كتاب ومقالات

فاشية الديمقراطية!

طلال صالح بنّان

في تراث الإغريق القدماء: الديمقراطية هي أسوأ أنظمة الحكم قاطبة، تقبع في قاع قائمة الأنظمة السياسية لديهم. أفلاطون (427-374 ق.م) وأرسطو (448-322 ق.م) ذهبا إلى أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية الفاسدة (الغوغاء والدهماء والرعاع). عندما تسود الأغلبية الفاسدة المجتمع تصبح أداة يتسلق على سلمها الفاشيون والطغاة والمستبدون، لينتج لدينا نظامَ حكمٍ فاسدٍ لا يعمل لصالح الجميع، بل يخدم مصالح من هم في السلطة.. ومن يدورون في فلكهم، ويسْبَحون في مياه حكمهم الآسنة.

لذا: الممارسة الديمقراطية ليست دوماً تعكس إرادة الناس الخيّرة والعقلانية.. وليس بالضرورة ينتج عنها حكم رشيد، على إطلاقه. كان هذا في تراث الفكر السياسي والممارسة السياسية في حضارة الإغريق القدماء، وله شواهد في الممارسة الديمقراطية الحديثة، حتى في مجتمعات الغرب المعاصرة. هتلر والحزب النازي جاءوا إلى حكم ألمانيا عن طريق صناديق الاقتراع، حيث اُنتخب هتلر مستشاراً لألمانيا (30 يناير 1933). وما هي إلا أيام (17 فبراير 1933) ويحرق هتلر ومليشيات حزبه النازي الرايشتاغ (البرلمان الألماني) ليتفرد بحكم ألمانيا بالحديد والنار.. ويفعل ما فعل بألمانيا والعالم.

كثيرٌ من أنظمة الحكم، التي تزعم أنها جاءت بإرادة الناس الحرة، سرعان ما تتنكر لقيم وحركة الممارسة الديمقراطية لتحكم شعوبها، بعيداً عن إرادتها. حدث ذلك في منظومة الدول الاشتراكية في شرق أوروبا.. وفي الاتحاد السوفيتي وكوبا، وفي كثير من أنظمة ما تسمى بدول العالم الثالث في آسيا، وأفريقيا، وأمريكا الوسطى والجنوبية.

لن نذهب بعيداً، تتفاعل هذه الأيام إرهاصات الانقلاب على الديمقراطية، باحتمال مجيء شخص ذي ميول فاشية، للساحة السياسية، في ثاني نظام حكم ديمقراطي (عريق) في العالم (الولايات المتحدة الأمريكية)، بتجربته الرئاسية، لتضيف نموذجاً معاصراً للديمقراطية، يجمع في ثناياه تمثيل الشعب ضمن الشكل الفيدرالي للدولة، حتى يتساوى الجميع في نظام ديمقراطي، يأخذ بآلية التداول السلمي للسلطة.. ويحترم تعددية مجتمعه القومية والثقافية والعرقية، ويحول دون استبداد الأغلبية.

لكن يبدو أن الاستقرار السياسي الذي شهده النظام الرئاسي الأمريكي، منذ إعلان قيام الجمهورية (4 يوليو 1776) وانتخاب أول رئيس أمريكي (جورج واشنطن 1789) لحكومة الاتحاد الفيدرالي، بعاصمته مقاطعة واشنطن، يواجه تحديات خطيرة تنال من استقراره، وربما تحوّله إلى نظام حكم فاشٍ، لا يخفي عداءه للممارسة الديمقراطية، وفي مقدمتها احترام خيارات الشعب لرموز حكومته، بالذات: منصب رئيس الدولة.

المرشح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب، الذي يتطلع لأن يكون الرئيس الـ47 للولايات المتحدة، استحقاقاً لفرصته الدستورية الثانية بالعودة للبيت الأبيض، لم ينفك في مواصلة عدائه للممارسة الديمقراطية مهدداً بعدم قبوله لنتيجة الانتخابات الرئاسية المقررة يوم الثلاثاء الخامس من نوفمبر القادم، لو جاءت نتيجتها في غير صالحه. الرئيس ترمب ما زال يردد بأن انتخابات 2020 الرئاسية التي خسرها، حرمته من فترة رئاسية ثانية، متهماً الديمقراطيين بسرقة تلك الانتخابات، واعداً بالانتقام منهم، في فترة رئاسته الثانية، التي يزعم أنه حتماً سيفوز بها.

الرئيس دونالد ترمب في حملته الانتخابية يصف خصومه السياسيين ومعارضيه بأنهم أعداء الداخل، قائلاً: إن الخطر الذي تواجهه البلاد ليس من الخارج، مشيراً إلى أعداء الولايات المتحدة الخارجيين التقليديين، مثل: الصين وروسيا، بل من أعداء الداخل (معارضيه من يساريين واشتراكيين وشيوعيين ومَنْ أسماهم فاشيين ومرضى نفسيين)، متوعداً بتصفيتهم، بل واستخدام الجيش والحرس الوطني والشرطة، لسحقهم جميعاً!

هذا ما دعا رئيس أركان القوات المسلحة في عهد الرئيسين أوباما وترمب الجنرال مارك ميلي (14 أغسطس 2015 – 29 سبتمبر 2019)، ليصف الرئيس ترمب، بأنه فاشيٌ للعظم.. ويعتبره أخطر شخص في الولايات المتحدة. جاءت هذه الملاحظات عن شخصية الرئيس دونالد ترمب للجنرال مارك ميلي في معرض مقابلة أجراها معه الصحفي الشهير بوب ودورد، وجاءت في أحدث كتب الصحفي الشهير (الحرب)، الذي صدر في 15 أكتوبر الحالي.

ترى هل يكرر دونالد ترمب مأساة الديمقراطية، التي جرت على يد الزعيم النازي أدولف هتلر، لتتحول الولايات المتحدة إلى دولة فاشية يحكمها فاشيٌ للعظم، كما قال الجنرال مارك ميلي، سواء بمجيء دونالد ترمب للرئاسة الأمريكية.. أم عن طريق الفوضى التي وعد بها الرئيس ترمب، عند رفضه لنتيجة الانتخابات الرئاسية القادمة، إذا ما جاءت في غير صالحه.

في كلا الحالتين الولايات المتحدة ونظامها الديمقراطي، يمران هذه الأيام بمخاضٍ عسيرٍ قد يتمخض عن حقبة فاشية قادمة، يكتوي بنارها العالم بأسره، ولا يقتصر خطرها على الولايات المتحدة وشعبها.