسيقية غربية.
انطلق الحفل بآيات من الذكر الحكيم من إحدى الطالبات، وكان ذلك إيذانًا بحفل «عربي» ولا ريب، ولكن الأمر استدار دورة فجائية، فيما تلا من فقرات جاءت بلغة إنجليزية، حرصت فيها المتحدثات على التزام قواعدها كأحرص ما يكون الالتزام، مع لُكنة تكاد تقارب لسان أصحابها، وهو عين ما حرصت عليه المكرمات والناجحات، وأعضاء هيئة التدريس وهن يعبرن بالإنجليزية المستوردة عن فرحهن «العربي» الأصيل. والأدهى من ذلك أن اللغة العربية حين حضرت كانت على استحياء في بعض الفقرات، لم تسلم قواعدها من تكسير، ولم تأمن من تحطيم، حتى من قبل المعلمات، فرفعن مجرورًا، ونصبن مكسورًا، وخفضن مرفوعًا، دون أن يطرف لهن جفن، أو يندى لهن جبين من خجل، وكان ذلك في أعلى لحظات فرحهن، وأبهى تجليات «الانسلاخ»، وكأنك في حفلة تنكر للأصول، وترسيخ متعمد لـ«الاستلاب».
سرحت بعيدًا وتأملتهم، أغلب الحاضرين هم أبناء الوطن، أولياء أمور وأمهات، شاركن بناتهم هذه المناسبة والفرح بتخرجهن واستقبالهن لحياة جديدة، فما الذي حملهم على هذا الاستلاب غير المبرر، هل فعلًا صدقت نظريات اللسانيات المعاصرة التي ترى أن للغة وبنيتها وعلاقتها بالتفكير دورًا مهمًّا في سلوك الإنسان، على نحو ما ذهب إليه البروفيسور ديريك بيكرتون الذي ناقش الموضوع في جامعة واشنطن في محاضراته الثلاث الشهيرة عام 1992، وجمعها في كتاب لاحقًا تحت عنوان «اللغة وسلوك الإنسان»، وخلاصة زعمه «أن عملية التفكير والذكاء لم تكن لتتحقق دون امتلاك الإنسان للّغة بشكلها الإنساني».
فإذا كان الأمر كذلك، فكان أولى بقومنا هؤلاء أن تكون «العربية» حاضرة في سلوكهم ولو في مظهر الاحتفال فقط!
هل خرجت «العربية» اليوم من سباق التطور العلمي، واللهاث التقني، لتبقى مسجونة في قمقم الزعم بأنها لغة آداب وفنون وليست لغة علم واختراع،
هل نلقي باللوم على هؤلاء الشباب والشابات وقد وجدوا في الإنجليزية وغيرها طرقًا للتعبير المعاصر قصرت عنها «العربية»، التي ما زالت طرق تدريسها غير مناسبة لروح العصر، ولمواكبة متطلباته؟!
أسئلة كثيرة كانت تدور في رأسي، والحفل مستمر في بهجته المستلبة، تلبية لرغبة «قلة» من الأجانب كانوا حاضرين، فهل كان إرضاؤهم خصمًا على الثوابت، وهم الذين لا يقيمون لذلك وزنًا.
حضرت حفلات تخرّج مثيلة لأبنائنا خارج المملكة، ولم نحظَ بطقس عربي، ولو على سبيل المجاملة!
أفقت من شرودي على صوت أنثوي بتنغيم «إنجليزي» منضبط، ينادي على حفيدتي مريم لتكريمها بوصفها إحدى الناجحات المتفوقات.
لم أشأ لحظتها أن أعكّر عليها صفو اللحظة، وبهجة النجاح، وإن كنت في سري خاطبت المعلمات، بنصيحة سيدنا عمر «تعلّموا العربية فإنها تُثبّت العقلَ، وتزيدُ في المروءة».
يمتد عتبي إلى المسؤولين عن تربية النشء سواءً في البيت أو المدرسة عن الإسراف المبالغ فيه حد السفه في إقامة حفلات التخرج.
