إقصاء المؤلف بين رولان بارث وجاك دريدا وعبد الله الغذامي
الجمعة / 06 / جمادى الأولى / 1446 هـ الجمعة 08 نوفمبر 2024 01:45
د. رسول عدنان
لم أجد ناقدا عربيّا أستطيع أن أُقرنَه أو أقارنَه بكل من جاك دريدا ورولان بارث بالثقافة الفرنسية والغربية بشكل عام، غير الدكتور عبدالله الغذامي، بدقة تحليلاته وسعة اطلاعه وأصالة ثقافته وروعة كتاباته ودقة تشخيصاته وغزارة علمه، وأخيرا روعة طروحاته وأهميّة كتبه؛ فإذا كانت الأمة الفرنسية تتباهى بعلمائها وفلاسفتها، فإنّ للأمة العربية كل الحق أن تتباهى بما قدمّه الدكتور عبدالله الغذامي من طروحات نقدية وفكرية وفلسفية. من هنا جاءت فكرة أن أضع كتابا يجمع بين النقاد الفلاسفة الثلاثة لإسقاط الضوء على أهمية هذه المقارنة والمقاربة بين الفكرين العربي والغربي في النقد والذي يعني فيما يعني، ليس فقط نقد النص بل مفهوم فلسفة النص، حيث التقى هؤلاء النقاد الثلاثة في رؤية واحدة تقوم على إقصاء المؤلف، حيث نظّرت طروحاتُهم من خلال هذه الفلسفة أو هذا المفهوم إلى معالجة للنص من زاوية إقصاء المؤلف، نعرف أنّ مفهوم إقصاء المؤلف قد ارتبط بمدارس النقد التي جاءت ما بعد الحداثة، حيث ركز النقاد الثلاثة الكبار على مفهوم واحد هو الاحتكام إلى النص دون صاحبه، ومن هنا جاءت فلسفة جاك دريدا بإقصاء المؤلف، يعني فيما يعني فكَّ الارتباطِ بين لغويّة المفرداتِ وكلِّ ما يؤّولُ خارجَها. من جهة أخرى نرى أن رولان بارث قد أفرد مقالا مشهورا حول موت المؤلف وليس فقط إقصائه كما فعل دريدا أو الغذاميّ، حيث شكّل مقال رولان بارث هذا منعطفا تأريخيا في مسيرة النقد الحديث، ليعلن بشكل رسمي عن موت المؤلف، هذا المؤلف الذي أرسله عبدالله الغذاميّ بدوره إلى المتحف بإطلاقه رصاصة الرحمة عبر فلسفة النقد الثقافي، والتي نقلت النقد العالمي من عصر إلى عصر آخر، بما جاءت به من مفاهيم جريئة ومتجددة تواكب روح العصر وإيقاعاته وتطوراته السريعة، وتستجيب إلى تطلعاته، وفي هذا الكتاب الذي أنا بدأت بتأليفه، وقفتُ على تجارب هؤلاء النقاد الثلاثة الكبار، كان لا بد من تحليل أهم كتبهم والتي كانت تجارب عميقة في هذه الفلسفة، مثل كتاب رولان بارث درس السيميولوجيا، وكتابا الدكتور عبدالله الغذامي الخطيئة والتكفير، وثقافة الأسئلة، وأخيراً كتابا جاك دريدا في علم الكتابة والكتابة والاختلاف.
نهاية عصر الحداثة
بنهاية البنيوية انتهى عصر الحداثة فلسفة ونقدا، هذه المدرسة وأقصد البنيوية التي أخذت من طروحات عالم اللسانيات السويسري سوسير والشكلانيين الروس منطلقا لها وفيما بعد الناقد الذي تمرد على البنيوية التي كان من أنصارها رولان بارث، نراها قد أغلقت النص على أيّة عوامل خارجية واكتفت بتحليل الناقد ورؤيته للنص فقط من خلال ألفاظه ودلالاتها، حيث تبلورت فكرتها بالتزامن مع ما طرحه الشكلانيون الروس الذي دعوا إلى استبعاد دور المؤلف في العمل، حتى جاءت حركات ما بعد الحداثة مثل التفكيك لتفتح النص أمام التأويلات التي يتوصل إليها الناقد التفكيكي والقارئ، أي تحوّلت السلطة من سلطة النص إلى سلطة القارئ، ومن إغلاق النصوص إلى انفتاحها، وهذه تعتبر نبوءة أو قراءة متقدمة لما حدث بعد هذه الخطوة وأقصد من وصولنا إلى النقد الثقافي، والكيفية التي تعمل بها آلية النقد الثقافي، والتي يعتبر الدكتور الغذامي رائدا حقيقيا لهذه المدرسة ووارثا شرعيا لمدرسة برننجهام، وهو أول من أسقط مفهوم النقد الثقافي عمليا وتطبيقيا على الأدب، حيث التقى الثلاثة الكبار على: إقصاء المؤلف وإعطاء سلطة مطلقة للقارئ وفتح النص على التأويلات الخارجية.
موت المؤلف حسب رولان بارث
موت المؤلف الذي جاء كتطبيق عملي لنظرية المنهج البنيوي التي ظهرت في القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث جاء الناقد الأدبي الفرنسي رولان بارث ودعا إلى موت المؤلف تمامًا، عبر مقال له عام 1968م، وذلك في كتابه «درس السيميولوجيا»، دعوة بارت جاءت بعد أن بدأ عصر ما قبل الحداثة ومن خلال الانتقادات التي وجهت للبنيوية والمأزق الذي وصلت إليه، حيث دعا بارث إلى موت المؤلف ليفتح الباب إلى تحديث النص في كل مرة، مما يعيد للقارئ دوره في تشكيل رؤيته في قراءة النص، حيث يتحوّل القارئ إلى الفضاء الذي يطلق الاقتباسات التي يتكون منها النص، فوحدة النص ليست في أصله بل في الجهة التي يتوجه إليها وهذا يعني الجمهور، تميز بارث برؤية نقدية ثاقبة وثقافة دقيقة واسعة، حيث إن دعوته إلى موت المؤلف في النص الأدبي كانت جادة وليست طارئة أو عبثيةً، في محاول منه إلى نقل الوعي الأوروبي من التقليد إلى المعرفة والبحث، وحظيت دعوته هذه باهتمام واسع في الوسط الأدبي والثقافي، جاءت هذه الدعوة كثورة ضد النقد التقليدي، الذي اعتبر العمل الأدبي يقوم على ثلاثة عناصر وهي المؤلف والنص والمتلقي، وأية دراسة للعمل الأدبي يجب أن تتضمن دراسة حياة الأديب والسبب وراء تأليف هذا العمل، وهو ما لم تسلم به البنيوية، حيث دعت إلى موته، ويسند تأويل وتحليل العمل الأدبي إلى اللغة من حيث الألفاظ والتراكيب التي استخدمها المؤلف للتعبير عن أفكاره وآرائه، كان رولان بارث العراب الحقيقي لهذه الدعوة، والتي بنى جاك دريدا نظريته التفكيك على أساسها مع التوسع والتطور الذي أحدثه فيها.