فبعد ليلة الفرح في رحاب المدرسة أقيم حفل في إحدى القاعات الكبرى تعدت أرقامه مبلغًا فلكيًا جُمع من الطالبات اللائى أرغمن أولياء أمورهن على دفع حصصهن ومشاركتهن، مضافاً إليه الفساتين الغالية من المطرزات والشيفونات الفرنسية والحرير الطبيعى غير المدفوع للكوافيرة وعاملة المكياج لوضع الرتوش الأخيرة من كل ألوان الطيف على الطالبات وأمهاتهن والحضور، ومطربة أفراح وليالٍ ملاح وبوفيه يكفي لإطعام قرية جائعة.
كان من الأجدر أن يُرصَد مثل هذا المبلغ لعمل خيري يبقى أثرة ويكتب أجره باسم الخريجين بدلاً من هذا الإسراف المبالغ فيه بموافقة مسؤولي المدرسة وأولياء الأمور.
بدعة انتشرت في المجتمع حفلة نهاية العام الدراسي حتى للمراحل المتوسطة والابتدائية، حتى فقد روب التخرج وقبعته القيمة المعنوية لهما.
رحم الله زمان مضى كانت مكافأة النجاح قلم باركر أو محفظة جيب ورحلة مع الأهل إلى المدينة المنورة أو الطائف نقطف توت ونأكل برشومي.
إنّ حاجتنا إلى تعلّم اللغات الأجنبية، أمر في غاية الأهمية في زمن انفتاح البوابات، وتقارب المسافات، وتداخل المصالح، والآفاق البعيدة التي تستشرفها المملكة بفضل «الرؤية» الكريمة، فحاجتنا إلى الاستزادة من العلوم والتكنولوجيا والمعارف المختلفة، المسطورة بلغاتها الأم، يتطلّب معرفة هذه اللغات، في ظل قصور الترجمة، وعدم تغطيتها الشاملة لكل جديد.
ولكن ما لست أفهمه أن تلزمنا المعرفة بهذه اللغات أن نستدعي معها «سلوك» أصحابها، ونذهب في تقليد طريقتهم في العيش إلى ما يشبه انطماس الهوية بالكلية، ونُسقِط معها أصولنا العربية بالجملة، ونلبس لبوسًا «إفرنجيًا» حتى في احتفالنا بالنجاح وبعض المناسبات.
كان ذلك حقًّا ما شهدته، في تلك الليلة التي صحبت فيها حفيدتي الغالية، مريم جمجوم لحفل تخريجها من إحدى المدارس العالمية بجدة.
دلفت إلى مكان الحفل كان الأمهات والآباء يشاركون بناتهم فرحة التخرج والانتقال إلى مرحلة دراسية أكبر، ترتسم البسمة على الشفاة والفرحة ترفرف بين الحضور بكل تقدير واحترام للحظة.
كل شيء يعبر عن لوحة فنية جميلة متناسقة، قاعة فسيحة تراص عند مدخلها مرشدون بابتسامات وضيئة، ينثرون عبارات الترحيب بالحضور، وفي فضاء القاعة شاشة عرض كبيرة، على مسرح ضخم بُني على أسس عالمية راعت فيه أصول التقنية في الصوت والإضاءة والصورة، مع كشافات ليزر أعطت المكان هيبة وقيمة جمالية، ورسمت للحضور صورًا جميلة بالألوان، وخلفية موسيقية غربية.
انطلق الحفل بآيات من الذكر الحكيم من إحدى الطالبات، وكان ذلك إيذانًا بحفل «عربي» ولا ريب، ولكن الأمر استدار دورة فجائية، فيما تلا من فقرات جاءت بلغة إنجليزية، حرصت فيها المتحدثات على التزام قواعدها كأحرص ما يكون الالتزام، مع لُكنة تكاد تقارب لسان أصحابها، وهو عين ما حرصت عليه المكرمات والناجحات، وأعضاء هيئة التدريس وهن يعبرن بالإنجليزية المستوردة عن فرحهن «العربي» الأصيل. والأدهى من ذلك أن اللغة العربية حين حضرت كانت على استحياء في بعض الفقرات، لم تسلم قواعدها من تكسير، ولم تأمن من تحطيم، حتى من قبل المعلمات، فرفعن مجرورًا، ونصبن مكسورًا، وخفضن مرفوعًا، دون أن يطرف لهن جفن، أو يندى لهن جبين من خجل، وكان ذلك في أعلى لحظات فرحهن، وأبهى تجليات «الانسلاخ»، وكأنك في حفلة تنكر للأصول، وترسيخ متعمد لـ«الاستلاب».