إقصاء المؤلف
حسب رؤية دريدا
جاءت هذه النظرية كرد فعل عنيف ضد البنيوية التي أبعدت أي دور للقارئ تماما في قراءته للنص، يرتكز التفكيك على اختراق المجهول من خلال الولوج إلى خفايا النص باعتباره أداة نقدية أو فضاءٍ فكريٍ مستجدٍ مختلفٍ في الأسلوب والرؤية الموجودة في النص المقروء، وهذا يحيلنا إلى اللجوء فقط إلى النص وحده، فأيُّ إشكالٍ أو تفسير أو لبس يعترضنا يجب العودة به إلى النص وحده لتفسير هذا اللبس، وليس إلى صاحب النص، وبذلك نتخلصُ من صاحبِ النصِ ومن شرحهِ وأعذارهِ وظروفهِ والتي سيقوم النصُ وحده بشرحِها لنا دونَ صاحبِهِ. بمعنى أكثرَ دقةٍ نبدأ بملاحظةِ التناقضاتِ والطرقِ المسدودة في النص دون مساعدة خارجية،
يجب أن نبتعد عن القراءة التقليدية والتأريخية وما تتضمنه من تقسيم للعصور لأنّها تبحثُ في مؤثراتٍ غير لغويّةٍ ممّا يؤدي إلى إبعاد الباحث عن الاختلافات اللغوية في النصوص؛ حسب هذه الرؤية أنّ كل شيء يوجد في المغايرة والتأجيل وسلسلة الاختلافات، أي أنّ النصَ يخلقُ واقعَه ويفرضُ نفسه ويُكوِّن مجاله وعوالمه وصوره وجمالياته من خلال اللغة المكتوبة؛ وبالتالي نقوم بتفكيك آلياتهِ من داخلهِ عبر وسيلة واحدة هي اللغة المكتوبة فقط غير مسندة إلى المؤلف أو الظروف الخارجية التي أحاطتْ بالنصِ، كلُّ هذا ممكن تعويضه والاستغناء عنه من خلال طاقة اللغة المضمنة في النص. القراءة التفكيكية ليست ما يُفهم بشكل بسيط من النص بل هي أشياء لم تُذكر في ألفاظ النص المكتوبة، وهذا يعني أنّ النصّ يحتوي على فراغات، فالنص في حقيقته مكّونٌ من متاهات وهذا ما يُبنى عليه الغياب والنسيان، وبذلك فالتفكيك يعطي السلطة للقارئ وليس للمؤلف ويركز بشكل أساسي على الكتابة بمنح القارئ سلطة القراءة والاستنباط ليكون أكثر قدرة على فك شيفرات النص وتركيبه وفقاً لما يريده ولما يمنحه إياه النصُّ من إشارات وعوالم يتمّ فكّ رموزها.
عبدالله الغذامي وإقصاء النص
يعتبر الغذامي الوريث الشرعي لجماعة برننجهام التي جاءت بالنقد الثقافي من غير أن ينتمي إليها، هذه الجماعة دعت إلى إمكانية تطبيق النقد الثقافي على العمل الأدبي، ولكن دعوتها توقفت عند مفهوم الدعوة فقط، حتى جاء ناقد فذّ يحمل ثقافة واسعة أصيلة ليعيد تفكيك هذه النظرية الجديدة في النقد الثقافي، ويقوم بإسقاطها عمليّا على العمل الأدبي، حيث قام بما لم تقم به جماعة برننجهام الذين اعتقدوا بإمكانية حدوث مثل هكذا تطبيق، وهذا الناقد هو الدكتور عبدالله الغذامي، حيث تقوم فلسفة النقد الثقافي على تكريس دور القارئ في عملية التلقي إلى إعادة النص إليه، من خلال انتزاع اللغة والبلاغة والنظر إليهما من خلال أنساقها وذلك في مقولته الشهيرة «لقد آن الأون لكي نبحث عن العيوب النسقية للشخصية العربية المتشعرنة والتي يحملها ديوان العرب، وتتجلى في سلوكنا الاجتماعي والثقافي بعامة، لقد أدى النقد الأدبي دورا هاما في الوقوف على جماليات النصوص، وفي تدريبنا على تذوق الجمالي وتقبل الجميل النصوصي، ولكن النقد الأدبي مع هذا وعلى الرغم من هذا أو بسببه، أوقع نفسه وأوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقية المختبئة من تحت عباءة الجمالي». وما حديثه في كتابه النقد الثقافي عن جمالية النصوص ودراستها من خلال أنساقها بعيدا عن المؤلف إلا دلالة واضحة أنّ الرجل يؤمن بفلسفة النص، والنص وحده دون مؤلفه، حيث اتخذ الدكتور عبدالله الغذامي منهج إقصاء المؤلف منذ كتابه الخطيئة والتكفير والذي صرفه إلى تحليل نظريات النقد الحديثة كالبنيوية والسيميولوجية والتشريحية، ثم قام بتطبيقات عملية مثيرة لهذه النظريات في قراءة النص قراءة تستند إلى الشفرات الدلالية، وتفكيك وحدات النص وتشريحها ثم إعادة تركيبها، وفي كل ذلك كان احتكامه إلى النص بعيدا عن مؤلفه، حيث قام بتحليل وتفكيك وتشريح هذه النصوص ثم إعادتها سيرتها الأولى، في أسلوب علمي مثير ورؤية عالم خبر علومه بدقة وثقة عالية بالنفس، استند في هذا الكتاب على أسس مناهج النظرية النقدية الغربية، وأُخر من التراث البلاغي والنقدي العربي، في عملية مقاربة دقيقة ورائعة، وربط بين التراث والحداثة وما بعد الحداثة وما كان تحليله إلى شعر حمزة شحاتة، من خلال استحداث زوايا جديدة للدخول إلى قراءة النص من خلال عملية التلقي، ثم قاربه مع نصوص نثرية، ومن بعد قام بدراسة الأثر الذي يصل إلى القارئ، ثم وصف الوصول إليه بأنه فعالية إبداعية للقارئ الناقد، وفي هذه القراءة بالذات التقى بكل من رولان بارث في مفهوم إقصاء المؤلف وجاك دريدا في إعطاء القارئ الدور الأول في قراءة النص، ومما يحسب للغذامي أنّه ابتكر في هذا الكتاب منهجًا يدخل في عمق النص، وهو منهج جديد في نظرية وعملية التلقي اختلف اختلافا كليا عما كان سائدًا في الدراسات البلاغية والأدبية، حيث أرسى هذا المنهج قراءة للنص وفق آفاق جديدة، وظيفتها دراسة وتحليل العلاقات بين عناصر النص من خلال تتبع الأثر. أمّا كتابه الثاني ثقافة الأسئلة فهو كتاب يتضمن مقالات نقدية وتشريحية وتفكيكية لبعض النصوص والأشعار المختارة، وطرح أسئلة تحت كل مقال، والجزء الأخير عبارة عن مراسلات متبادلة بين الدكتور وبعض النقاد وإجابة عن بعض من أسئلة القرّاء، ومن النصوص التي قام بتحليلها وتشريحها بعد أن أقصى مؤلفها قصيدتان لمحمود درويش مثلا، حيث دخل إلى بناء هاتين القصيدتين وأسقط عليهما مفهومه للتشريح وقام بعمل جداول توضيحية لإعطاء فكرة عن كل جملة بين الحالة اللغوية والصياغية والبلاغية وما يقابلها من نقيض، مبررا ذلك بقوله «أقول هذا قاصدا ربط موضوعاتي ببعضها حيث نلامس ما أشرنا إليه من قبل من كون قصيدة محمود درويش عابرون في كلام عابر تتحرك باتجاه الوظيفة التنبيهي في اللغة»، ثم يعمد إلى ربطها دلاليا بمقولة ابن سينا في وجهها الأول حيث تأثيرها الواقع في النفس كما يراه من خلال النص بقوله «في النفس أمرا من الأمور تعد به نحو فعل أو انفعال»، بهذه الكيفية يتعامل الغذامي مع النص، أنّه لا يكتفي بتحليله أو حتى تشريحيه، بل يعمد إلى ربطه دلاليا في رؤية نقدية فلسفية تراثية، وهكذا يقصي المؤلف وظروفه تماما ويفسر النص، وفق دلالاته وسياقاته اللغوية ومن خلال بُناهُ المكوّنة له ثم يربطها بالمفهوم التراثي ربطا مقطعيّا وكأنّه يستخدم تقنية التقطيع السينمائي، في كل جملة من جمل القصيدة، وبهذا أقصى المؤلف ودخل إلى النص عبر سياقاته اللغوية وما يقابلها من نقائض؛ وبهذا أعاد مفهوم الاستنباط لدى جاك دريدا ليعمل على فك شيفرات النص وتركيبه وفقاً لما يريده ولما يمنحه إياه النصُّ من إشارات وعوالم يتمّ فكّ رموزها ودلالاتها.