سرحت بعيدًا وتأملتهم، أغلب الحاضرين هم أبناء الوطن، أولياء أمور وأمهات، شاركن بناتهم هذه المناسبة والفرح بتخرجهن واستقبالهن لحياة جديدة، فما الذي حملهم على هذا الاستلاب غير المبرر، هل فعلًا صدقت نظريات اللسانيات المعاصرة التي ترى أن للغة وبنيتها وعلاقتها بالتفكير دورًا مهمًّا في سلوك الإنسان، على نحو ما ذهب إليه البروفيسور ديريك بيكرتون الذي ناقش الموضوع في جامعة واشنطن في محاضراته الثلاث الشهيرة عام 1992، وجمعها في كتاب لاحقًا تحت عنوان «اللغة وسلوك الإنسان»، وخلاصة زعمه «أن عملية التفكير والذكاء لم تكن لتتحقق دون امتلاك الإنسان للّغة بشكلها الإنساني».
فإذا كان الأمر كذلك، فكان أولى بقومنا هؤلاء أن تكون «العربية» حاضرة في سلوكهم ولو في مظهر الاحتفال فقط!
هل خرجت «العربية» اليوم من سباق التطور العلمي، واللهاث التقني، لتبقى مسجونة في قمقم الزعم بأنها لغة آداب وفنون وليست لغة علم واختراع،
هل نلقي باللوم على هؤلاء الشباب والشابات وقد وجدوا في الإنجليزية وغيرها طرقًا للتعبير المعاصر قصرت عنها «العربية»، التي ما زالت طرق تدريسها غير مناسبة لروح العصر، ولمواكبة متطلباته؟!
أسئلة كثيرة كانت تدور في رأسي، والحفل مستمر في بهجته المستلبة، تلبية لرغبة «قلة» من الأجانب كانوا حاضرين، فهل كان إرضاؤهم خصمًا على الثوابت، وهم الذين لا يقيمون لذلك وزنًا.
حضرت حفلات تخرّج مثيلة لأبنائنا خارج المملكة، ولم نحظَ بطقس عربي، ولو على سبيل المجاملة!
أفقت من شرودي على صوت أنثوي بتنغيم «إنجليزي» منضبط، ينادي على حفيدتي مريم لتكريمها بوصفها إحدى الناجحات المتفوقات.
لم أشأ لحظتها أن أعكّر عليها صفو اللحظة، وبهجة النجاح، وإن كنت في سري خاطبت المعلمات، بنصيحة سيدنا عمر «تعلّموا العربية فإنها تُثبّت العقلَ، وتزيدُ في المروءة».
يمتد عتبي إلى المسؤولين عن تربية النشء سواءً في البيت أو المدرسة عن الإسراف المبالغ فيه حد السفه في إقامة حفلات التخرج.
فبعد ليلة الفرح في رحاب المدرسة أقيم حفل في إحدى القاعات الكبرى تعدت أرقامه مبلغًا فلكيًا جُمع من الطالبات اللائى أرغمن أولياء أمورهن على دفع حصصهن ومشاركتهن، مضافاً إليه الفساتين الغالية من المطرزات والشيفونات الفرنسية والحرير الطبيعى غير المدفوع للكوافيرة وعاملة المكياج لوضع الرتوش الأخيرة من كل ألوان الطيف على الطالبات وأمهاتهن والحضور، ومطربة أفراح وليالٍ ملاح وبوفيه يكفي لإطعام قرية جائعة.
كان من الأجدر أن يُرصَد مثل هذا المبلغ لعمل خيري يبقى أثرة ويكتب أجره باسم الخريجين بدلاً من هذا الإسراف المبالغ فيه بموافقة مسؤولي المدرسة وأولياء الأمور.
بدعة انتشرت في المجتمع حفلة نهاية العام الدراسي حتى للمراحل المتوسطة والابتدائية، حتى فقد روب التخرج وقبعته القيمة المعنوية لهما.
رحم الله زمان مضى كانت مكافأة النجاح قلم باركر أو محفظة جيب ورحلة مع الأهل إلى المدينة المنورة أو الطائف نقطف توت ونأكل برشومي.