الخاتمة
يتحوّل الناقد في كتابه هذا وكأنّه في حالة من التفاعل المستمر مع النصوص، إذ يمتزج لديه الإبداع بالقلق النقدي والرغبة الدائمة في تحسين ما كتبه، فالناقد، بوصفه مبدعاً، لا يرى النصوص كنتاج نهائي مكتمل، بل كمشروع مستمر للنقد والتجديد، فالاقتناع بالكمال في النقد يُعد أحد أكبر التحديات التي تواجه النقاد، إذ إنَّ الركون إلى نتائج التحليل والرضا الكامل عن النص يعوق النمو الإبداعي ويحد من قدرة الكاتب على التطور، وهنا التقى كل من الغذامي وجاك دريدا بأنهما كلمّا توصلا إلى معنى يسارعان إلى نقضه ولا يثبتان على معنى بعينه، ولا يقفان أو يصلان إلى مركز أو مسار إلا ليبعداه عن مكانه وينأيان به بعيدا عن خطه ويحوّلانه من دائرة إلى أخرى، وكأنّهما في انهماك دائم عن النأي عن معنى ما، وترك الأشياء بعيدة عن ذواتها متشظية بلا هوية حتى تتحوّل تدريجيا إلى تراكمات من التحولات ولا حدود نهائية، يأخذان من فلسفة بارث موت المؤلف سياقا أو منهجاً تحليليا يمكنّهما من التوصل إلى عوالم أبعد وأماكن غير مكتشفة بالنص، وكأنّهما في بحث دؤوب عن معانٍ متجددة من خلال إحالات النص، وكأنهما في حالة من القلق الإبداعي ليكون محرضا لهما على التجريب في مواصلة التفكير في طرق وأساليب جديدة للوصول إلى مجاهيل النص وكشفها وإضاءتها، حيث التقى النقاد الثلاثة في أن التحليل النقدي لا يقف عند نقطة بعينها، بل هو عملية تجدد دائمة عبر كشف وتقييم النصوص.
نهاية عصر الحداثة
بنهاية البنيوية انتهى عصر الحداثة فلسفة ونقدا، هذه المدرسة وأقصد البنيوية التي أخذت من طروحات عالم اللسانيات السويسري سوسير والشكلانيين الروس منطلقا لها وفيما بعد الناقد الذي تمرد على البنيوية التي كان من أنصارها رولان بارث، نراها قد أغلقت النص على أيّة عوامل خارجية واكتفت بتحليل الناقد ورؤيته للنص فقط من خلال ألفاظه ودلالاتها، حيث تبلورت فكرتها بالتزامن مع ما طرحه الشكلانيون الروس الذي دعوا إلى استبعاد دور المؤلف في العمل، حتى جاءت حركات ما بعد الحداثة مثل التفكيك لتفتح النص أمام التأويلات التي يتوصل إليها الناقد التفكيكي والقارئ، أي تحوّلت السلطة من سلطة النص إلى سلطة القارئ، ومن إغلاق النصوص إلى انفتاحها، وهذه تعتبر نبوءة أو قراءة متقدمة لما حدث بعد هذه الخطوة وأقصد من وصولنا إلى النقد الثقافي، والكيفية التي تعمل بها آلية النقد الثقافي، والتي يعتبر الدكتور الغذامي رائدا حقيقيا لهذه المدرسة ووارثا شرعيا لمدرسة برننجهام، وهو أول من أسقط مفهوم النقد الثقافي عمليا وتطبيقيا على الأدب، حيث التقى الثلاثة الكبار على: إقصاء المؤلف وإعطاء سلطة مطلقة للقارئ وفتح النص على التأويلات الخارجية.
موت المؤلف حسب رولان بارث
موت المؤلف الذي جاء كتطبيق عملي لنظرية المنهج البنيوي التي ظهرت في القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث جاء الناقد الأدبي الفرنسي رولان بارث ودعا إلى موت المؤلف تمامًا، عبر مقال له عام 1968م، وذلك في كتابه «درس السيميولوجيا»، دعوة بارت جاءت بعد أن بدأ عصر ما قبل الحداثة ومن خلال الانتقادات التي وجهت للبنيوية والمأزق الذي وصلت إليه، حيث دعا بارث إلى موت المؤلف ليفتح الباب إلى تحديث النص في كل مرة، مما يعيد للقارئ دوره في تشكيل رؤيته في قراءة النص، حيث يتحوّل القارئ إلى الفضاء الذي يطلق الاقتباسات التي يتكون منها النص، فوحدة النص ليست في أصله بل في الجهة التي يتوجه إليها وهذا يعني الجمهور، تميز بارث برؤية نقدية ثاقبة وثقافة دقيقة واسعة، حيث إن دعوته إلى موت المؤلف في النص الأدبي كانت جادة وليست طارئة أو عبثيةً، في محاول منه إلى نقل الوعي الأوروبي من التقليد إلى المعرفة والبحث، وحظيت دعوته هذه باهتمام واسع في الوسط الأدبي والثقافي، جاءت هذه الدعوة كثورة ضد النقد التقليدي، الذي اعتبر العمل الأدبي يقوم على ثلاثة عناصر وهي المؤلف والنص والمتلقي، وأية دراسة للعمل الأدبي يجب أن تتضمن دراسة حياة الأديب والسبب وراء تأليف هذا العمل، وهو ما لم تسلم به البنيوية، حيث دعت إلى موته، ويسند تأويل وتحليل العمل الأدبي إلى اللغة من حيث الألفاظ والتراكيب التي استخدمها المؤلف للتعبير عن أفكاره وآرائه، كان رولان بارث العراب الحقيقي لهذه الدعوة، والتي بنى جاك دريدا نظريته التفكيك على أساسها مع التوسع والتطور الذي أحدثه فيها.
إقصاء المؤلف
حسب رؤية دريدا
جاءت هذه النظرية كرد فعل عنيف ضد البنيوية التي أبعدت أي دور للقارئ تماما في قراءته للنص، يرتكز التفكيك على اختراق المجهول من خلال الولوج إلى خفايا النص باعتباره أداة نقدية أو فضاءٍ فكريٍ مستجدٍ مختلفٍ في الأسلوب والرؤية الموجودة في النص المقروء، وهذا يحيلنا إلى اللجوء فقط إلى النص وحده، فأيُّ إشكالٍ أو تفسير أو لبس يعترضنا يجب العودة به إلى النص وحده لتفسير هذا اللبس، وليس إلى صاحب النص، وبذلك نتخلصُ من صاحبِ النصِ ومن شرحهِ وأعذارهِ وظروفهِ والتي سيقوم النصُ وحده بشرحِها لنا دونَ صاحبِهِ. بمعنى أكثرَ دقةٍ نبدأ بملاحظةِ التناقضاتِ والطرقِ المسدودة في النص دون مساعدة خارجية،
يجب أن نبتعد عن القراءة التقليدية والتأريخية وما تتضمنه من تقسيم للعصور لأنّها تبحثُ في مؤثراتٍ غير لغويّةٍ ممّا يؤدي إلى إبعاد الباحث عن الاختلافات اللغوية في النصوص؛ حسب هذه الرؤية أنّ كل شيء يوجد في المغايرة والتأجيل وسلسلة الاختلافات، أي أنّ النصَ يخلقُ واقعَه ويفرضُ نفسه ويُكوِّن مجاله وعوالمه وصوره وجمالياته من خلال اللغة المكتوبة؛ وبالتالي نقوم بتفكيك آلياتهِ من داخلهِ عبر وسيلة واحدة هي اللغة المكتوبة فقط غير مسندة إلى المؤلف أو الظروف الخارجية التي أحاطتْ بالنصِ، كلُّ هذا ممكن تعويضه والاستغناء عنه من خلال طاقة اللغة المضمنة في النص. القراءة التفكيكية ليست ما يُفهم بشكل بسيط من النص بل هي أشياء لم تُذكر في ألفاظ النص المكتوبة، وهذا يعني أنّ النصّ يحتوي على فراغات، فالنص في حقيقته مكّونٌ من متاهات وهذا ما يُبنى عليه الغياب والنسيان، وبذلك فالتفكيك يعطي السلطة للقارئ وليس للمؤلف ويركز بشكل أساسي على الكتابة بمنح القارئ سلطة القراءة والاستنباط ليكون أكثر قدرة على فك شيفرات النص وتركيبه وفقاً لما يريده ولما يمنحه إياه النصُّ من إشارات وعوالم يتمّ فكّ رموزها.
عبدالله الغذامي وإقصاء النص
يعتبر الغذامي الوريث الشرعي لجماعة برننجهام التي جاءت بالنقد الثقافي من غير أن ينتمي إليها، هذه الجماعة دعت إلى إمكانية تطبيق النقد الثقافي على العمل الأدبي، ولكن دعوتها توقفت عند مفهوم الدعوة فقط، حتى جاء ناقد فذّ يحمل ثقافة واسعة أصيلة ليعيد تفكيك هذه النظرية الجديدة في النقد الثقافي، ويقوم بإسقاطها عمليّا على العمل الأدبي، حيث قام بما لم تقم به جماعة برننجهام الذين اعتقدوا بإمكانية حدوث مثل هكذا تطبيق، وهذا الناقد هو الدكتور عبدالله الغذامي، حيث تقوم فلسفة النقد الثقافي على تكريس دور القارئ في عملية التلقي إلى إعادة النص إليه، من خلال انتزاع اللغة والبلاغة والنظر إليهما من خلال أنساقها وذلك في مقولته الشهيرة «لقد آن الأون لكي نبحث عن العيوب النسقية للشخصية العربية المتشعرنة والتي يحملها ديوان العرب، وتتجلى في سلوكنا الاجتماعي والثقافي بعامة، لقد أدى النقد الأدبي دورا هاما في الوقوف على جماليات النصوص، وفي تدريبنا على تذوق الجمالي وتقبل الجميل النصوصي، ولكن النقد الأدبي مع هذا وعلى الرغم من هذا أو بسببه، أوقع نفسه وأوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقية المختبئة من تحت عباءة الجمالي». وما حديثه في كتابه النقد الثقافي عن جمالية النصوص ودراستها من خلال أنساقها بعيدا عن المؤلف إلا دلالة واضحة أنّ الرجل يؤمن بفلسفة النص، والنص وحده دون مؤلفه، حيث اتخذ الدكتور عبدالله الغذامي منهج إقصاء المؤلف منذ كتابه الخطيئة والتكفير والذي صرفه إلى تحليل نظريات النقد الحديثة كالبنيوية والسيميولوجية والتشريحية، ثم قام بتطبيقات عملية مثيرة لهذه النظريات في قراءة النص قراءة تستند إلى الشفرات الدلالية، وتفكيك وحدات النص وتشريحها ثم إعادة تركيبها، وفي كل ذلك كان احتكامه إلى النص بعيدا عن مؤلفه، حيث قام بتحليل وتفكيك وتشريح هذه النصوص ثم إعادتها سيرتها الأولى، في أسلوب علمي مثير ورؤية عالم خبر علومه بدقة وثقة عالية بالنفس، استند في هذا الكتاب على أسس مناهج النظرية النقدية الغربية، وأُخر من التراث البلاغي والنقدي العربي، في عملية مقاربة دقيقة ورائعة، وربط بين التراث والحداثة وما بعد الحداثة وما كان تحليله إلى شعر حمزة شحاتة، من خلال استحداث زوايا جديدة للدخول إلى قراءة النص من خلال عملية التلقي، ثم قاربه مع نصوص نثرية، ومن بعد قام بدراسة الأثر الذي يصل إلى القارئ، ثم وصف الوصول إليه بأنه فعالية إبداعية للقارئ الناقد، وفي هذه القراءة بالذات التقى بكل من رولان بارث في مفهوم إقصاء المؤلف وجاك دريدا في إعطاء القارئ الدور الأول في قراءة النص، ومما يحسب للغذامي أنّه ابتكر في هذا الكتاب منهجًا يدخل في عمق النص، وهو منهج جديد في نظرية وعملية التلقي اختلف اختلافا كليا عما كان سائدًا في الدراسات البلاغية والأدبية، حيث أرسى هذا المنهج قراءة للنص وفق آفاق جديدة، وظيفتها دراسة وتحليل العلاقات بين عناصر النص من خلال تتبع الأثر. أمّا كتابه الثاني ثقافة الأسئلة فهو كتاب يتضمن مقالات نقدية وتشريحية وتفكيكية لبعض النصوص والأشعار المختارة، وطرح أسئلة تحت كل مقال، والجزء الأخير عبارة عن مراسلات متبادلة بين الدكتور وبعض النقاد وإجابة عن بعض من أسئلة القرّاء، ومن النصوص التي قام بتحليلها وتشريحها بعد أن أقصى مؤلفها قصيدتان لمحمود درويش مثلا، حيث دخل إلى بناء هاتين القصيدتين وأسقط عليهما مفهومه للتشريح وقام بعمل جداول توضيحية لإعطاء فكرة عن كل جملة بين الحالة اللغوية والصياغية والبلاغية وما يقابلها من نقيض، مبررا ذلك بقوله «أقول هذا قاصدا ربط موضوعاتي ببعضها حيث نلامس ما أشرنا إليه من قبل من كون قصيدة محمود درويش عابرون في كلام عابر تتحرك باتجاه الوظيفة التنبيهي في اللغة»، ثم يعمد إلى ربطها دلاليا بمقولة ابن سينا في وجهها الأول حيث تأثيرها الواقع في النفس كما يراه من خلال النص بقوله «في النفس أمرا من الأمور تعد به نحو فعل أو انفعال»، بهذه الكيفية يتعامل الغذامي مع النص، أنّه لا يكتفي بتحليله أو حتى تشريحيه، بل يعمد إلى ربطه دلاليا في رؤية نقدية فلسفية تراثية، وهكذا يقصي المؤلف وظروفه تماما ويفسر النص، وفق دلالاته وسياقاته اللغوية ومن خلال بُناهُ المكوّنة له ثم يربطها بالمفهوم التراثي ربطا مقطعيّا وكأنّه يستخدم تقنية التقطيع السينمائي، في كل جملة من جمل القصيدة، وبهذا أقصى المؤلف ودخل إلى النص عبر سياقاته اللغوية وما يقابلها من نقائض؛ وبهذا أعاد مفهوم الاستنباط لدى جاك دريدا ليعمل على فك شيفرات النص وتركيبه وفقاً لما يريده ولما يمنحه إياه النصُّ من إشارات وعوالم يتمّ فكّ رموزها ودلالاتها.
الخاتمة
يتحوّل الناقد في كتابه هذا وكأنّه في حالة من التفاعل المستمر مع النصوص، إذ يمتزج لديه الإبداع بالقلق النقدي والرغبة الدائمة في تحسين ما كتبه، فالناقد، بوصفه مبدعاً، لا يرى النصوص كنتاج نهائي مكتمل، بل كمشروع مستمر للنقد والتجديد، فالاقتناع بالكمال في النقد يُعد أحد أكبر التحديات التي تواجه النقاد، إذ إنَّ الركون إلى نتائج التحليل والرضا الكامل عن النص يعوق النمو الإبداعي ويحد من قدرة الكاتب على التطور، وهنا التقى كل من الغذامي وجاك دريدا بأنهما كلمّا توصلا إلى معنى يسارعان إلى نقضه ولا يثبتان على معنى بعينه، ولا يقفان أو يصلان إلى مركز أو مسار إلا ليبعداه عن مكانه وينأيان به بعيدا عن خطه ويحوّلانه من دائرة إلى أخرى، وكأنّهما في انهماك دائم عن النأي عن معنى ما، وترك الأشياء بعيدة عن ذواتها متشظية بلا هوية حتى تتحوّل تدريجيا إلى تراكمات من التحولات ولا حدود نهائية، يأخذان من فلسفة بارث موت المؤلف سياقا أو منهجاً تحليليا يمكنّهما من التوصل إلى عوالم أبعد وأماكن غير مكتشفة بالنص، وكأنّهما في بحث دؤوب عن معانٍ متجددة من خلال إحالات النص، وكأنهما في حالة من القلق الإبداعي ليكون محرضا لهما على التجريب في مواصلة التفكير في طرق وأساليب جديدة للوصول إلى مجاهيل النص وكشفها وإضاءتها، حيث التقى النقاد الثلاثة في أن التحليل النقدي لا يقف عند نقطة بعينها، بل هو عملية تجدد دائمة عبر كشف وتقييم النصوص.